لقد ضرب الله ـ سبحانه وتعالى ـ للناس في هذا القرآن من كل مثل؛ لأن ضرب الأمثال فيه فوائد كثيرة كالتذكير والوعظ والحث والزجر والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصوره المحسوس وتشبيه الخفي بالجلي، فلضرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز الخفيات والحقائق حتى يرى المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد.
تقرير القرآن قبح الشرك بضرب الأمثال
وقد امتن الله تعالى على عباده بأن ضرب لهم الأمثال فقال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ)، وقال تعالى: (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ)، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ).
وقد اقتصرت في هذا المقال على أمثال القرآن التي سيقت لتقرير وحدانية الله تعالى وقبح الشرك، فقمت باستقصائها وجمعها من آيات القرآن ثم رتبتها حسب موضوعها، وهي كما يلي:
فإن هذه الأمثال:
1 – إما مضروبة لله من جهة وللأصنام من جهة أخرى.
2 – وإما مضروبة لكلمة التوحيد، وكلمة الشرك.
3 – وإما مضروبة للحق والباطل.
4 – وإما مضروبة لقلب الموحد وقلب المشرك.
5 – وإما مضروبة لبيان عجز آلهة المشركين.
6 – وإما مضروبة لحالة المشرك وحالة الموحد.
وبيانها فيما يلي من المطالب:
أولا: الأمثال المضروبة لله وحده ولما يعبد من دونه
أ- ضرب الله مثلاً لنفسه ولما يعبد من دونه بعدم قبول المشركين إشراك عبيدهم في ما يخصهم، فكيف يقبلون ذلك لله تعالى؟
قال تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، وقال تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).
بين سبحانه وتعالى أنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق، فما الذي فضلهم الله بالرزق على غيرهم بمشركي غيرهم وهم المماليك فيما رزقوا من الأموال والأزواج حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، فلا يرضون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقوا سواء، بينما هم قد جعلوا مخلوقات الله شركاء له في ملكه وعبادته.
وقد أجمع المفسرون على أن المثل في هذه الآية هو نفس المثل في الآية الأخرى وهي قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَٰكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ)، ولذلك جعلت الكلام عنهما معًا.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم الحجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يؤخذ من نفسه ويحتج عليه …. في نفسه، مقرر عندها، معلوم لها، فقال: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي شيء يشارككم عبيدكم في أموالكم، وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم … ؟ فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ ).
ب- وضرب الله كذلك مثلين لنفسه ولما يعبد من دونه
وذلك في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
هذان المثلان ضربهما لنفسه ولما يعبد من دونه، قال مجاهد: (ضرب الله هذا المثل والمثل الآخر بعده لنفسه وللآلهة التي من دونه).
والمثل الأول هو قصة عبد في ملك غيره عاجز عن التصرف وحر غني متصرف فيما آتاه الله، فإذا كان هذان المثلان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد مشتركين في الإنسانية فكيف تشركون بالله وتسوون به من هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره مع تباين الأوصاف وأن الله لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه ولا يمكن لعاقل أن يمثل به غيره … ؟ .
والمثل الثاني كذلك مضروب لله لما يعبد من دونه، وهي أصنام لا تسمع ولا تنطق؛ لأنها إما من خشب أو نحاس أو حجر وغيره، ولا تجلب خيراً ولا تدفع شرًا، ثم هي عيال على عابديها تحتاج لمن يحملها ويخدمها كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء فهو كلٌ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم وحيثما وجهوه لا يأت بخير، لأنه لا يفهم ولا يفهم عنه، وهكذا الصنم لا يعقل ما يقال له، ولا ينطق فيأمر وينهى، فهل يستوي هذا الأبكم بصفاته السابقة ومن هو ناطق متكلم بأمر الحق، ويدعو إليه؟ .
فإذا كانا لا يستويان فكذلك لا يستوي الصنم مع الله الواحد القهار الداعي عباده إلى توحيده وطاعته، فهذا مثل إله الباطل وإله الحق. وبه قال قتادة ومجاهد، وكذلك قال به ابن القيم وبين أن هذين المثلين أوضح عند المخاطبين وأعظم في إقامة الحجة عليهم وأظهر في بطلان الشرك وقبحه.
ثانيا: المثل المضروب لكلمة التوحيد وكلمة الشرك
ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لكلمة التوحيد بالشجرة الطيبة، ومثلاً لكلمة الشرك بالشجرة الخبيثة، فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
شبّه سبحانه وتعالى كلمة التوحيد ـ لا إله إلا الله ـ بالشجرة الطيبة، وهي النخلة الضاربة جذورها في أعماق التربة وفروعها مرتفعة في السموات، والكلمة الخبيثة وهي الشرك كالشجرة الخبيثة؛ وهي الحنظلة إذا استؤصلت، فلم يبق لها أثر ولا أصل في الأرض، وقد ورد عن ابن عباس وبه قال جمهور المفسرين أن الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله في قلب المؤمن، وأن الكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر.
وفي هذا التشبيه حكم بليغة وأسرار كثيرة؛ لأن الشجرة لابد لها من عروق وساق وفروع، وورق، وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والتوحيد ليطابق المشبه المشبه به؛ فشجرة التوحيد عروقها الثابتة العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص لله وفروعها الأعمال الصالحة وثمرها الأخلاق الحميدة الزكية، فإذا كانت هذه الأمور مطابقة لأمر الله بأن يكون العلم موافقًا لمعلومه الذي أنزل الله به كتابه، وكان الاعتقاد مطابقاً لما أخبر الله به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله، وكان الإخلاص قائمًا في القلب، والأعمال موافقة للشرع علم أن شجرة التوحيد في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإن كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فكما أن هذه الشجرة الخبيثة ليس لها أصل ثابت ولا فرع ثابت ولا فائدة فيها، فكذلك الشرك ليس له أصل يأخذ به المشرك ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً، ولا يصعد إلى الله، فليس له أصل في الأرض ولا فرع في السماء.
ثالثا: مثل للحق والباطل
ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للحق والباطل، وهو مشتمل على المثلين المائي والناري، فيقول تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ).
أما المثل المائي: فقد مثل الله ـ تعالى ـ الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله كمثل الماء النازل من السماء إلى الأرض فتحمله الأودية بقدرها الكبير بكبره والصغير بصغره، ولكن هذا السيل الحادث عن ذلك الماء يحمل فوقه زبدًا عاليًا، وبعد قليل يتطاير الزبد ويتلاشى، وأما الماء فيستفيد منه الناس في الشرب وسقي المزروعات، والباقي يمكث في الأرض، لينتفع به الناس في العاجل والآجل، فالحق في ثباته ونفعه يشبه الماء المستقر في الأرض والباطل في تلاشيه واختفائه يشبه الزبد العالي فوق السيل، فهذا أحد المثالين.
وأما المثل الآخر ـ وهو الناري ـ: فقد شبه الله ـ تعالى ـ الحق كمثل المعدن إذا أوقد عليه فيخرج منه الخبث والزبد، ويذهب هذا ويتلاشى ويبقى خالص المعدن ثابتًا مستقرًا نقيًا، فشبه سبحانه الحق ببقائه وثباته بالمعدن الباقي بعد الخبث، وشبه الباطل بالخبث الذي تخرجه النار من المعادن، كذلك يضرب الله الحق والباطل.
قال مجاهد: فذلك مثل الحق والهدى والعلم والتوحيد إذا دخل القلب طرد الخبث وهو الشكوك والشبهات والشهوات. فيطرح القلب هذه الشبه وتتلاشى كما يطرح السيل الزبد، وكما تطرح النار الخبث، وكاستقرار الماء والمعدن الصافي الخالص، يستقر التوحيد والإيمان في القلب وجذوره، بحيث ينفع صاحبه وينتفع به غيره.
رابعا: مثل قلب الموحد وقلب المشرك
وهما مثلان:
أ- ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لقلب المؤمن الموحد بالبلد الطيب، ومثلاً لقلب المشرك الكافر بالبلد الخبيث
فقال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
بين سبحانه وتعالى في هذا المثل أن البلد الطيب تربته العذبة مشاربه فيخرج نباته إذا أنزل الله الغيث طيبًا ثمره في حينه ووقته، والبلد الذي خبث فتربته رديئة، ومشاربه مالحة، يخرج نباته بعسر وشدة، فعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي قالوا: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر؛ لأن قلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه وفاض بالخير، وقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه ولم يثبت فيه الإيمان، ففاض بالنكد والشر والفساد.
وقد سمى الله في كتابه المؤمن بالطيب والكافر بالخبيث، فقال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، فالخبيث في هذه الآية هم الكفار والطيب هم المؤمنون، كذا قاله السدي.
وقد ورد مثل هذا المثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وهذا الحديث يبين مثل قلب المؤمن ومثل قلب الكافر بما يوافق المثل القرآني الذي بيناه.
ب- وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً آخر للقلب الذي يريد أن يهديه وللقلب الذي يريد أن يضله
فقال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).
يبين تعالى أن من أراد الله هدايته إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه ويوفقه لذلك، يفسح صدره للإيمان ويهونه ويسهله له بلطفه ومعونته حتى يستنير الإيمان في قلبه فيضيء له ويتلقاه صدره بالقبول.
ومن أراد إضلاله عن سبيل الهدى يجعل صدره حرجًا بخذلانه وغلبة الكفر عليه، والحرج: أشد الضيق، وهو الذي لا ينفذ إليه شيء من شدة ضيقه، وهو هنا القلب الذي لا تصل إليه الموعظة ولا يدخله نور الإيمان لرين الشرك عليه، وضيق مشاربه فلا يدخل الإيمان، وهو في ذلك كالحرجة: وهي الشجرة الملتف بها الأشجار الكثيفة فلا يدخل إليها شيء لشدة التفاف الأشجار بها.
وقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء): الصعود هو الطلوع إلى أعلى، فشبه الله تعالى الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه كما أن صعود السماء لا يطاق؛ لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع على بني آدم ويبعد عن الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة.
قال ابن جريج: (حرجًا بلا إله إلا الله لا يجد لها في صدره مساغاً)، وقال الطبري: (وهذا مثل من الله ـ تعالى ذكره ـ ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأن ذلك ليس في وسعه).
المصدر
كتاب: “الشرك في القديم والحديث” أبو بكر محمد زكريا، ص1357-1367.
اقرأ أيضا
أمثلة قرآنية لفساد أعمال المشركين وقبح الشرك
تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك (1)