إن من أشد مواطن الخذلان، أن يتنازل المرء عن ثوابت دينه العقدية والتشريعية فرارًا من مرمى الاتهام بالتطرف الفكري والتعصب الديني، وفاقم من خطورة هذه الأوضاع أن تبناها وروجها بعض عمائم السلاطين، الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.

الخوف من الخذلان

قال ابن القيم رحمه الله: ” قال الله لأكرم خلقه عليه {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}…فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت”.

وفي عصرنا هذا الذي يموج بفتن كقطع الليل المظلم، ويكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر، يتأكد خوف المرء على دينه وعقيدته، ويقوى داعي خوفه من الخذلان.

بعض مظاهر ومواطن الخذلان

وإن من أشد مواطن الخذلان، أن يتنازل المرء عن ثوابت دينه العقدية والتشريعية فرارًا من مرمى الاتهام بالتطرف الفكري والتعصب الديني، وفاقم من خطورة هذه الأوضاع أن تبناها وروجها بعض عمائم السلاطين، الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.

ويلزمك حتى تكون مستنيرًا معتدلا وسطيا لدى هؤلاء، أن تخضع تعاليم دينك لأهواء البشر، والذائقة الإنسانية، ومتطلبات الوحدة البشرية، وننسى في زحام التفاعل البشري أننا عبادا لله، أتينا إلى هذه الدنيا لغاية واحدة، وهي أن نكون خاضعين لسلطان الله طوعًا {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}، وهي أمانة التكاليف الشرعية والقيام بحق الألوهية، وهو ما يحمل معنى العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

نسينا أننا مهما خضنا غمار الثقافة والرقي والتحضر والانفتاح أننا عباد لله، لا ينبغي لنا العدول عن أمره ووحيه، ولا يسوغ لنا بأي حال أن نرد خبرًا ثابتًا أو حكمًا قطعيا من أجل استرضاء أحد كائنا من كان.

إن من مظاهر الخذلان، إخضاع العقائد والأحكام للأهواء البشرية، وقد عدّ القرآن الهوى إلها يُعبد من دون الله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }، فترى من يأتيه الحكم يتبجح قائلا: لست مقتنعا، عقلي لا يقبله !

*بئس العقل الذي يردّ نصا ويرفض حكما قاله به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الشاطبي رحمه الله: ” المقصد الشرعي من وضع الشريعة، إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا”.

ومن مظاهر هذا الخذلان، إضفاء لقب الإيمان على غير المسلمين الموحدين، وكأنه لقب يتردد في أروقة القصور والدواوين والوظائف الحكومية، يوزعونه كيفما شاؤوا، ويلزموننا أن نشهد لهم بالإيمان وإلا وصفونا بالتطرف والإرهاب والغلو، فماذا نفعل مع قول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؟

وكيف نساوي بين من قال الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وبين من نسب لله الزوجة والولد؟

وكيف نفعل بقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»؟

*ومن مظاهر الخذلان، محاولة إثبات وسطية الإسلام وإبراز القيم الإنسانية التي جاء بها، بالجنوح إلى تقديم الدين في قالب يرضي توجهات المخالف ولو أتى ذلك على حساب الشريعة وميّع ثوابت الدين، فيسعى حينًا لخلط المنهج الإسلامي بغيره ليثبت أن الاشتراكية من الإسلام، أو أن الليبرالية لها جذور في الإسلام، أو قد يركب موجة الفكر المعتزلي لإقصاء بعض النصوص التي يُزعم أنها لا توافق العقل للهرب من وصف المسلمين بالرجعية والتخلف.

ومن مظاهر الخذلان، الإقرار بالبدع والمحدثات التي ساقها الموروث الفكري والثقافي للمجتمع، والتي هي آفة الأمم التي تعامل معها المرسلون {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، وذلك بدعوى تأليف القلوب، والتدرج مع الناس في الأحكام، وليس لهم في هذا المنهج بصيرة ولا هدى ولا كتاب مبين.

ومن مظاهر الخذلان، الالتفاف حول الشريعة لضربها عن طريق الاقتصار في تلقي الأحكام عن القرآن وحده، وترك السنة، بحجة أن منها الصحيح والضعيف والموضوع، وأنها ليس معصومة كالقرآن.

لقد كذبوا والله، فالسنة الصحيحة معصومة، وقولهم هذا حجة عليهم، فكيف علمنا بالضعيف والموضوع لولا أن السنة الصحيحة معصومة، وكما يقول الشاطبي في الاعتصام: ” السُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَمَلُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ حُجَّةً عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ وَصَاحِبَهَا مَعْصُومٌ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ عِصْمَةٌ؛ إِلَّا مَعَ إِجْمَاعِهِمْ خَاصَّةً”.

سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، قد عصمها الله تعالى بأن هيأ لها أهل العلم الذي اعتنوا بتمييز الصحيح من السقيم ونقحوا السنة من كل دخيل، وتشددوا في قبول الرواة فيما يسمى بعلم الجرح والتعديل، فكان السهو والشك في صدق الراوي كفيلًا برد حديثه.

ولو أن مذهبهم هذا حق، فكيف علمنا عدد ركعات الصلاة، والأنصبة في الزكاة، وصيغة الزواج، ونحوه، هل وردت في القرآن الكريم؟

فهذا شأن معظم الأحكام الشرعية لم تثبت إلا من خلال السنة، لأن القرآن جاء بالقواعد العامة والخطوط العريضة للتشريع، ولذا فإن دعوتهم الفاجرة هذه هي دعوة لهدم الدين.

يا أبناء ديني وقلبي؛ تمسكوا بدينكم، واعلموا أن الإسلام رسالة سلام إلى العالمين، وهداية للبشرية، يعيش في كنفه المسلم يتقلب في صنوف العبودية، ويعيش في ظلاله المُسالمين من غير المسلمين في ظل العدل وصيانة الكرامة الإنسانية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر

إحسان الفقيه.

اقرأ أيضا

خذلان الحكام

من محنة غزة وُلدت المنحة

الثبات على دين الله .. وميادين الثبات

القرآن .. والثبات

التعليقات غير متاحة