يعتبر الانتصار الحاسم الذي أحرزه المسلمون على الجيوش البيزنطية في موقعة “اليرموك” نقطة تحول هامة في حركة الفتوح الإسلامية، أدت إلى انهيار قوى الروم، وانفصال الشام عن جسم الإمبراطورية البيزنطية.
سيطرة المسلمين على الحوض الشرقي للبحر المتوسط في عصر الراشدين
كان الروم البيزنطيون أشد أعداء المسلمين، وأقواهم شكيمة. وقد أدرك معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- هذه الحقيقة حيث قضى أربعين عاما في قتالهم، منذ أن كان واليا على الشام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى وفاته “سنة 60هـ” ولذلك نراه يوصي من بعده بقوله: “شدوا خناق الروم، فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم”1(1) تاريخ خليفة بن خياط، ص”230″..
وفي إقليم الشام تاخمت حدود الدولة الإسلامية حدود الإمبراطورية البيزنطية، كما جاورت ممتلكات تلك الإمبراطورية سواحل الشام في حوض البحر المتوسط الشرقي، ومن ثم هدد الخطر البيزنطي إقليم الشام برا وبحرا.
ويعتبر الانتصار الحاسم الذي أحرزه المسلمون على الجيوش البيزنطية في موقعة “اليرموك” “13هـ/ 643م” أو “15هـ/ 636م” نقطة تحول هامة في حركة الفتوح الإسلامية، أدت إلى انهيار قوى الروم، وانفصال الشام عن جسم الإمبراطورية البيزنطية. ويذكر المؤرخون أن “هرقل” عندما بلغه نبأ الكارثة التي حلت بجيوشه في معركة “اليرموك” رحل إلى “القسطنطينية”، فلما تجاوز الدرب الذي يصل أرض الشام بأرض “بيزنطة” نظر إلى الأراضي السورية وقال -يودعها بنظرة- “عليك يا سورية السلام، ونعم البلد هذا للعدو”2(2) فتوح البلدان، للبلاذري، تحقيق د. صلاح الدين المنجد -القسم الأول “ص162” “ط القاهرة 1956م”. والكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 342″، “ط دار الكتب العلمية، بيروت 1987م”..
فتح المدن الساحلية الشامية والجزر الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط
وعلى إثر هذه المعركة أخذت مدن الشام الكبرى في الشمال والجنوب تتساقط سريعا، الواحدة بعد الأخرى في أيدي المسلمين. ولم يكد هؤلاء ينتهون من فتح “دمشق” حتى وجهوا جهودهم لفتح المدن الساحلية الشامية والجزر الواقعة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط:
1- فقد استولى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في بداية فتوح الشام- على موانئ “غزة” و”عسقلان” و”عكا” “سنة 15هـ/ 636م”.
2- ثم استولى يزيد بن أبي سفيان “الوالي على الشام -قبل أخيه معاوية- في خلافة عمر بن الخطاب” على “صيدا” و”صور” و”بيروت” و”جبيل” “سنة 17هـ/ 638م”.
3- واستولى عبادة بن الصامت -بأمر من يزيد بن أبي سفيان- على موانئ السواحل الشامية الشمالية، مثل “اللاذقية” و”جبالة”، و”أنطرسوس”.
4- وعندما تولى معاوية بن أبي سفيان إمارة الشام بدأ النشاط البحري الكبير في شرق البحر المتوسط، وأظهر في فتح المنطقة الساحلية عبقرية فذة، وبذل فيها جهودا ذات “بلاء حسن وأثر جميل” على نحو ما شهد له بذلك قادة المسلمين، فاستولى على “قيسارية” “سنة 19هـ/ 640م”. وهي من أهم المدن الساحلية بالشام، ثم على مدينة “طرابلس” التي كانت ميناء “دمشق” ومفتاح حياتها الاقتصادية، وتتفوق على سائر مدن الشام في حصونها وبهائها3(3) راجع: الكامل لابن الأثير “1/ 404”..
5- وقد اهتم معاوية بغزو جزر البحر المتوسط المواجهة لساحل الشام ليتخذها مراكز أمامية يوجه منها الغزوات البحرية إلى بلاد البيزنطيين نفسها، فاستولى على “أرواد” و”رودس”. ثم قاد أول حملة بحرية إسلامية على جزيرة “قبرص”4(4) تبعد جزيرة “قبرص” عن الساحل السوري “90كم” وعن الساحل التركي “65كم”، وعن الساحل المصري “400كم”، وعن الساحل اليوناني “900كم”، ويبلغ أقصى طول لها “235كم”.، فتوجه إليها من “عكا” “سنة 28هـ/ 645م”، وما كادت السفن الإسلامية ترسو إلى ساحلها حتى أذعن أهلها بالطاعة للمسلمين، وصالحهم معاوية على جزية سنوية، واشترط عليهم أن يلتزموا الحياد في الصراع العربي البيزنطي، وأن يبلغوا المسلمين بسير عدوهم من البيزنطيين. فلما كانت “سنة 32هـ/ 652م” أعان أهل قبرص البيزنطيين الغزاة في البحر بسفن قدموها لهم، فغزاهم معاوية “سنة 33هـ/ 653م” في خمسمائة سفينة، وافتتح الجزيرة -في هذه المرة- عنوة، ثم أقرهم على صلحهم الأول، وأرسل إليهم اثني عشر ألفا من المسلمين ليقيموا في الجزيرة، ونقل إليها جماعة أخرى من مسلمي بعلبك، فبنوا المساجد والبيوت5(5) راجع: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام “ص132-20″، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس “ص285”..
موقعة “ذات الصواري” وحسم السيادة البحرية للمسلمين
6- وقد خاص المسلمون في أواخر العصر الراشدي موقعة بحرية هامة ضد البيزنطيين حسمت السيادة البحرية في حوض البحر المتوسط، وقلبت التفوق البيزنطي لصالح المسلمين، ونعني بها موقعة “ذات الصواري” “سنة 34هـ/ 654م”. وتذكر المصادر العربية أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح “أمير مصر” خرج بأسطوله البحري من “رشيد” قاصدا أسطول الروم، وفي الوقت نفسه خرج “بسر بن أبي أرطأة” -وهو أحد قادة معاوية- بأسطوله من “صور”، وتلاقى الإثنان في البحر بالقرب من ساحل “ليكيا” “عند فونيكة” -في جنوب أنطاكية- حيث دارات المعركة هناك.
وكان الأسطول البيزنطي مكونا من خمسمائة مركب، أو سبعمائة وقيل “ألف”، في حين كان المسلمون في نحو مائتي مركب، وقد وصف أحد المسلمين المشاركين في المعركة شعوره حين تقابلت الأساطيل الإسلامية مع السفن البيزنطية قائلا: “فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط”. ويبدو أن المسلمين أدركوا أن خوض قتال بحري ضد هذه الأعداد الضخمة من السفن المدربة مخاطرة غير مأمونة، فاختاروا أن يجعلوها حربا برية في البحر، فربطوا سفنهم المتقاربة في سفن الأعداء، وجعلوا من ظهورها ميدانا بريا للقتال، واشتدت المعركة، وقتل من الجانبين أعداد هائلة، واختلطت دماء القتلى بمياه البحر، فصبغته بلونها الأحمر القاني، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما، وانتهى القتال بانتصار حاسم للمسلمين، وأسفر عن بداية لطور بحري جديد سيطر المسلمون فيه على حوض البحر المتوسط الشرقي على حساب البحرية البيزنطية، وأكسبهم خبرة طيبة في المجال البحري العسكري، مما فتح لهم آفاقا جديدة لميادين الامتياز والتفوق في مجابهة دولة الروم المتربصين بهم6(6) راجع تفاصيل عن المعركة: تاريخ الطبري “4/ 290، 291″، تاريخ البحرية الإسلامية للدكتور السيد عبد العزيز سالم “1/ 28-31″، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس ص”285”..
من نتائج موقعة “ذات الصواري”
ويعلق الدكتور إبراهيم العدوي على معركة “ذات الصواري” بقوله: “وتعتبر هذه الوقعة البحرية من المعارك الحاسمة القلائل التي غيرت مجرى تاريخ البحر المتوسط … إذ قضت على اتصافه بأنه بحر “الروم”، وجعلته حريا أن يدعى “بحر المسلمين”، فقد انطلقت فيه السفن الإسلامية في حرية تذهب حيثما تريد، رافعة علم الإسلام. وتجلت أولى النتائج الهامة التي ترتبت على هذه المعركة الفاصلة عندما تخلى الإمبراطور البيزنطي “قنسطانز” ومن جاء بعده من الأباطرة عن فكرة طرد المسلمين من البلاد التي استولوا عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، واستعادة ما كان لهم من سالف النفوذ والسلطان هناك، إذ أدرك أولئك الأباطرة أن هذه الفكرة ضرب من الأحلام التي فات أوانها، وأن قدم المسلمين رسخت نهائيا على شاطئ البحر المتوسط الشرقي، فجنحوا إلى الاعتراف بالأمر الواقع، وادخار جهودهم وقوتهم إلى وقت قد يحتاجون فيه للدفاع عن دولتهم وحمايتها من التردي نهائيا في أيدي المسلمين”7(7) الأمويون والبيزنطيون “ص98، 99”..
وخلاصة ما تقدم أن المسلمين استطاعوا -قبل نهاية العصر الراشدي- أن ينتزعوا السيادة البحرية على الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وأن تكون لهم السيطرة الكاملة على سواحل ذلك البحر، من طرابلس الشام، إلى “قرطاجنة” في منطقة “إفريقية”، واستولوا على جزر “أرواد” و”قبرص” و”رودس”، تمهيدا لغزو القسطنطينية”.
سياسة معاوية بن أبي سفيان البحرية في مواجهة الروم
تولى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أمر الدولة الأموية صبيحة تأسيسها، وكان واليا على الشام لأكثر من عشرين سنة متصلة في زمن خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- على التوالي. وقد وقع عليه -في أكثر الوقت- العبء الأكبر في مجابهة الخطر البيزنطي على إقليم الشام برا وبحرا. وكان لخبرته القتالية الطويلة مع الروم أثر واضح في تشكيل رؤية -أو “استراتيجية”- للتعامل معهم، وفي توجيه قناعته بطبيعة السياسة الملائمة لهذا التعامل. وكانت المواجهة القتالية المستمرة مع الروم البيزنطيين هي الأسلوب الذي ارتآه أنسب للتعامل معهم، وكان توليه خلافة المسلمين هي الفرصة المناسبة التي ساعدته على تحويل تلك القناعة الشخصية إلى “سياسة دولة”، وتوافرت -إلى ذلك- مجموعة من العوامل الداخلية الإيجابية أدت إلى إنجاح هذه السياسة، أهمها وجود جيش قوي، ولاؤه الأول والأخير للخليفة، وموارد اقتصادية هائلة تدرها الأمصار، وقرب عهد بالإسلام وفر أعداد هائلة من المتطوعين المؤمنين بهذه السياسة بوصفها رسالة إيمانية8(8) نادية مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص13- بتصرف يسير”..
تأمين معاوية للجبهة الداخلية للدولة الإسلامية
وبعد أن أمن معاوية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية باتباع مجموعة من الخطوات -أهمها حل المشاكل التي خلفتها أعوام متتالية من الفتن والحروب بعد مقتل الخليفة الشهيد عثمان -رضي الله عنه، وإزالة التناحر القبلي بين عرب الشام وعرب الجنوب وفق ميزان عدل لا يميل إلى أحد الطرفين على حساب الآخر. وبعد أن نقل عاصمة الخلافة إلى دمشق الشام موطن شيعته ومناصريه، ولتكون قريبة من ميدان الصراع مع البيزنطيين، إضافة إلى اهتمامه الكبير بتأسيس جيش قوي ليكون عدته في تنفيذ مشاريعه الحربية، وجعل قوامه الأساسي من جند الشام الموالين له، واختار مجموعة من خيرة القادة العسكريين لقيادته -نقول: بعد أن نجح في تحقيق ذلك كله عمد إلى رسم الخطوط العريضة لسياسات التعامل الخارجي للدولة الأموية، والتي استمرت منهاجا لها حتى زالت سنة “132هـ”.
معالم السياسة الخارجية لمعاوية رضي الله عنه
ولعل المعلم الرئيس لسياسة التعامل الخارجي للدولة الأموية يتلخص في عبارة واحدة، هي “الهجوم خير وسيلة للدفاع، والعمل المستمر على توسيع الدولة وضم مناطق جديدة إليها”. وهذه السياسة يمكن أن نطلق عليها اسم “سياسة تداعي الفتوحات”، فمثلا: نجد أن الدولة الأموية قد آمنت بأن تأمين فتوحات الشام إنما يستدعي السيطرة على المناطق المجاورة له من الشمال والشمال الشرقي “أرمينية”، والجنوب الغربي “مصر”، والمناطق الغربية “جزر البحر المتوسط الشرقية”، ثم إن تأمين فتوحات مصر استدعى فتح إفريقية “تونس”، وهذا بدوره تطلب فتح المغرب الأوسط “الجزائر”، ثم المغرب الأقصى، ثم عبور المضيق إلى شبه الجزيرة الإيبيرية “إسبانيا”. وبهذا أصبح المسلمون في مواجهة القوى غير الإسلامية “الأوروبية” في الغرب بالقدر نفسه الذي واجهوا به الدولة البيزنطية في الشرق. فعلى هدي الظروف الجغرافية -إذن- كانت تسير الفتوحات الأموية برا من أجل رفع راية الإسلام9(9) راجع: الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور رمضان عبد التواب “ص96 وما بعدها” ..
ولم يختلف الأمر في البحر عنه في البر؛ فبعد غزو جزيرة “قبرص” في البحر المتوسط الشرقي أيقن الأمويون ضرورة عدم التوقف عند هذا الحد، فمواصلة الاستيلاء على الجزر التابعة للروم في شرق هذا البحر كان حتمية وفقا لسياسة الأمويين الخارجية؛ فشرق البحر المتوسط تنتشر فيه الجزر التي تقسمه إلى بحار داخلية صغيرة، يتصل بعضها ببعض عن طريق مضايق وفتحات صغيرة، وتتحكم في مداخلها أطراف تلك الجزر، فكانت هذه المضايق أشبه بأعناق الزجاجات تكفل للمسيطر عليها السيادة على ما يليها من بحار داخلية وما يطل على هذه البحار من أراض وبلاد، ومن ثم سار الأمويون في استيلائهم على هذه الجزر وفق خطة منطقية محددة بدقة، تهدف إلى تأمين سلامة الفتوحات الإسلامية في البر عن طريق الاستيلاء على الجزر القريبة المجاورة مباشرة لتلك الأراضي المفتوحة، ثم متابعة الاستيلاء على غيرها من الجزر التي تتحكم في أكبر عدد من المضايق البحرية، وذلك لسد كل المنافذ والطرق أمام الأساطيل البيزنطية إذا ما رغبت في مهاجمة الأراضي المفتوحة من جهة البحر10(10) الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص16، 17”..
بناء الأسطول والتمهيد البري والبحري لفتح القسطنطينية
أدرك معاوية -مؤسس الدولة الأموية- أثناء فترة ولايته الطويلة على الشام، والتي احتك فيها عن قرب بالروم البيزنطيين -أن قوتهم البحرية هي العامل ذو الأثر القوي في بقائهم كدولة، ثم إنه أدرك- أثناء اشتراكه في فتح مدن الشام الساحلية -مدى خطر المحاولات الهجومية البحرية التي تقوم بها الأساطيل البيزنطية لاسترداد تلك المدن المفتوحة، والتي كانت تنطلق من قواعد الروم البحرية. ومن هنا رأى معاوية أنه من الضروري أن يمتلك المسلمون قوة بحرية تمكنهم من الدفاع عن الشواطئ التي امتلكوها، بل وعدم الاكتفاء بالسياسة الدفاعية المتمثلة في وضع حاميات على الشواطئ لصد الهجمات البحرية البيزنطية واستبدالها بسياسة هجومية تعتمد على أسطول إسلامي قوي يقف من الأسطول البيزنطي موقف الند، وتكون مهمته -ليس انتظار هجمات البيزنطيين لصدها- وإنما المبادرة بالاستيلاء على جزر البحر المتوسط التابعة للبيزنطيين.
وقد رفع معاوية -رضي الله عنه- أثناء ولايته على الشام- الأمر إلى الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، شارحا له أهمية هذا التوجه؛ لأنه عانى في فتح مدن الشام الساحلية عناء شديدا بسبب وجود الأسطول البيزنطي. غير أن عمر -رضي الله عنه- رفض الفكرة، خوفا على المسلمين من أهوال البحار، إذ لم يكن لهم خبرة بالحروب البحرية، بل هم أهل صحراء. ورأى أيضا أن الوقت لا يزال مبكرا للدخول في ذلك الميدان الخطر. واكتفى عمر -رضي الله عنه- بأن يقوم معاوية بتحصين الشواطئ بالحصون، وأن يملأها بالمقاتلين والمرابطين.
وفي خلافة عثمان -رضي الله عنه- “24-35هـ” رفع إليه معاوية طلبه القديم بإنشاء أسطول بحري، فرفض عثمان في أول أمر، لكنه عاد فوافق بعدما اقتنع بأهمية المشروع، لكنه اشترط أن يكون الجهاد البحري تطوعا، ولا يكره عليه أحد. وعلى الفور بدأ معاوية في تحقيق سياسته ومشروعه، فشرع في بناء الأسطول، مستغلا كل الإمكانات الموجودة في مصر والشام لصناعة السفن11(11) راجع: العصر الأموي للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف “الجزء الثاني من موسو عة سفير للتاريخ الإسلامي ص23”. وراجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 488”.، ولم تمض أربع سنوات حتى ظهر إلى الوجود أسطول إسلامي كبير نجح معاوية به في فتح جزيرة “قبرص” “28هـ” و”33هـ”. وجزيرة “أرواد” -الواقعة بالقرب من ساحل الشام بين “جبلة” و”طرابلس”- “سنة 28-29هـ”، وجزيرة “رودس” “سنة 33هـ”، وهي أهم جزر “بحر إيجة”. وتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجه وسد منافذه الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين، وذلك بالاستيلاء على جزيرة “إقريطش” “كريت”. كما أنه هزم الأسطول البيزنطي في موقعة ذات الصواري “سنة 34هـ” التي سبق الحديث عنها قبل قليل.
وهكذا وجه معاوية أنظار المسلمين شطر البحر المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ممهدا الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين سيادتهم القديمة على البحر المتوسط، ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم، والاستيلاء عليها12(12) الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي “ص92”..
منطقة الثغور الشامية وأهميتها في توسيع الفتوحات بآسيا الصغرى “الأناضول”
ولقد ارتبط بنشاط معاوية البحري وتحصين المدن الساحلية بالشام: القيام بمجهودات أخرى لحماية أطراف الشام الشمالية من إغارات البيزنطيين، وكانت الفتوحات الإسلامية الأولى للشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد وصلت إلى “أنطاكية” و”حلب” و”قنسرين”. وما أن انهزم البيزنطيون وعادوا إلى “آسيا الصغرى” “الأناضول” حتى دخلت المنطقة الشمالية من الشام في حظيرة المسلمين. وقد وضع لها نظام جديد يتفق مع متاخمتها لحدود آسيا الصغرى البيزنطية، إذ وقف المسلمون عند السفوح الجنوبية الشرقية لجبال “طوروس”، على حين تحصين البيزنطيون خلف هذه السلسلة الجبلية في آسيا الصغرى. وأدى هذا الموقف إلى تخوف كل من المسلمين والبيزنطيين من بعضهما البعض، ودفعهما إلى تحويل المنطقة التي تفصل بين ممتلكاتهما إلى خراب موحش لا يشجع أحدا على ارتياده، ونقل كل منهما سكان حدودهما إلى داخل البلاد، وترك حصونهما مقفرة، ومنازلهما خالية من العمران.
ولقد لقي المسلمون متاعب جمة وصعاب كبيرة في حملاتهم التي قاموا بها عبر هذه الجهات الجبلية التي تفصل شمال الشام عن آسيا الصغرى، إذ كان عليهم اجتياز بعض الدروب والممرات الجبلية وجبال “طوروس” لمهاجمة البيزنطيين. ولم يلبث المسلمون أن عملوا على تلافي هذه الأخطار بترك حاميات عسكرية عند الثغرات الجبلية التي ينفذون منها، ثم تطور الأمر إلى اهتمامهم بتحصين المدن التي تتحكم في هذه الممرات، بإعادة بناء الحصون المخربة التي دمرها البيزنطيون أثناء تقهقرهم، وبناء حصون جديدة، ومن هنا انتشرت سلسلة من الحصون في المنطقة الإسلامية الملاصقة للدروب والممرات التي ينفذ منها البيزنطيون من جبال طوروس لمهاجمة شمال الشام، وعرفت هذه المنطقة باسم “الثغور”، على حين أطلق اسم “العواصم” على سلسلة الحصون الخلفية لمنطقة الثغور. ولم تلبث هذه المناطق أن اتسعت، واهتم معاوية وقادته بتعميرها وتحصينها، وتشجيع المسلمين على الإقامة فيها، وإرساء نظم عسكرية وإدارية فعالة مكنتها من القيام بوظيفتها على أكمل وجه13(13) الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي “ص100-103”.، ألا وهي: الهجوم على الدولة البيزنطية ذاتها، وفي عقر دارها.
وقد عرفت الغزوات التي كانت تخرج من منطقة الثغور والقلاع لمهاجمة أراضي البيزنطيين باسم “الصوافي والشواتي”، حيث كانت الغزوات الإسلامية تقوم صيفا وشتاء، وتتوغل في بلاد الروم، ثم تعود إلى قواعدها مرة أخرى بعد الانتهاء من مهمتها. واستهدفت إنهاك قوة الروم وشغلهم في ديارهم بسلسلة لا تنقطع من الحملات، صيفا وشتاء، برا وبحرا، وكانت تهدف -في الوقت نفسه- إلى إيجاد ميدان يتدرب فيه الجند الإسلامي على أساليب القتال والقيادة، وتخريج جيل جديد من المحاربين والقادة العسكرين، وإعدادهم للقيام بمشاريع الفتوحات الكبرى فيما بعد14(14) الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى “ص19″، الأمويون والبيزنطيون للدكتور إبراهيم العدوي “ص104-105”.، ولا تكاد سنة من سني خلافة معاوية “41-60هـ” تخلو من صائفة أو شاتية إلى بلاد الروم كما أنها لم تنقطع طوال العصر الأموي باستثناء فترات الفتن الداخلية.
وقد أسفرت هذه الغزوات البرية عن تأكيد الهيمنة الإسلامية على نواحي كبيرة من آسيا الصغرى، كما أسفرت عن فتح بعض البلاد والحصون البيزنطية في البر، مثل “زبطرة” و”ملطية” و”أنطاكية” وإقليم “أرمينية”.
وهكذا بدت غزوات البر والبحر في خلافة معاوية -رضي الله عنه- تمهد للاستيلاء على “القسطنطينية” قلعة الروم المنيعة، التي إذا ما سقطت هي سقطوا هم.
الهوامش
(1) تاريخ خليفة بن خياط، ص”230″.
(2) فتوح البلدان، للبلاذري، تحقيق د. صلاح الدين المنجد -القسم الأول “ص162” “ط القاهرة 1956م”. والكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 342″، “ط دار الكتب العلمية، بيروت 1987م”.
(3) راجع: الكامل لابن الأثير “1/ 404”.
(4) تبعد جزيرة “قبرص” عن الساحل السوري “90كم” وعن الساحل التركي “65كم”، وعن الساحل المصري “400كم”، وعن الساحل اليوناني “900كم”، ويبلغ أقصى طول لها “235كم”.
(5) راجع: تاريخ البحرية الإسلامية في مصر والشام “ص132-20″، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس “ص285”.
(6) راجع تفاصيل عن المعركة: تاريخ الطبري “4/ 290، 291″، تاريخ البحرية الإسلامية للدكتور السيد عبد العزيز سالم “1/ 28-31″، أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس ص”285”.
(7) الأمويون والبيزنطيون “ص98، 99”.
(8) نادية مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص13- بتصرف يسير”.
(9) راجع: الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور رمضان عبد التواب “ص96 وما بعدها” .
(10) الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص16، 17”.
(11) راجع: العصر الأموي للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف “الجزء الثاني من موسو عة سفير للتاريخ الإسلامي ص23”. وراجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 488”.
(12) الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي “ص92”.
(13) الأمويون والبيزنطيون، للدكتور إبراهيم العدوي “ص100-103”.
(14) الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى “ص19″، الأمويون والبيزنطيون للدكتور إبراهيم العدوي “ص104-105”.
المصدر
كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ22-31.
اقرأ أيضا
موجز عن الفتوحات الإسلامية في الشرق