الرغبة في التيسير على الناس، وتخفيف الضغوط عليهم، جعلت البعض يتوسع كثيرا في هذا الأمر، حتى آل الأمر ببعضهم إلى ترك بعض الأدلة الصحيحة والأخذ بأدلة مرجوحة أو أقوال مهجورة.
موازين الناس في التيسير والوسطية
تتسم هذه الموازين إما بصفة الجهل، أو صفة الهوى والظلم ؛ هاتان الصفتان اللتان هما من صفات الإنسان المعرض عن الاهتداء بنور الله عز وجل ، ووحيه المبرء من الجهل والهوى؛ قال الله عز وجل عن الإنسان. (كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: 72]، ولا وسيلة له للتخلص من الظلم والجهل إلا بالعلم بوحي الله عز وجل والانقياد له. وكلما بعد الإنسان عن هذا الوحي المبارك اختلت موازينه وحكمه على الأشياء؛ ومن ذلك نظرته وفهمه لمسألة التيسير والتشديد والوسطية .
ذكرنا في الجزء الأول [موازين الناس في التيسير والوسطية (1)] أن دعاة التيسير المعاصرين ثلاث فئات، ويجمع الفئات الثلاث على اختلاف توجهاتهم التوسع في مسألة التيسير بحجة التيسير والتسهيل على الناس، ولا سيما في واقعنا المعاصر الذي اشتدت فيه الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وذكرنا أهم منطلقاتهم ومآخذهم في التيسير والتي نكملها بعون الله عز وجل في هذا المقال.
رابعا: التوسع في تطبيقات القواعد الشرعية وإنزالها على وقائع ونوازل دون اكتمال الضوابط الشرعية.
اعتمادهم في ميزان التيسير على قواعد شرعية، هي في أصلها صحيحة وثابتة في الشرع، لكنهم يتوسعون في تطبيقاتها، وإنزالها على وقائع ونوازل دون أن تكتمل فيها ضوابطها الشرعية.
ومن أمثلة هذه القواعد: قاعدة الضرورة الشرعية، وقاعدة عموم البلوى، وقاعدة المصالح المرسلة، وقاعدة الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والأشخاص.
وقد حدد أهل العلم تعاريف دقيقة لهذه القواعد، وذكروا ضوابطها ، واشترطوا توافرها حتى يكون الأخذ بها موافق للشريعة.
فقالوا مثلا عن الضرورة بأنها: (حالة تطرأ على إنسان أو جماعة فيها خطر ومشقة شديدة يخشى فيها التلف لأحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة لحمايتها والمحافظة عليها: «الدين، النفس، العقل، العرض، المال» ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام، أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعا للضرر في غالب ظنه ضمن قيود الشرع)1(1) انظر: نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي ص67، 68..
ودعاة التيسير تساهلوا في ضوابط الضرورة، حتى أدخلوا فيها ما ليس منها؛ إما عن جهل منهم بهذه الضوابط، أو عن هوی وشهوة؛ إذ ليس كل من ادعى وجود الضرورة يسلم له ادعاؤه أو يباح فعله، يقول الشاطبي – رحمه الله تعالی –: (وربما استجاز بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عن ذلك بما يوافق الغرض)2(2) الموافقات 4/145..
ومن هذه الضوابط الشرعية التي قررها أهل العلم باستقراء الكتاب والسنة ما يلي:
1- أن تكون الضرورة قائمة ملحة لا منتظرة كخوف الهلاك لو لم يأكل من الميتة.
2- أن لا يكون لدفع الضرر وسيلة أخرى من المباحات إلا المخالفة.
3- أن تكون الضرورة ملجئة؛ كما لو أكره بالقتل أو التعذيب على أكل الميتة، ولو لم يكن محتاجا لأكلها .
4- أن لا يقع المضطر بسبب الضرورية في مخالفة لمبادئ الشريعة؛ كأن يرتد عن دينه باطمئنان قلبه، أو يعتدي على نفس معصومة بالقتل أو الزنا، أو بنشر الكفر ويدعو إليه.
5- أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة على الحد الأدنى الذي يدفع به الضرر، وهذا معنى قولهم : «الضرورة تقدر بقدرها».
وكذلك الحال في ضوابط عموم البلوى، والمصلحة المرسلة، وتغيير الفتوى بتغير الحال والزمان والمكان ؛ حيث ضبطها أهل العلم بضوابطها . ولكن دعاة التيسير تساهلوا في هذه الضوابط والأخذ بها تيسيرا على الناس زعموا.
خامسا: نظرتهم إلى مفهوم «الوسطية والاعتدال» بأنه يقابل الحزم والقوة في تطبيق أحكام الشرع عقيدة وأحكاما.
وعلى هذا فمعيار الوسطية عندهم يعني المرونة والتكيف مع ضغوط المجتمع، ومسايرة الواقع، فلابد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس عنه. وقد انطلق بعض دعاة الوسطية من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بأحكام الدين وواجباته وسننه، وأخذها بقوة كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن تطبيقه على النفس ودعوة الناس إليه هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام، بل من بعض الدعاة من يصم بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير. ومن آثار هذا الميزان المنحرف للوسطية: ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول، أو الحلول الوسط من قبل بعض المشتغلين بالدعوة والإصلاح، ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم الصلبة المتصلبة من الكفار وأذنابهم، وأن لا يعلنوا العداوة والبراءة من كفرهم وشركهم؛ لأن هذه المواقف لم تجر على الدعوة إلا الضرر والقضاء على أهلها.
المحددات الرئيسية لوصف الاعتدال في منظور الإدارة الأمريكية
وقد ركز الكفار – وبخاصة أمريكا – على هذا الصنف من المسلمين وتوظيفهم في محاربة التيارات التي تراها متشددة؛ لأنها تعلن العداوة والبراءة منها، وترفع راية الجهاد ضدها، ومن أهم المؤسسات المهتمة بهذا الشأن: مؤسسة راند الأمريكية؛ حيث أصدرت تقريرها الخبيث المشهور في مواجهة الأصوليين الإسلاميين وضربهم بمن تصفهم بالمعتدلين والوسطيين، حيث يشير التقرير إلى أن نقطة البدء الرئيسية التي يجب على الولايات المتحدة العناية بها هي بناء شبكات من المسلمين المعتدلين.
ويضع التقرير أحد عشر سؤالا تشكل في مجملها المحددات الرئيسية لوصف الاعتدال المقترح أن تتبناه الإدارة الأمريكية. وهذه الأسئلة وردت بالتقرير .. وهي:
1 – هل يتقبل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن، فهل مارسه أو تقبله في الماضي؟
2 – هل تؤيد الديمقراطية؟ وإن كان كذلك؛ فهل يتم تعريف الديمقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟
3 – هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دوليا؟
4- هل هناك أية استثناءات في ذلك (مثال: ما يتعلق بحرية الدين)؟
5 – هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟
6 – هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟
7 – هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟
وهل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريع علماني؟
8 – هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات على حقوق كحقوق المسلمين تماما؟
9 – هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟
10 – هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم (كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟
11 – هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير مذهبية؟ (انتھى).
ويمكن إعادة صياغة مفهوم هذه الأسئلة وترتيبها حتى يعرف مآلاتها وخطرها الذين يسمون أنفسهم بالمعتدلين المنادين بالوسطية وذلك في النقاط التالية:
1- التخلي عن الجهاد.
2- التخلي عن فكرة إقامة دولة إسلامية .
3- التخلي عن عقيدة الولاء والبراء.
- 4- تغيير أحكام أهل الذمة في الشريعة، والدعوة لإفساد النساء ومساواتهن بالرجال.
5- قبول ردة المسلمين .
6- القبول بتحکيم غير شرع الله (القبول بالديمقراطية) .
7- الاعتراف بمساواة الكافر بالمسلم ضمن دولة الإسلام .
8- القبول بتمكين الكفار من المسلمين.
9- قبول إقامة صروح الكفر في بلاد الإسلام.
فمن انطبقت عليه هذه الشروط فهو “مسلم معتدل”، حسب مؤسسة راند، وصدق الله عز وجل: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) [البقرة: 120].
سادسا: وصف الملتزمين بالمتطرفين و (الأصوليين)
يطلق أصحاب الموازين الجاهلية على المستقيمين على دين الله عز وجل الملتزمين بأحکامه الذين يعلنون براءتهم وجهادهم للكفار وصف المتطرفين و (الأصوليين)، وعن الأصولية وما شابهها من الألفاظ التي يطلقها أعداء الدين لينفروا من الدين، يقول الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله تعالى -:
(الأصولية ،، الراديكالية.. النضالية .. الخلاص .. العهد السعيد .. جميعها ، وأمثالها من “الألقاب الذهنية” مصطلحات أجنبية تولدت حديثا في العالم الغربي، أوصافا “للكهنوتيين” المتشددين.
فإذا أخذنا هذا المصطلح “الأصولية”، نجد حقيقته كما يلي: إنه – يعني في بيئته الأصلية – العالم الغربي -: فرقة من البروتستنت تؤمن بالعصمة لأفرادها الذين يدعون تلقيهم عن الله مباشرة، ويعادون العقل ، والفكر العلمي، ويميلون إلى استخدام القوة والعنف في سبيل هذا المعتقد الفاسد.
فمصطلح الأصولية، وما في معناه هو إذا: لإيجاد جو کبير من الرعب والتخويف من “الدين”، ومقاومة من يدعو إليه، في أي ديانة كانت.
وإذا أخذنا أوسعها انتشارا اليوم: “الأصولية” وما حصل له من استمراء عجيب، وتردد ذكره على ألسنة المتكلمين، وفي أقلام الكاتبين، من إطلاقه على جماعات من المسلمين، وبخاصة الدعاة، ومن واقع حقيقته المذكورة، تلخصت لنا الحقائق التالية:
1- أنه بهذا المعنى أجنبي عن الحقائق والمصطلحات الإسلامية ، فلا ارتباط مطلقا بينه وبين ما يوجد في كتب المسلمين من هذه النسبة الأصولية في نسبته إلى العلم: أصول الفقه . وفي علمائه ألف المراغي – رحمه الله تعالی – “طبقات الأصوليين”.
2- أنه اصطلاح أجنبي حادث تولد في بيئته الغربية ، لمقاومة الكنسيين والكهنوتيين المتشددين.
3- وأن معناه باختصار: الكهنوتية التي ترفض التعامل مع العلم والعقل.
4- وأن معناه ومفاهيمه المذكورة مفاهيم فاسدة لا يمكن قبولها لدى المسلمين بحال، وبالتالي فهو لقب مرفوض في حكم الإسلام وهديه، فلا يجوز إطلاقه على جماعة المسلمين بهذا المعنى.
5- في إطلاقه على العلماء والدعاة المسلمين، تدبير ماكر من الخط المعاكس لهم بإيجاد جو يکسبهم معنی: «الإرهاب، والانشقاق» فيجعلوا من السلطة قوة لمقاومتهم، والنفرة منهم، كلما ذكر هذا اللقب المرعب . .
6- وبالتالي فإن هذا المصطلح “الأصوليين” هو ألطف تلك المصطلحات في مبناه، وأشدها مكرا في معناه.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى -: مما يلاحظ في هذه الأعوام – أي: 1412هـ وما بعده – بشكل خاص أن كثيرا من وكالات الأنباء العالمية التي تخدم مخططات أعداء الإسلام، وتخضع لمراكز التوجيه النصراني، والماسوني، تخطط بأسلوب ماكر لإثارة العالم كله ضد ما يسمونه الأصوليين، وهم يقصدون بذلك الذم والقدح في المسلمين والمتمسكين بالإسلام على أصوله الصحيحة، الذين يرفضون مسايرة الأهواء، والتقارب بين الثقافات، والأديان الباطلة)3(3) معجم المناهج اللفظية ص105 -107 باختصار ..
الهوامش
(1) انظر: نظرية الضرورة الشرعية للزحيلي ص67، 68.
(2) الموافقات 4/145.
(3) معجم المناهج اللفظية ص105 -107 باختصار .
اقرأ أيضا
موازين الناس في التيسير والوسطية (1)