فُجِع جنوب تركيا وشمال سوريا بزلزال هائل -يُصنف بأنه من أقوى عشرين زلزالًا مرت بالأرض على مدار التاريخ-، وتبعه مئات الهزات الارتدادية -المتفاوتة في الشدة- حتى يومنا هذا.

وتسبب ذلك في مقتل الآلاف، وإصابة الآلاف، وتشرد الملايين في جو شديد البرودة وتساقط للأمطار والثلوج في بعض المناطق.

ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون

1- إن هذه الفجيعة لم تفجع أهل تلك البلاد وحدهم؛ بل فجعت كل مسلم يستشعر رابطة الأخوة الإيمانية؛ فالمسلمون يتألم بعضهم لبعض كالجسد الواحد؛ عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»1(1) [رواه مسلم (2586)]..

2- المسلم يعتبر بكل ما يدور حوله، ويتألم لأحوال الناس -حتى لو كانوا كفارًا-، وقد بكى أبو الدرداء رضي الله عنـه تأثرًا لما آل إليه حال الكفار رغم أنه يوم فرح بنصر المسلمين وعزة الإسلام؛ عن جبير بن نفير قال: لما فُتحت قُبْرُص فُرِّق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض ورأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي. فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير؛ ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى2(2) [رواه أبو نعيم في الحلية (1/216) من طريق الإمام أحمد بسند صحيح]..

3- والزلازل من أكبر ما يمر بالبشرية من محن؛ مما يستدعى من كل عاقل إعمال الفكر والنظر؛ ليعلم مقدار النعم العظيمة الثابتة التي لا نكاد نشعر بها إلا إذا رأينا نقصها، أو زوالها، أو زوال شيء منها؛ قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي ‌جَعَلَ ‌لَكُمُ ‌الْأَرْضَ ‌قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * ‌أَأَمِنْتُمْ ‌مَنْ ‌فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾.

وقال العلامة ابن القيم -متحدثًا عن الأرض-:

ثم تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة لتكون مهادًا ومستقرًّا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الحيوان والناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس لراحاتهم والنوم لهدوئهم والتمكن من أعمالهم، ولو كانت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارًا ولا هدوا، ولا ثبت لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة ولا حراثة ولا مصلحة، وكيف كانوا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم؟! واعتبر ذلك بما يصيبهم من الزلازل على قلة مكثها كيف تصيرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها…

إلى أن قال: أذن الله سبحانه لها في الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام؛ فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إليه، والندم، كما قال بعض السلف -وقد زلزلت الأرض-: إن ربكم يستعتبكم. وقال عمر بن الخطاب -وقد زلزلت المدينة فخطبهم ووعظهم، وقال-: لئن عادت لا أساكنكم فيها3(3) [مفتاح دار السعادة (1/217-221)]..

وأثر عمر رضي الله عنـه المذكور روته صفية ابنة أبي عبيد، قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر، فوافق ذلك عبد الله بن عمر وهو يصلي فلم يدر. قال: فخطب عمر للناس، فقال أحدهما: لقد عجلتم، قال: ولا أعلمه إلا قال: لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم4(4) [رواه ابن أبي شيبة (8335) والبيهقي (6377) وغيرهما بسند صحيح]..

وفيه مشروعية مفارقة الأراضي التي تتكرر فيها الزلازل ما لم يُظهر أهلها التوبة، والخضوع لأوامر الله عزَّ وجلَّ الشرعية، والله أعلم.

4- المصلحون في كل زمان ومكان أمان من الهلاك العام؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.

يقول ابن كثير: أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾5(5) [تفسير القرآن العظيم (4/361)]..

لكن إذا كثر الخبث -والعياذ بالله- فلا يكون وجود الصالحين مانعًا من العقوبة العامة؛ عن زينب بنت جحش رضي الله عنـها أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم دخل عليها فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج مثل هذه» وحلَّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم؛ إذا كَثُر الـخَبَث»6(6) [رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)]..

وقد فرَّق بعضهم بين الصالحين والمصلحين، والصواب أن هذا فرق لغوي لا أكثر، والحقيقة الشرعية تقتضي أنه لا فرق بينهما؛ فالصالحون لا يكونون صالحين إلا إذا كانوا مصلحين، فمن مقتضى الصلاح: الامتثال لأوامر الله عزَّ وجلَّ.. وذلك يقتضي أنه يجب على الصالح في نفسه أن يكون مصلحًا لغيره قدر طاقته وعلمه.

5- والصالحون -ولله الحمد- يُبعثون على نياتهم وأعمالهم الصالحة إذا نزل بالناس فاجعة ونحوها؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم»7(7) [رواه البخاري (7108)]..

يقول الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: هذا الحديث يبين حديث زينب بنت جحش حيث قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم؛ إذا كَثُر الـخَبَث». فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر والإعلان بالمعاصي8(8) [فتح الباري (13/60)]..

من يموت تحت الهدم من المسلمين فهو شهيد؛ عن أبي هريرة رضي الله عنـه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغرق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»9(9) [رواه البخاري (2829) ومسلم (1914)]..

قال النووي: وصاحب الهدم من يموت تحته10(10) [شرح مسلم (12/63)]..

لكنه يُغسَّل -إن أمكن وإلَّا يُيَمَّم- ويُكفَّن ويُصلَّى عليه، وليس كشهيد المعركة.

6- الزلازل إذا نزلت بأمة الإسلام فهي من عذابها في الدنيا، وهي الأمة المرحومة برفع العذاب عنها في الآخرة؛ عن أبي موسى رضي الله عنـه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمتى هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل»11(11) [رواه أبو داود (4280) وغيره، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في الصحيحة (959)].. ويُكفِّر الله عزَّ وجلَّ بالزلازل كثيرًا من ذنوب ومعاصي العباد مثلها مثل سائر ما ينزل بالمسلمين من البلايا..

7- تُحدث الزلازل في نفوس الناس -حتى الكفار منهم- الخوف من الله تعالى، وهذا مما لا يختلف عليه اثنان؛ فهو أمر واقع، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿… وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾.

وأما أنها تُورث إنابة وإقلاعًا عن المعاصي وتضرعًا لله عزَّ وجلَّ وندمًا فهذا لا يكون إلا لعباد الله الصالحين، وأما غيرهم فما إن يستفيقوا من النازلة التي تنزل بهم حتى نرى الدنيا وشهواتها ما زالت تتلاعب بالناس كأن لم يكن بهم شيء ولا نزلت بهم مصيبة نجوا منها قريبًا، وما زال الكفر -الأكبر والأصغر- متملكًا لقلوب الناس وألسنتهم وجوارحهم، وما زالت راية المعاصي خفاقة رغم الآيات المخوفة التي نراها في كل حين..

قال الله تعالى: ﴿‌وَإِذَا ‌مَسَّ ‌الْإِنْسَانَ ‌الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

8- كثرة الزلازل من علامات الساعة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنـه قال: قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض»12(12) [رواه البخاري (1036)]..

وقد استظهر الحافظ ابن حجر أن المقصود بكثرة الزلازل استمرارها وعمومها في كافة الأرض؛ قال: قوله: «وتكثر الزلازل». قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولها ودوامها13(13) [فتح الباري (13/87)]..

ولم يتبين لنا شمول الزلازل ودوامها إلى يومنا هذا، وقد سمعنا عن مئات الهزات الارتدادية التي أعقبت زلزال تركيا، ولا نعلم هل يستمر ذلك أم يتوقف، اللهم لطفك بالمسلمين..

9- أظهرت عمليات الإنقاذ شهامة كبيرة من المنقذين، ولجوء إلى الله عزَّ وجلَّ بالتكبير ودوام الذكر، وفرحًا بإنقاذ الأرواح… مما يثلج صدور المؤمنين؛ فرغم الشدائد والصعوبات وشدة البرد فقد أظهر المنقذون تفانيًا كبيرًا حتى أصيب كثير منهم، ومات بعضهم -رحمهم الله تعالى- نتيجة تساقط الهدم عليهم، ومع ذلك لم نجد منهم تراجعًا أو إحجامًا؛ فجزاهم الله خيرًا وبارك الله تعالى جهودهم وأخلف عليهم خير الخلف.

10- ظهرت مؤخرًا استنتاجات وتحاليل لبعض الصحفيين ونحوهم مفادها: أن زلزال تركيا وسوريا متعمد بتكنولوجيا أمريكية متقدمة؛ قامت به أمريكا خصيصًا لأهداف لها في المنطقة؛ منها القضاء على مستقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يخوض انتخابات حاسمة هذه السنة..

واستدلوا على ذلك بإغلاق تسع سفارات أوروبية أبوابها قبيل الزلزال بأيام، وتحذير رعاياها، وكذا استدلوا بتحذيرات أطلقها وزير جيش اليهود قبل عامين من زلزال كبير يجتاح المنطقة، وتحذير أطلقه عالم بعلم طبقات الأرض قبل أيام من هولندا..

وكل ذلك تخرص لا تقوم له قائمة عند التمحيص، وقد تكون إشاعته مقصودة ليعيش المسلمون في جو من الخوف الكبير من أمريكا التي تمتلك إهلاك الناس بزلزال بعد أن تحطمت في نفوسهم قدرة أمريكا على السيطرة الحربية على الشعوب؛ بهزيمتها على يد الشعب الأفغاني المسلم.

11- وفي الختام؛ ندعوا عموم المسلمين إلى التكاتف، وتقديم المساعدات للشعبين السوري والتركي عبر الجهات الموثوقة -كلٌّ بقدر استطاعته، حتى النساء يتصدقن من حليهن-؛ لأن الأنظمة والمجتمع الدولي سوف يعطون المساعدات المخصصة لسوريا للمجرم بشار الأسد؛ ليستفيد هو وزبانيته منها، ولن تصل للمتضررين -إلا ما شاء الله-.

نسأل الله تعالى أن يرفع البلاء عنَّا وعن إخواننا المنكوبين، إنه سميع قريب.

الهوامش

(1) [رواه مسلم (2586)].

(2) [رواه أبو نعيم في الحلية (1/216) من طريق الإمام أحمد بسند صحيح].

(3) [مفتاح دار السعادة (1/217-221)].

(4) [رواه ابن أبي شيبة (8335) والبيهقي (6377) وغيرهما بسند صحيح].

(5) [تفسير القرآن العظيم (4/361)].

(6) [رواه البخاري (3346) ومسلم (2880)].

(7) [رواه البخاري (7108)].

(8) [فتح الباري (13/60)].

(9) [رواه البخاري (2829) ومسلم (1914)].

(10) [شرح مسلم (12/63)].

(11) [رواه أبو داود (4280) وغيره، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والألباني في الصحيحة (959)].

(12) [رواه البخاري (1036)].

(13) [فتح الباري (13/87)].

اقرأ أيضا

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها

التفكر في آيات الله المشهودة في الآفاق

التعليقات غير متاحة