الإخلاص لا يتحقق في الدعوة إلا عندما يتأكد الداعية أن قصده رضا الله تعالى ، ويحرر نفسه من قيود الرياء ، وطلب الشهرة أو المدح أو الظهور أو السمعة ، وطلب المنزلة في قلوب الناس واستقطابهم ، أو حب التصدر والرئاسة والجاه ، ويتخلص من السعي خلف شهوة المال والجاه .
الإخلاص في الدعوة
إن الدعوة إلى الله عز وجل وإلى توحيده وعبادته إن لم يصاحبها الإخلاص لله سبحانه، وابتغاء وجهه عز وجل، وعدم الطمع في الأجر من الناس أو نيل أي عرض من الدنيا فإنها دعوة منزوعة البركة عديمة الأثر على الناس؛ فوق ما فيها من فوات الأجر والثواب من الله عز وجل. وهذا أمر يجب أن يتفطن إليه الدعاة إلى الله سبحانه أفرادا وجماعات، والحذر من أن تتلوث النيات بهذه الدنيا الفانية، سواء كانت هذه الدنيا مالا أو جاها أو منصبا أو ثناء وشهرة أو غير ذلك. ويجب أن يكون لنا الأسوة الحسنة في أنبياء الله عز وجل وأصفيائه حيث أعلنوها في بداية دعوتهم: أنهم لا يبتغون من الناس أجرا ولا مالا على دعوتهم لهم، وإنما أجرهم على الله عز وجل. ولقد قالها كل نبي لقومه فصارت معلما مهما من معالم دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب الوقوف عنده ومحاسبة النفوس على ضوئه وهديه.
الإخلاص أساس رسالات الأنبياء
ولقد قص الله عز وجل في سورة الشعراء خبر بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام وما قالوه لأقوامهم. ومن هؤلاء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام. وقد أخبر الله سبحانه عنهم جميعا وبصيغة واحدة اتفقت في حروفها ومعانيها. فما قاله نوح قاله هود وصالح ولوط وشعيب عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. وأكتفي بما قاله سبحانه عن نوح عليه الصلاة والسلام وهو الذي قاله بقية الأنبياء، قال الله عزوجل: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء : 105 – 109]، والشاهد من هذه الآيات اتفاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على قول: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ بعد اتفاقهم على التوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده .
وقال الله عز جل على لسان الرجل الصالح في وصفه للمرسلين: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [يس: 21-20]، وأخبر الله عز وجل عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف: 104]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ ص: 86]. والآيات في هذا كثيرة جدا.
صاحب العقيدة لا يأكل إلا من كسبه
إن إخلاص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لربهم، وترفعهم على الدنيا وزخرفها، وإرادتهم وجه الله عز وجل في كل حركة وسكنة من حياتهم. جعل حياتهم تتسم بالزهد والتعفف عن ما في أيدي الناس، وكان كسبهم من عمل أيديهم؛ فموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام عملا بالأجرة في رعي الغنم، وزکریا کان نجارا، وداود كان يعمل في الحديد وصناعة الدروع وأثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «… ولا يأكل إلا من عمل يده»1(1) البخاري في أحاديث الأنبياء ( 3417)..
وفي هذا عزة النفس وحريتها، وقطع الطريق على من يريد المساومة والضغط عن طريق المال للتخلي عن الحق أو قول الباطل، فوق أنه يعين على الإخلاص لله عز وجل. وهذا أمر مهم يجب محاسبة النفوس عليه وأطرها علیه أطرا. فهو دليل على صدق الداعية وأنه صاحب عقيدة ومبدأ حق يعمل بما يدعو إليه ولا يسأل الناس أجرا على دعوته، ولا يربط رزقه بما في أيديهم وإنما يرجو رضى ربه سبحانه ويخاف عذابه.
وإن الحذر من الدنيا وفتنتها يجب أن يكون على أشده في مثل زماننا اليوم الذي انفتحت فيه الدنيا على الناس وتعرض بعض الدعاة لفتنة المال والمناصب وأصبح بعضهم يطلب العلم للوظيفة ويدعو إلى الله من أجل الوظيفة!!
سليمان عليه السلام وفتنة المال
وإن الحديث عن هذا المعلم من هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إطالة الكلام حوله. ولكن أختم الكلام فيه بموقف نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من ملكة سبأ عندما أرسلت إليه المال كهدية تختبره بها ، فإن كان من ملوك الدنيا الذين لا هم لهم إلا المال قبلها، وإن كان ملكا مؤيدا من الله تعالی ردها. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [النمل: 36-37].
يعلق الشيخ العدوي أثابه الله على هذا الموقف الحازم من سليمان عليه السلام وترفعه على الدنيا فيقول: (أي فلما جاء رسول بلقيس سليمان يحمل الهدية غضب سليمان وقال منكرا لذلك العمل: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ وهل أنا من طلاب المال الذين يفتنون به؟ وذلك هو المنتظر من نبي كنبي الله سليمان، لا يقبل رشوة في سبيل سكوته عن مطالبتها بالإسلام، وتركها بدون أن يدعوها إلى الله تعالی.
﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾ لأن الله أعطاه ملكا ونبوة أما هم فأعطوا ملكا لم يكن معه نبوة، أو المعنى: فما آتاني الله من فیض رحمته وواسع فضله في العلم والحكمة: خير مما آتاكم من المال؛ لأن المال عرض زائل، أما ذلك الفضل الوافر، والرحمة الواسعة ورزق الله المعنوي فهو خير من رزقكم الحسي، وقد فتن الناس بالمال منذ خلقه الله، وظنت بلقيس أن سليمان ممن فتن كبقية الناس ولذلك أرسلت إليه بهدية لتنظر ماذا تترك في نفسه من الأثر، وإلى أي حد تؤثر عليه وعلى دعوته، وهل تلك الهدية تكون مدعاة لسكوته عن الدعوة، وإعراضه عن الفتح الذي أرسل الكتاب تمهيدا له، أو هو سيقابل المال كما يقابله به أصحاب النفوس العالية؛ يقابله بالرفض والتعفف، والإباء والعظمة، كل ذلك من أغراض ملكة سبأ.
فلم تجد من سليمان سوى هذه الكلمة الغالية ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾.
ويحق لكل مصلح أن يقول هذه الكلمة كلما عرضت عليه رشوة ، أو تقدم المبطل إليه بعرض من الأعراض الزائلة، فإذا عرض الناس عليه منصبا ليتلهى به عن دعوته، ويسكت به عن مبادئه، ويطيع به داعي الهوى فليقل كما قال سليمان: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾ لأنه أعطي خلق عظيما، وعقيدة صالحة وأصبح منارا يهتدي به السائرون، ويستضيء به الضالون، أعطي علما قد جهله الناس، وخلقا قويا متينا، نعم إذا طولب المصلح أن يسكت عن إصلاحه وأن يتغافل عن أخلاقه ومبادئه في سبيل وظيفة أو مال، وسواء أكانت تلك الوظيفة متعلقة بشخصه أو بأحد أولاده وأسرته – إذا طولب المصلح بشيء من ذلك فلا ينسى ما قاله سليمان لأمراء بلقيس: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾.
وكثيرا ما يلجأ المستعمرون إلى ذلك النوع من الرشوة، وهذا الأسلوب من تملك قلوب الناس، فيتفرسون القوم ويتعرفون العنصر المتحرك الذي من شأنه أن يقض مضاجعهم، ويؤلب عليهم فيساومونه على الوظيفة ويبتاعون شرفه وكرامته بدراهم معدودة؛ فإن كان همه المال أجابهم إلى ما طلبوا، ومن كانت دعوته خالصة آثر الفقر على الغنى وأبى أن يقبل ذلك، وقدوته الصالحة، وأسوته الحسنة: نبي الله سليمان، إذ يقول لملكة سبأ: ﴿فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم﴾2(2) دعوة الرسل ص (309-310)..
الهوامش
(1) البخاري في أحاديث الأنبياء ( 3417).
(2) دعوة الرسل ص (309-310).
اقرأ أيضا
الصبر والتقوى من أخلاق الأنبياء
النصح والرحمة بالناس من أخلاق الأنبياء
الولاء والبراء على أساس العقيدة من هدي الأنبياء
مراعاة السنن الربانية .. من هدي الأنبياء