شرك الطاعة والاتباع هو: مساواة غير الله بالله تعالى في التشريع والحكم والطاعة والانقياد؛ فكل من أطاع مخلوقاً في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، عالماً بذلك؛ فقد وقع في شرك الطاعة والاتباع.

أشهر صور الشرك الأكبر في زماننا اليوم.

من ذلك ما ترجم له الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله)، وقوله: (باب قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60])1(1) وتحت هذه الأبواب في شروح كتاب التوحيد تفصيل شامل لهذا النوع من الشرك فيحسن الرجوع إليه . والمقصود التنبيه على أن من الشرك الأكبر والظلم الأعظم طاعة غير الله تعالى في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ..

وهذا هو شرك الطاعة والاتباع والذي كثر في هذا الزمان حيث رفض فيه شرع الله عز وجل ونحي جانبا، وحلت مكانه قوانين البشر ونحاتات أفكارهم وأنظمتهم الجائرة الكافرة الموصوفة بالجهل والظلم والهوى والنقص. وانطبق على هؤلاء المشرعين من دون الله عز وجل قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21] .

كما انطبق على الراضين بهذه الأنظمة المطيعين لها المنقادين لها بعد علمهم بأنها محادة لشرع الله سبحانه قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه﴾ [التوبة: 31].

متى تكون طاعة المخلوق شركاً مخرجاً من الملة

ويعلق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: (وفي حديث عدي بن حاتم – وهو حديث حسن طویل رواه أحمد والترمذي وغيرهما – وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم ؛ قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!» قال: فقلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم»2(2) الترمذي بنحوه مختصرا في التفسير (3094)، وأخرجه بطوله ابن جریر في التفسير برقم (16632)14/210 تحقيق محمود وأحمد شاكر. ولم يخرجه أحمد في المسند ..

وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله؛ فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية .

وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم. فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله. فهذه عبادة للرجال، وتلك عبادة للأموال، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [ التوبة: 31] فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الصافات: 22- 23]، فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا جميعا معذبون)3(3) مجموع الفتاوی 7/67-68..

إذن فإن من الشرك الأكبر والظلم الأعظم رفض شرع الله تعالی وطاعة المشرعين من دون الله عز وجل أو اتباعهم فيما أحلوا وحرموا مما لم يأذن به الله تعالى .

ذكر الآيات الواردة في بيان شرك الطاعة والاتباع والتحذير منه

وقد وقفت على كلام بديع للإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره أضواء البيان يكفي ويشفي لتجلية هذا النوع من الشرك الخطير والظلم العظيم ويدحض أهله .

قال رحمه الله تعالی عند قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [الشورى: 10] ما نصه: (ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحا في آيات كثيرة .

فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وفي قراءة ابن عامر من السبعة: ﴿وَلَا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ بصيغة النهي.

وقال في الإشراك به في عبادته: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110]، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.

وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل والعمل به بدل تشريع الله – عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه -: کفر بواح لا نزاع فيه.

وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غیره کفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف : 40]، وقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يوسف: 67]، وقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]، وقوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ – [المائدة:44]، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26]، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88]، وقوله تعالى: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 36]،. وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جدا، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [ النحل: 100]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾  [الأنعام: 121]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: 60]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، كما تقدم إيضاحه في الكهف.

صفات من له الحكم والتشريع

اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة ، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر: هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟ سبحان الله وتعالى عن ذلك.

فإن كانت تنطبق عليهم – ولن تكون – فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية؛ سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملکه.

فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالی صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه﴾ [الشورى: 10]، ثم قال مبينا صفات من له الحكم: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الشورى: 10 – 12].

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق وأنه الذي خلق للبشر أزواجا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية … وأنه له مقاليد السموات والأرض وأنه هو الذي ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ )أي يضيق على من يشاء ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ولا تقبلوا تشريعا من کافر خسیس حقیر جاهل ….. ومنها قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا ۖ فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: 150].

فقوله: ﴿هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ﴾ صيغة تعجيز؛ فهم عاجزون عن بیان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو کونية قدرية، من خصائص الربوبية. كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعا غیر تشریع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا، وأشركه مع الله .

فتوى سماوية قرآنية على كُفر من يحكم بشرع غير شرع الله

والآيات الدالة على هذا كثيرة، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية، فمن ذلك – وهو من أوضحه وأصرحه – أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت مناظرة بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، في حكم من أحكام التحريم والتحليل، وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن، في وحيه في تحريمه، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله .

وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة الأنعام. وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه: سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها.

فقالوا: الميتة إذا ذبيحة الله، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام؟ مع أنكم تقولون إنما ذبحتموه بأيديكم حلال، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة.

فأنزل الله – بإجماع من يعتد به من أهل العلم – قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]، يعني الميتة أي: وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121]، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا﴾ ، وقوله: ﴿لَفِسْقٌ﴾ أي خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام : 121].

أي بقولهم: ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام؛ فأنتم إذا أحسن من الله، وأحل تذكية، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين، في الحكم بين الفريقين في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]، فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشریع الرحمن مشرك بالله …. ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية الأنعام المذكورة قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 100]، فصرح بتوليهم للشيطان أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان .

ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ [يس: 60 – 62]، ويدخل فيهم متبعو نظام الشيطان دخولا أوليا ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: 62].

ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا، في قوله تعالى: ﴿هَٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [يس:63 – 65]، وقال تعالى: عن نبيه إبراهيم: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا﴾ [مريم:44]، فقوله: لا تعبد الشيطان: أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي، مخالفا لما شرعه الله .

وقال تعالى: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا﴾ [النساء: 117]، فقوله: ﴿وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا﴾ يعني ما يعبدون إلا شيطان مريدا.

وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: 40-41] . فقوله تعالى: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم، من الكفر والمعاصي على أصح التفسیرین.

والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة، كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: 22]، فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة.

وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بينا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله: ﴿ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً﴾ [التوبة: 31] كيف اتخذوهم أرباباً؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم أنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً.

ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً، يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم يزدادون كفراً جديداً بذلك، مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ﴾ [التوبة: 37] إلى قوله: {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 37].

وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله، في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: ﴿وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ﴾ [الأنعام: 137] فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد)4(4) أضواء البيان 7/162-173 (باختصار)..

التشريع من دون الله ظلم عظيم

من خلال هذا الكلام النفيس وما قبله يتبين لنا عظم ظلم الطغاة الذين يشرعون للناس ما لم يأذن به الله تعالى، ويحكمون في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم بأهواء البشر المليئة بالظلم والجهل والطغيان ، فما أشد ظلم الطغاة، وما أشد شؤمهم على أنفسهم وأمتهم فلقد جمعوا كل أنواع الظلم – نعوذ بالله من الخذلان – حيث ظلموا أنفسهم بتبديلهم شرع الله عز وجل وهذا من الظلم الأعظم، وظلموا أنفسهم بمعصية الله تعالى وارتكابهم ما حرم الله عز وجل مما تفرزه تشريعاتهم الباطلة، وظلموا عباد الله سبحانه بما ألزموهم به من الأحكام الظالمة التي تلحق الضرر بدينهم وأنفسهم، وأموالهم وأعراضهم، وبما أحدثوه من السياسات الجائرة التي تمكن للمفسدين ليفسدوا في الأرض، وفي الوقت نفسه تبعد أهل الخير والصلاح عن مواطن التوجيه إن لم تزج بهم في غياهب السجون !!

الهوامش

(1) وتحت هذه الأبواب في شروح كتاب التوحيد تفصيل شامل لهذا النوع من الشرك فيحسن الرجوع إليه . والمقصود التنبيه على أن من الشرك الأكبر والظلم الأعظم طاعة غير الله تعالى في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله .

(2) الترمذي بنحوه مختصرا في التفسير (3094)، وأخرجه بطوله ابن جریر في التفسير برقم (16632)14/210 تحقيق محمود وأحمد شاكر. ولم يخرجه أحمد في المسند .

(3) مجموع الفتاوی 7/67-68.

(4) أضواء البيان 7/162-173 (باختصار).

اقرأ أيضا

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (2) بين الطاعة والتأله

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (5) نظرة الى الواقع

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع

 

التعليقات غير متاحة