في معركة القادسية تمكن المسلمون من تحطيم القوة الميدانية، للجيش الفارسي، وأدى مقتل رستم إلى زيادة اليأس، والاضطراب في المجتمع الفارسي.

مقدمات المعركة

تحركات الفاروق رضي الله عنه

قدر عمر خطر الاصطدام بالفرس حق قدره، وكان شديد القلق، وهو يتلقى أنباء الحشود الفارسية الهائلة المتقدمة نحو الحيرة حيث معسكر المسلمين، وكاد الوقت أن يكون لغير صالح الخلافة دون أن يتاح لها القيام بدور ما لتبديد هذا القلق، وإنقاد قواتها في العراق؛ لولا التدابير السريعة التي اتخذتها.

لقد قرر عمر عدم التراجع على الجبهة الفارسية مقتنعًا بأن الموارد البشرية الهائلة التي اكتسبها بتطبيع العلاقات مع قبائل الردة، وكذلك الموارد المادية الجيدة التي يمكن الاستفادة منها من فتوح الشام؛ كافية لتكوين قاعدة متينة لمواجهة التحدي الفارسي.

لذلك ما كادت كفة الصراع في بلاد الشام تتحول لصالح المسلمين، حتى تحولت الجهود الجدية إلى العراق، وحصر الخليفة زمام المسئولية، والمبادرة والقيادة بين يديه، وقال: “والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب”11 – الطبري: ج3 ص478..

وبعد مشاورات مستفيضة مع كبار الصحابة، تقرر إعادة انتشار القوات الإسلامية في العراق كخطوة أولى لتجنيبها خطر الإبادة على يد الفرس بانتظار قذف قوى جديدة إلى ميدان المعركة، فكتب عمر إلى المثنى يأمره بالخروج من بين ظهري الأعاجم، ويتنحى إلى البر، ويتفرق في المياه التي تلي الأعاجم على حدود الجزيرة العربية، فنزل المثنى بذي قار، ووزع قواته بالجل، وشراف إلى غضي، فتفرقت في المياه من أول صحراء العراق إلى آخرها من غضي إلى القطقطانة، مسالح ينظر بعضهم إلى بعض.

وقام عمر بتكثيف سياسته التعبوية بين قبائل الردة، وحثها على الانخراط في الجيش الذي سوف يقذف به إلى العراق، وأخذ يجمع كل قادر على حمل السلاح والقتال، ثم أمر جميع القبائل المقاتلة التي كانت مع خالد بن الوليد في السواد، وذهبت معه إلى الشام، بالعودة إلى العراق، والالتحاق بجيوش المسلمين هناك.

تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للحملة

وهكذا اجتمع لدى عمر بضعة آلاف مقاتل تدفقوا عليه من كافة أنحاء الجزيرة العربية، فعزم على قيادتهم بنفسه، فاستدعى عليًا بن أبي طالب، وسلمه أمور الخلافة، وخرج من المدينة وتوجه ناحية العراق، وقد فجر ترؤس عمر للجيش الإسلامي حماسًا عامًا بين وحداته القتالية، ووصل إلى صرار، وهو أول منازل السفر إلى العراق، وعسكر على ماء هناك.

ويبدو أن كبار الصحابة رأوا في ذهاب أمير المؤمنين إلى أرض المعركة بنفسه لا يتلاءم مع المصلحة العامة، فعرضوا عليه أن يبقى في المدينة، ويعين قائدًا للجيش الذاهب إلى العراق، وتقرر بعد التشاور تعيين سعد بن أبي وقاص قائدًا عامًا للحملة، وهو أحد الصحابة المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم، والمشاركين في العمليات العسكرية الأولى بين المدينة ومكة، وكانت كفاءته والظروف الصعبة التي يمر بها المسلمون في العراق وراء اختياره لهذه المهمة، ومع ذلك، فقد أمسك الخليفة، بزمام أمور الحملة كلها على سبيل الحيطة، والحذر من واقع إرسال الأوامر والتوجيهات باستمرار إلى قائده تتعلق بتحركات الجيش، وإدارة المعركة وتقسيم العسكر وغيرها من الأمور، ولم يكن سعد يقدم على عمل دون توجيهاته الخاصة.

خرج سعد من المدينة على رأس أربعة آلاف مقاتل اصطحبوا معهم نساءهم وأبناءهم، قاصدًا العراق، وكان عمر يردفه بمن يتوافد على المدينة من المقاتلين، فوصل إلى زرود وعسكر فيها22- المصدر نفسه: ج3 ص486..

كان المثنى آنذاك في ذي قار ينتظر قدوم سعد ليتقدما معًا إلى الحيرة، لكن مقامه لم يطل إذا توفي متأثرًا بجراحه التي أصيب بها في معركة الجسر، وكان قد كتب وصية لسعد تتضمن خلاصة تجاربه العسكرية في العراق، وأمر أخاه المعنى أن يعجل بها إليه.

كانت الحملات الإسلامية السابقة تستهدف دخول المدائن عن طريق اختراق أرض العراق من خلال إقليم الحيرة، إذ يعد هذا الإقليم القاعدة المتقدمة للوثوب على عاصمة الساسانيين، ومع ذلك لم يغب عن تفكير أبي بكر الصديق من قبل، وعمر بن الخطاب من بعد، وقادتهما، أهمية منطقة الأبلة وشط العرب، لذلك كتب عمر إلى سعد أثناء خروجه من زرود إلى شراف: (أن ابعث إلى فرج الهند رجلًا ترضاه يكون بحياله، ويكون ردءًا لك من شيء إن أتاك من تلك التخوم)33- المصدر نفسه: ج3 ص487، 488.، فأرسل سعد المغيرة بن شعبة على رأس خمسمائة فارس، فتمركز في غضي بالصحراء تجاه البصرة، حيث كان جرير بن عبد الله البجلي ما زال هناك منذ أن أرسله المثنى، ولكن جريرًا سوف ينضم إلى قوات سعد المتقدمة باتجاه الحيرة، وكذلك سوف يفعل المغيرة، فاختص شريح بن عامر أحد بني سعد بن بكر بالتمركز في ثغر الأبلة، وكان يغير على المناطق المجاورة، ومضى إلى الأهواز من أرض إيران.

كانت محصلة جملة هذه التدابير تشكيل جيش بلغ تعداده بضعة وثلاثين ألف مقاتل، والجدير بالذكر أن عمر، وسعدًا بتنظيمهما لهذا الجيش قاما بوضع الأشكال التنظيمية الأساسية لجيوش المسلمين في هذه المرحلة، وهي ستغدو عما قريب الأساس التنظيمي لديوان عمر، كما بلورت وعيًا جديدًا لدى المقاتلين حيث بدا واضحًا توسع رقعة الاستفادة من الغنائم بالانتقال من غزو قرية، أو مدينة إلى غزو شامل للأراضي الفارسية بأكملها، وأن المعادلة الآن هي إما الخسران الكامل، أو الربح الكامل.

كتاب عمر ووصية المثنى لسعد بن أبي وقاص

استقبل سعد، وهو في شراف، المعنى بن حارثة الذي سلمه وصية المثنى ليستأنس بمضمونها في حروبه، وفيها: “ألا يقاتل عدوه وعدوهم -يعني المسلمين- من أهل فارس، إذا استجمع أمرهم وملأهم في عقر دارهم، وأن يقاتلهم على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، وأدنى قدرة من أرض العجم؛ فإن يظهر الله المسلمين عليهم فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى فأووا إلى فئة، ثم يكونوا أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم؛ إلى أن يرد الله الكرة عليهم”44-  المصدر نفسه: ج3 ص490..

وكتب عمر إلى سعد وهو بشراف كتابًا يتضمن نصائح عسكرية تماثل ما تضمنه كتاب المثنى، حيث استفاد من تجارب الحروب السابقة مع الفرس، فوضع له خطة عسكرية تقوم على قاعدتين:

الأولى: اختيار مكان مناسب لخوض المعركة على أن يكون على الحدود الطبيعية بين الصحراء، وبين المسالك والمسطحات المائية، ويحفظ خط الرجعة لجيش المسلمين إذا دارت الدائرة عليهم؛ لأنه ليس وراءهم إلا الصحراء، في حين تكون هذه العوائق المائية نكبة على الفرس إذا دارت الدائرة عليهم؛ لأنها ستعرقل انسحابهم.

الثانية: أن تكون المعركة حاسمة تقضي على القوة الميدانية للجيش الفارسي بحيث يتعذر على الفرس حشد قوة أخرى بعدها55- المصدر نفسه: ص490، 491..

أرسل سعد زهرة بن الحوية إلى العذيب كطليعة، وكانت هذه القرية من مسالح فارس الحصينة، وتحوي مخازن أسلحة الفرس، ولما وصل إليها دخلها دون قتال؛ لأن الفرس قد هجروها، وارتحل سعد في إثره، فأنزل فيها نساء المسلمين، ووضع فيها حامية عسكرية بقيادة غالب بن عبد الله الليثي، ثم تابع تقدمه حتى وصل إلى القادسية، فتمركز بحصن قديس، في حين عسكر زهرة أمام قنطرة العتيق، وهي مفتاح المرور بتلك الجبهة، وذلك بناء على أوامر الخليفة66- المصدر نفسه: ج3 ص494، 495..

واجه سعد في بداية الأمر مشكلة تأمين المواد التموينية لقواته الضخمة، وبخاصة أنه متمركز على تخوم الصحراء، وبعد مشاورات مع المدينة تقرر أن يمدهم الخليفة بما يلزم اعتمادًا على سهم “سبيل الله” من الزكاة التي تؤديها قبائل الجزيرة العربية، بالإضافة إلى ما يؤمنه الجيش من واقع ما يشنه من غارات على نواحي العراق بين كسكر والأنبار77- المصدر نفسه: ج3: ص495..

أقام سعد مدة شهر في القادسية، وعلم خلال ذلك، من أهل الحيرة، أن يزدجرد عين رستم قائدًا لجيش فارس، وأمره بمحاربة المسلمين، والواقع أن القائد الفارسي كان له رأي آخر، إذ فضل أن يبقى في المدائن، وعرض على الإمبراطور الفارسي رأيه في عدم التسرع بالحرب، واقترح إرسال الجالينوس.

أتاح هذا التردد في الزحف للمسلمين القيام بغارات على قوى السواد، كانت شديدة أحيانًا، وذلك بهدف تأمين مواد التموين من جهة، وشن حرب استنزاف على الفرس من جهة أخرى، آتت هذه الغارات أكلها، فأثر ضغطها المادي والنفسي على السكان والدهاقنة، فكثرت استغاثتهم بيزدجرد، وهددوا بالاستسلام للمسلمين إذا لم ينجدهم الملك على وجه السرعة.

تحرك رستم لمحاربة المسلمين

قطع هذا التهديد كل تردد، فأمر يزدجرد رستم بالخروج فورًا من المدائن لمحاربة المسلمين، فسار إلى ساباط على طريق الحيرة وعسكر فيها، ومكث أربعة أشهر يتثاقل عن الخروج منها يتنازعه الإحجام عن القتال خشية الخسارة، والاندفاع لخوض معركة سافرة مع المسلمين يقضي عليهم، ويطردهم من العراق، إذ لم يكن تقدير الموقف العسكري المائل لصالح هؤلاء غائبًا عن ذهنه، على الرغم من الاستعدادات الفارسية الضخمة، ومن المستبعد أن يكون قد رجح النصر في الوقت الذي قدر فيه الخسارة، أو لعله تمهل ظنًا منه أن يهن المسلمون إذا لم يجدوا مؤونة تكفيهم، أو يسأموا طول المقام، فينصرفوا إلى بلادهم، وأخيرًا وصل إلى القادسية، وعسكر فيها في مقابل المسلمين.

كان الموقف خطيرًا، حيث بدأ رستم يجتاح الإقليم بقواته الضخمة البالغة مائة وعشرين ألف مقاتل نصفهم من الفرسان الدارعين، معززين بالفيلة، والأدوات الحربية المتطورة قياسًا إلى الأسلحة التي كانت بحوزة المسلمين، فالتفوق كان ملحوظًا، نظريًا، لمصلحة الفرس، إلا أنهم لم يكن باستطاعتهم الارتقاء إلى مستوى القضية، وهي السلاح الأقوى لدى المسلمين، فقد بلغ النظام الساساني آنذاك حدًا كبيرًا من الانهيار، وانحدرت معه قيم المجتمع لتخدم مصالح الفئة الحاكمة التي التفت حول يزدجرد، والمرتبطة عضويًا بمصالح كبار رجال الدين، مما ولد حالة من التباعد بين النظام والشعب.

المفاوضات التي سبقت المعركة

كتب سعد إلى عمر يشرح له الموقف الميداني، فأجابه عمر بأن يبعث إلى صاحب الفرس من يناظرونه، ويدعونه إلى الإسلام قبل الإقدام على القتال. فامتثل سعد لأوامر الخليفة، لكن المباحثات التي جرت بين الوفد برئاسة النعمان بن مقرن المزني ويزدجرد، انتهت بالفشل، وقد غضب الملك الفارسي عندما عرض عليه النعمان إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية، أو الحرب، وقد جرحت كبرياؤه أمام حاشيته وبطانته، وقد عد العرب أشقى، وأسوأ الناس “إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكًا يرفق بكم88- المصدر نفسه: ج3 ص499..

وجرت اتصالات مكثفة بين سعد ورستم قبل القتال، وتبادلا السفراء، ففي غمرة تردد رستم في خوض معركة سافرة مع المسلمين، بعث برسالة إلى سعد يطلب منه إرسال رجل من عنده يفاوضه بشأن الصلح، فكلف سعد ربعيًّا بن عامر بهذه المهمة، فعرض عليه أن يختار واحدة من ثلاث: الإسلام أو الجزية، أو الحرب، وأمهله ثلاثة أيام، وترددت الرسل بين القائدين كان آخرهم المغيرة بن شعبة المشهور بفصاحته وبلاغته، وقد تمكن من إثارة حفيظة رستم أثناء المناقشة التي لم تخرج عن إطار العرض الإسلامي السابق، فيما عرض رستم منح المسلمين العطايا مقابل العودة إلى بلادهم، فرد عليه المغيرة: “إن لم تقبل الإسلام أو الجزية، فسيكون الحكم للسيف”، فاستشاط رستم غضبًا، وأقسم بالشمس: “لا يرتفع الصبح غدًا حتى نقتلكم أجمعين”، فنهض المغيرة وانصرف، وانتهت كل آمال الصلح والمهادنة99- المصدر نفسه: ص518-525..

أحداث المعركة

أثار حديث المغيرة الحمية، والغيرة في نفس رستم، كما عظم على أصحابه أن يفرض العرب الجزية على الفرس، فأصدر أوامره بالاستعداد فورًا للقتال، وأرسل إلى سعد يقول له: “إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم”1010- المصدر نفسه: ج3 ص529.، وما كان لسعد أن يعبر النهر، ومعركة الجسر ماثلة في ذهنه، لذلك بقي في مكانه مطمئنًا إلى موقعه يحميه النهر أمامه وخندق سابور عن يمينه، والصحراء وراء ظهره، وكان لا بد لرستم من أن يعبر النهر، وبدأت جموع الفرس تتوجه نحو القنطرة ليعبروها، فضايقهم المسلمون؛ لأن سعدًا قرر أن يحتفظ بهذا الموقع نظرًا لأهميته العسكرية، إذ يعد مخرجًا سهلًا للفرس إذا دارت الدائرة عليهم، كما يتيح لهم الانتقال إلى مواقع أخرى تتيح لهم الصمود في معارك تالية أمام المسلمين، لذلك تمهل رستم حتى جن الليل، ثم أمر جنوده فطمروا العتيق بالتراب، والقصب وعبروا عليه.

عبأ رستم قواته في ثلاثة عشر صفًا الواحد تلو الآخر، فوضع الهرمزان على الميمنة والجالينوس على يساره، ووضع مهران على الميسرة، واختص هو بالقلب، وضرب لنفسه قبة نصب فيها سريره الفخم، وعين بهمن في الوسط بينه، وبين الجالينوس وبيرزان على يساره، ووزع الفيلة في مؤخرة القلب، وفي الميسرة والميمنة، ووضع الرجال على مسافات قصيرة لإيصال أخبار المعركة إلى المدائن، وهذا نظام مستحدث بدلًا من نظام البريد التقليدي.

وفي المقابل، عبأ سعد قواته، فعين زهرة بن حوية التميمي على المقدمة، ووضع عاصمًا بن عمرو التميمي في الوسط بين ميمنة عبد الله بن المعتم العبسي، وميسرة شرحبيل بن السمط الكندي، وعين صاحب الطلائع سوادًا بن مالك الأسدي على الطراز -المبارزة-، وشغل المسافات والفجوات، فخلط بين الجند في القلب، والميمنة والميسرة، واعتمد في اتصاله بالمدينة على البريد اليومي1111- المصدر نفسه..

كان مصير فارس يتوقف على نتيجة المعركة، فإذا لم يضرب رستم المسلمين في القادسية، فسوف ينهار سلطان الأكاسرة، وتزول هيبة الفرس، لذلك كان الفرسان يتحرقون شوقًا للقاء المسلمين.

لم يشترك سعد مع الجيش في المعركة؛ لأنه كان يشتكي من عرق النساء، فكان عاجزًا عن الحركة والمشي، فتمركز في قصر ملكي قديم في القادسية، واستند على وسادة، وأشرف على سير المعركة، وتوجيه المقاتلين بواسطة الرقع التي كان يرمي بها إلى خالد بن عرفطة الذي عينه قائدًا عنه، تتضمن أوامره. والتحم أقدر قائدين على أرض العراق في رحى معركة طاحنة استمرت ثلاثة أيام، ونصف اليوم، تبادل الطرفان خلالها النصر والهزيمة، وانتهت بانتصار المسملين، وقتل رستم في المعركة، كما قتل الجالينوس أثناء فراره.

رسالة الفتح إلى المدينة

نظرًا لأهمية معركة القادسية على الوضع الإسلامي العام، كان الناس في كافة أرجاء الجزيرة العربية يتابعون أخبارها شوقًا لمعرفة نتائجها، وكان عمر أشد الناس قلقًا، لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يتلمس الأخبار، ويسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى منزله.

والواقع أن سعدًا كتب إلى عمر في صباح اليوم التالي للانتصار، يبشره بفتح القادسية، ويشرح له تفاصيل ما جرى من قتال، وعندما تسلم عمر الرسالة قرأها على الناس، وعلق على هذا الإنجاز بشيء من التواضع.

استمر سعد يكتب إلى عمر كلما واجهته مشكلة جديدة ناتجة عن عملية الفتح، مثل تقسيم الغنائم، والعلاقة مع أهل البلاد المفتوحة الذين نقضوا عهود الصلح مع المسلمين، وساندوا الفرس، فيرسل إليه قرار حلها.

ففيما يتعلق بتقسيم الغنائم، كان نصيب الفارس ستة آلاف، ونصيب الراجل ألفين، فأمر عمر سعدًا أن يفضل أهل البلاء عند العطاء، فزاد كل واحد منهم خمسمائة، كما أمره بأن يعطي حملة القرآن.

وأما فيما يتعلق بالعلاقة مع أهل البلاد المفتوحة، فقد قسمهم إلى قسمين:

الأول: من استمر على عهده ولم يساعد الفرس، فلهم الذمة، وعليهم الجزية.

الثاني: من ادعى أنه استكره، ولم يخالف الفرس وأسندهم في القتال، فيجب قتلهم1212- المصدر نفسه: ص586..

تعقيب على معركة القادسية

لم يبادر عمر في الدخول في المعركة قبل إتمام الاستعدادات اللازمة، وبخاصة حشد القوى، وتنظيم الموارد، لقد بدأ حربه مع فارس بدراسة واقعية للموارد المتاحة للمعركة المطلوبة، واهتم اهتمامًا خاصًا بحشد الخطباء، والشعراء ورؤساء القبائل لما لهؤلاء من أثر معنوي في الحرب، لذلك كان تقدم سعد إلى القادسية بطيئًا.

درس عمر متطلبات الدخول في معركة ناجحة، فتضمنت الرسائل المتبادلة بينه، وبين سعد دراسة ميدانية لأرض المعركة، ومنطقة العمليات من حيث طبيعتها، ومداها، ومسافاتها، وكان اختيار الموقع بصفاته هذه هو أساس لمعركة القادسية، فاعتمدت على مزاياه كلها واستفادت منها، وبعد أن توضحت الصورة الميدانية، خطط للعمليات العسكرية.

كانت أرض القادسية عند التقاء الصحراء بالسواد، ووراءها الصحراء العربية، وأمامها أنهار السواد وبطائحه المغمورة بالمياه والزرع، فإذا كانت المعركة لصالح المسلمين، انحصر الفرس بين الأنهار، وتعذر على قواتهم الكثيفة الانسحاب، مما يجعلهم هدفًا سهلًا للمسلمين، أما إذا دارت الدائرة على المسلمين، فخط رجعتهم مفتوح على الصحراء التي يتوه فيها الخصم.

سبق المسلمون الفرس في الوصول إلى أرض المعركة، فاتخذوا مواقعهم فيها قبل أن يعبر هؤلاء، ثم لم يتركوا لهم متسعًا مناسبًا يستوعبهم استيعابًا مريحًا. ففرضوا عليهم مكان المعركة، وظروفها القتالية حين حرموهم من حرية الحركة، والانتشار الضروريين لخوض معركة ناجحة.

يتبين من دراسة مواقع تمركز الطرفين، أن الشمس كانت تقابل وجوه الفرس، فتضايقهم كما حرمتهم من وضوح الرؤية، بينما هي في ظهور المسلمين.

تمتع المسلمون بمعنويات مرتفعة، قائمة على إيمان قوي لا يتزعزع، منحت المقاتلين أعلى درجات الشجاعة، فهاجموا الفيلة المدرعة، والمدربة وعليها المقاتلين، وأخرجوها من المعركة مما أحدث أثرًا مزدوجًا، إذ ارتاح المسلمون منها كما فجع الفرس بخروجها؛ لأنهم كانوا يعتمدون عليها، ويعدونها سلاحهم الرهيب، كما واجهوا الأعداد الهائلة من المشاة الفرس، وفرسانهم الدارعين.

تمتع الفرس بمميزات لم تكن للمسلمين، كانت الكثرة العددية إلى جانبهم، وأفضلية العدة والسلاح ونوعيته، وسلاح الفيلة، وستون ألفًا من الفرسان، ودرجات عالية من الكفاءة القيادية، والعسكرية تمثلت في رستم، وأركان حربه، الهرمزان والجالينوس، وبهمن جاذوبه وبيرزان، ومهران وغيرهم، واستقرار سياسي حيث التف الجمع حول يزدجرد ينصرونه، ويؤازرونه مع توقف حروب الدولة على جبهات أخرى مع البيزنطيين وغيرهم، يقاتلون في ديارهم؛ ومع ذلك كله فقد انتصرت القلة المؤمنة المسلحة على كل تلك الإمكانات.

كثرت خطب الحماسة، والتشجيع أثناء التحضير للمعركة، تذكر من ذلك قيام عاصم بن عمرو أحد قادة القادسية، الذي ألقى خطبة مؤثرة، حث فيها المقاتلين على الصبر والقتال.

تشير الخطب والسجالات المتبادلة بين سعد، ورستم قبل بدء القتال، إشارة واضحة إلى أن خروج المسلمين من الصحراء، وما نجم عن ذلك من اندماج يومي فيما بينهم، وعلاقات متبادلة مستمرة من جهة، واصطدامهم الحضاري والثقافي مع الفرس الممعنين في الحضارة من جهة أخرى؛ أدى تدريجيًا إلى بداية تشكيل وعي عربي -إسلامي عام، وشامل يتجاوز حدود الوعي القبلي الضيق، ولم يكن هذا الوعي الجديد إفرازًا لعملية التوسع، وإنما أيضًا عاملًا مدعمًا لها ومؤثرًا فيها، تأثيرًا بناء وإيجابيًا.،إذا كان أهل الحضارة قد نافروا برقيهم وتفوقهم، وعيروا العرب ببداوتهم، فإن العرب لم ينكروا ذلك، بل أقروه كما فعل المغيرة بن شعبة في رده على رستم، لكن طرأ ما بدل الحال العربية، فكان الدين الإسلامي الذي اعتنقته القبائل العربية، وراحت تحتمي به، وتستمد منه العزة، والثقة التي تحتاجها لمتابعة توسعها، وهكذا غدا العرب أصحاب دين ورسالة، وبالتالي أصحاب ثقافة، كانت المبرر لعمليات الفتوح، وعلى هذه الصورة أخذ الدين الإسلامي يتحول إلى مكون سياسي للهوية الثقافية، والحضارية للشخصية الفاتحة التي كانت تحتاج إلى سلاح معنوي بالإضافة إلى سلاحها المادي، يبرر لها وللآخرين مشروعية غزوها لملك الآخرين بعامة.

عرفت القادسية في الجاهلية بأنها باب فارس، حيث اتخذ سعد مركز قيادته، وسجل التاريخ نصرًا جديدًا لقوات المسلمين المنسجمة والمتلاحمة، كما سجل بداية عملية الفتوح الحقيقية لبلاد فارس، وبالتالي انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية، ووفرت الفرصة التاريخية الكبرى التي سمحت للمسلمين بالتدخل، والتوغل في عمق الأراضي الفارسية دون عقبات كبيرة، وغدت مسألة إخضاع البلاد بعد هزيمة رستم، مسألة وقت.

تمكن المسلمون من تحطيم القوة الميدانية، للجيش الفارسي، وأدى مقتل رستم إلى زيادة اليأس، والاضطراب في المجتمع الفارسي.

تساوت القادسية في أهميتها ودورها مع اليرموك.

عادت بعض القبائل العربية الضاربة في الشمال إلى طاعة المسلمين، واعتنق بعضها الإسلام.

الهوامش

1 – الطبري: ج3 ص478.

2- المصدر نفسه: ج3 ص486.

3- المصدر نفسه: ج3 ص487، 488.

4-  المصدر نفسه: ج3 ص490.

5- المصدر نفسه: ص490، 491.

6- المصدر نفسه: ج3 ص494، 495.

7- المصدر نفسه: ج3: ص495.

8- المصدر نفسه: ج3 ص499.

9- المصدر نفسه: ص518-525.

10- المصدر نفسه: ج3 ص529.

11- المصدر نفسه.

12- المصدر نفسه: ص586.

المصدر

كتاب: “تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية” محمد سهيل طقوش ، ص93-105.

اقرأ أيضا

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

الثورة العربية الكبرى .. والتآمر على العالم الإسلامي

سقوط غرناطة .. وفتنة ولاء الكافرين

 

التعليقات غير متاحة