إن للقرآن الكريم منهجه الخاص به في تقرير قبح الشرك، وذلك لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك
إذا نظرنا إلى الآيات القرآنية الكونية نرى أنها تنبه على دليلي الخلق والعناية في الكون لكي يخرج الناس من ظلمات الشرك به سبحانه ويعترف العقل على قبحه، وهما دليلا الشرع، وقد يكون الدليلان معًا في الآية الواحدة، فآيات القرآن:
1 – إما أن تتضمن التنبيه على دليل الاختراع الدال على أن تعطيله عن مخترع قبيح.
2 – وإما أن تتضمن التنبيه على دليل العناية الدالة على أن هناك خالقاً لابد من العبادة له.
3 – وإما أن تتضمن التنبيه على الدليلين السابقين معًا.
وفيما يلي بيان هذين الدليلين:
دليل الخلق
ويسمى دليل الإبداع أو الاختراع، وهو مبني على أصلين:
أ- أن الموجودات كلها مخترعة ومخلوقة.
ب- كل مخترع لابد له من مخترع وخالق.
ويعتمد هذا الدليل على إثارة الفكر للتعرف على خالق الموجودات جميعها، والاستدلال بذلك على وحدانيته تعالى، وهو أول دليل تلفت الآيات النظر إليه، كقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وقوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وملخص هذا الدليل أن كل ما في الكون مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق؛ لأنه يستحيل أن يكون خلق من غير خالق، ولهذا كان كل رسول يقول لقوله: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
وقد كان المشركون يؤمنون بهذا الدليل من حيث دلالته على توحيد الربوبية، ولا يؤمنون بدلالته على توحيد الألوهية. قال تعالى عنهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
وقد أقام القرآن الحجة عليهم بهذا التوحيد ـ توحيد الربوبية ـ ليكون موصلاً لهم لتوحيد الألوهية، حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقال تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا).
والمعنى كما أنه المتفرد بربوبية المشرق والمغرب وربوبية السموات والأرض وليس لذلك رب سواه، فكذلك ينبغي أن لا يتخذ إلهًا سواه.
وكذلك لما أقسم سبحانه وتعالى على الوحدانية في سورة الصافات، أتبع هذا القسم بذكر ربوبيته تعالى للسموات والأرض، ومشارقها، فقال تعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ).
يقول ابن القيم: (فإن الإقسام كالدليل والآية على صحة ما أقسم عليه من التوحيد … وأقسم سبحانه بذلك على توحيد ربوبيته وإلهيته، وقرر توحيد ربوبيته فقال: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) من أعظم الأدلة على أنه واحد، ولو كان معه إله آخر لكان الإله مشاركًا له في ربوبيته كما شاركه في إلهيته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذه قاعدة القرآن يقرر توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية، فيقرر كونه معبودًا واحدًا بكونه خالقاً ورازقاً وحده).
المقصود: بيان كون دليل الخلق يدل على قبح الشرك، إذ الخالق لابد أن يعبد، وعبادته لغير خالقه قُبح، وشر محض.
وقال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ).
قال ابن القيم: (فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق، وأفصح عبارة، يقول تعالى: هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا، فهل خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا من المحال الممتنع عند كل من له فهم وعقل أن يكون مصنوع من غير صانع، ومخلوق من غير خالق، ولو مر رجل بأرض فقر لا بناء فيها ثم مر فيها فرأى فيها بنيانًا وقصورًا وعمارات محكمة لم يتخالجه شك، ولا ريب أن صانعًا صنعها، وبانيًا بناها، ثم قال: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، وهذا أيضاً من المستحيل أن يكون العبد موحدًا خالقاً لنفسه، فإن من لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده، وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة، ولا أصبعًا وظفرًا، ولا شعرة كيف يكون خالقاً لنفسه في حال عدمه؟ وإذا بطل القسمان تعين أن لهم خالقاً وفاطرًا فطرهم فهو الإله الحق الذي يستحق عليهم العبادة والشكر، فكيف يشركون به إلهًا غيره وهو وحده الخالق لهم؟ ).
وقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).
يقول ابن القيم: (فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنهم الضر. فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى بشركة الإله الآخر معه … ).
فهذا بعض ما يدل على دليل الخلق الذي يبين قبح الشرك بالله سبحانه صراحة، وهي في الربوبية، ولكنه بالاستلزام يدل على قبح الشرك في الألوهية.
دليل العناية
ويسمى دليل النظام أو التناسق؛ لأنه ينطلق بنا ضمن الآيات الكونية ليوصلنا إلى أن الذي نظم الكون وربط أجزاءه بحيث يكمل بعضها بعضًا وقدر كل شيء فيه تقديرًا هو الله الواحد الأحد، ومن الآيات القرآنية التي ورد فيها دليل العناية قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ * وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ).
وقوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا).
هذه الآيات القرآنية التي ذكرناها، وآيات أخرى كثيرة تلفت نظر الإنسان لما في هذا الكون من التنظيم الدقيق والتناسق بين أجزاء الكون أقصى غايات الدقة والإتقان لتدل دلالة قاطعة على العناية التامة بهذا الكون وما فيه، وأن إلهًا واحدًا قادراً هو الذي نظم كل ما فيه أحسن تنظيم.
فهذا الدليل الذي ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم يدل على أن الشرك في الربوبية بالتعطيل (المستلزم للشرك في العبادة) قبيح للغاية.
بيان آية السموات والأرض الدالة على قبح الشرك بالله
ذكرت آية الأرض مع آية السماء؛ لأنهما تذكران معاً في معظم آيات القرآن الكريم، وبيانه فيما يلي:
1 – قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
فهذه الآية يطلب الله تعالى من الناس جميعًا أن يوحدوه، ولا يشركوا به الأصنام، والأنداد وهم يعلمون أنه هو الذي بنى السماء وفرش الأرض.
قال ابن كثير: (وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له).
وقال الزمخشري: (أي هو الذي خصكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء).
2 – قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
هذه الآيات الكونية بدأت بالنص على الوحدانية، ثم نبه تعالى عباده على تفرده بالألوهية بخلق السموات والأرض وما بينهما؛ لأن من نظر إلى السماء في ارتفاعها وسعتها وإلى الأرض واستقرارها أداه ذلك إلى توحيد الله وعبادته؛ لأن في خلق السموات والأرض دلالات واضحة لقوم يعقلون عن الله حججه وأدلته على وحدانيته وقبح شركه.
قال الطبري: (وهذا تنبيه من الله ـ تعالى ذكره ـ أهل الشرك به على ضلالهم ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم، ثم عرفهم ـ تعالى ذكره ـ بالآية التي تتلوها موضع استدلال ذوي الأباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدعون من ألوهيته من الأنداد والأوثان فتدبروا حججي وفكروا فيها فإن من حججي خلق السموات والأض).
3 – قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وقال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ففي هذه الآيات نبه سبحانه على وقوف السماء بغير عمد وأن الله ممسكها بقدرته وعظيم سلطانه، وجعلها من البعد بحيث لا تنال، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، كما أن بعد ما بين كل سماء والتي تليها خمسمائة عام، ومن كان هذا خلقه فهو متعال عن الشرك كما قال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). فأنى يكون له شريك، وقد خلقهما بالحق وهو التوحيد، منفردًا بخلقهما، وإبداعهما من غير حاجة لأحد؟ فليس له شريك، بل إثباته قبيح.
المصدر
كتاب: “الشرك في القديم والحديث” أبو بكر محمد زكريا، ص1342-1350.
اقرأ أيضا
التفكر في آيات الله المشهودة في الآفاق
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (1) خطر الشرك