إن المرأة المسلمة التي تريد من نفسها أن تقتدي بأمهات المؤمنين، عليها أن تعرف سيرة النساء الأوائل، وكيف كن في تحمل أعباء الدعوة إلى الله عز وجل، وتربية أبنائهن على نصرة هذا الدين الحنيف، وإن النظر في سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها كافٍ في تكوين المرأة نفسها، وبيان منزلتها في الدين، وعظم مشاركتها في الحياة.

خديجة ومكانتها بين النساء

إن أنبياء الله أصحاب الرسالات الكبرى، والمسئوليات العظمى، يحملون قلوباً كبيرة، عظيمة المعاناة والمقاساة، حتى قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:3].

إنهم يقاسون جهاداً كبيراً في سبيل الحق الذي ينشرونه، والدين الذي يبينونه، وإنهم في هذا أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والمؤانسة والعناية والرعاية، وإن من حفظ الله لنبيه محمد وعنايته به وما أراد به من كرامته؛ أن هيأ له ما هيأ من أسباب ووسائل من هذا الباب.

وهذا حديث عن صورة أخاذة من العناية الإلهية في بيت النبوة المحمدية إنه استعراض لملامح امرأة نبيلة امرأة مؤمنة تجسد فيها كمال الأنوثة، وحسن التبعل، وحق المسئولية استعراض سيرة امرأة عريقة النسب، ممدودة الثروة، عرفت بالعقل والحزم والطهر وحسن الخلق نشأت في بيت من بيوتات الشرف والمجد والرئاسة.

إنها صورة من صور العناية الإلهية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

تلكم هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية الأسدية أم القاسم، وأم هند، سيدة نساء قريش، بل سيدة نساء زمانها.

ميلاد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد

كان ميلاد خديجة رضي الله عنها قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة، فقد عرفت بذكائها، وجلالة قدرها؛ بل إنها من النساء الكمَّل، والكمَّل في النساء قليل نقية السريرة صافية الروح ذات حسنٍ وجمال اجتمع لها حسن الخلق، وشرف الحسب، وعلو النسب، مصونة كريمة، وكان من خبرها أنها تستأجر الرجال في التجارة بمالها مضاربة بشيء منه تجعله لهم.

زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد

يقول ابن الأثير: فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث، وعظم الأمانة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه؛ ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً لتعطيه أفضل ما كان يعطيه غيره، ومعه غلامها ميسرة، وقبل محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، ورحل بالتجارة وعاد رابحاً موفوراً، وسرت بالربح؛ ولكن إعجابها بالرجل كان أعمق.

إن امرأة بهذه المنزلة من النسب والحسب والعقل والمال؛ لا بد أن تكون مطمعاً للسادات من رجال قريش؛ ولكنها كانت بوافر عقلها، وثاقب نظرها، لا يعجبها في كثير من الرجال أن يكونوا طلاب مال وليسوا طلاب أنفس.

لقد أدركت أن أبصارهم تمتد إليها بغية الإفادة من ثرائها، ولعلهم يريدون أن يجعلوا من الزواج سلماً ومطمعاً؛ ولكنها عندما عرفت محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجدت فيه ضرباً من الرجال آخر.

وجدت رجلاً لا يستهويه مال ولا تغنيه حاجة، لقد رأت رجلاً تقف كرامته شامخة موقف النبل والتعفف، فما تطلع إلى مالها، ولا إلى جمالها، ولا إلى منزلتها ونسبها.

لقد أدى الأمين ما عنده من مال التجارة وربحها ثم انصرف راضياً مرضياً، لقد وجدت خديجة في محمد بن عبد الله طلبتها فحدثت بما في نفسها إلى صديقة من صديقاتها، ثم كانت الخطبة، وكان العرض، وكان القبول.

تروي كتب السير أن عمه أبا طالب قال في خطبة النكاح: إن محمداً لا يوزن بأحد إلا رجح به، فإن كان في المال قل فالمال غبنٌ زائل، ومحمد لقد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من ماله كذا وكذا، قال الراوي: ثم تكلم ورقة بن نوفل، فقال مجيباً أبا طالب: إنكم أهل لذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس ذخركم وشرفكم.

عيش خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم

تزوجها عليه الصلاة والسلام وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة.

عاشت خديجة في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش في كنفها خمساً وعشرين سنة، رافقته أفضل رفقة، وألفته أعظم ألفة، وصادقته أوفى محبة؛ بل كانت رضي الله عنها لا ترى ميله إلى شيء إلا بادرت به إليه، وقد رأت قبل بعثته ميله إلى مولاه زيد بن حارثة فوهبته له.

ولما أكرم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته، ونزل عليه الحق وهو في غار حراء ونبئ بإقرأ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على زوجته خديجة فقال: (زملوني زملوني! فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـ خديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله. لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الدهر).

هذا هو البيت، وهذه هي ربته، وهذه هي الحياة الزوجية والأسرية، لقد بادرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليها الحال مع خطر الأمر وشدته وعظم أهميته، وما ذلك إلا لما يعرف من كمال نظرها، وحسن برها، ووفرة عقلها، ورباطة جأشها، ونفاذ بصيرتها.

يقول ابن القيم رحمه الله: استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبداً، فقال ابن القيم: فعلمت بكمال عقلها، وسلامة فطرتها، أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، والشيم الشريفة، تناسب أشكالها من كرامة الله وتأييده وإحسانه لا تناسب الخزي والخذلان.

نعم.

لقد رأت بنظرها الحصيف حتى أقسمت قسماً لا حنث فيه، فنفت الخزي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر استقرائي.

لقد كان موقفاً من أشرف المواقف التي تُحمد من امرأة في الأولين والآخرين طمأنته حين قلق، وذكرته بفضائله وجميل فعائله، فالأبرار مثله لا يخذلون، والكرام مثله لا يخزون، وإن الله إذا طبع رجلاً على المكارم الجزلة والمنابت السمحة؛ فليكن أهل إعزازه وإحسانه.

فضل خديجة رضي الله عنها

آمنت خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يقول ابن الأثير: خديجة أول خلق الله إسلاماً بإجماع المسلمين، فسبقت نساء هذه الأمة بل سبقت نساءها ورجالها رضي الله عنها وأرضاها.

ويقول ابن حجر: قوة يقينها، ووفرة عقلها، وصحة عزمها؛ لا جرم كانت أفضل نسائها.

قال العلماء: ولم يكن حينئذٍ على وجه الأرض بيت إسلام إلا بيتها، قالوا: وهي فضيلة ما شاركها فيها غيرها.

إنها الزوجة الكريمة القائمة بالمسئولية على تمامها تخفف عن زوجها ما يلاقي، وتهون عليه ما يواجه لها مقام صدقٍ من أول البعثة لا يسمع شيئاً مما يكره من تكذيب ورد إلا فرج الله عنه بها، فإذا رجع إليها خففت عنه وواسته بحسن لفظها، وعمق مشورتها، ووفرة مالها، فأحسن الله مثوبتها، ورفع درجاتها، وأعلى مقامها، حتى استحقت أن ينقل لها الروح الأمين جبريل سلام رب العزة.

جاء في خبر الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد! هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدامٌ وطعام وشراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني -وفي بعض الروايات- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا خديجة هذا جبريل يقرئك السلام، قالت: لله السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام -وفي بعضها- وعليك السلام ورحمة الله وبركاته).

ولا غرو أن يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين أيضاً: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد) ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة خطوط في الأرض، ثم قال: هل تعلمون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم -امرأة فرعون-، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد) وقد جاءتها البشارة بالجنة من ربها في حياتها، فقد جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب).

ومن لطائف الأسرار التي لاحظها العلماء في هذا البيت الذي خص الله به خديجة رضي الله عنها أنه بيت خاص زائد على ما أعده الله لها من ثواب عملها، وقالوا: والقصب لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف، وقد جاء عند الطبراني في الأوسط من حديث فاطمة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب. قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا. من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت) قال السهيلي: والنكتة في قولهم: (القصب) ولم يقل: من لؤلؤ لأن في لفظ القصب مناسبة؛ وذلك لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها بالإيمان قبل غيرها، ثم إنه لا صخب فيه ولا نصب، أي: لا منازعات ترتفع معها الأصوات، وهذا مناسب لما كانت عليه خديجة رضي الله عنها من حسن الاستجابة والطاعة، فلم تحوج زوجها إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب؛ بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عصيب، وكانت حريصة على رضاه من كل ممكن، ولم يصدر منها ما يغضبه قط؛ فناسب أن يكون منزلها الذي بشرت به من ربها بالصفة المقابلة لفعلها، فهي لم تصخب عليه، ولم تتعبه يوماً من الدهر.

وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وفياً معها كل الوفاء، عرف حقها وقدرها ومنزلتها فلم يتزوج عليها لا قبل البعثة ولا بعدها، فعاشت معه منفردة خمساً وعشرين عاماً، فصان قلبها من الغيرة، ومن نكد الضرائر، وهي فضيلة لم يشاركها غيرها، ولقد حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانتها حية وميتة، تقول عائشة الصديقة بنت الصديق محظية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وعن أبيها تقول: [[ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها]] فكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها، واستغفاره لها، قالت عائشة: [[فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً، وسقطت في جلدي أو في خلدي -أي: ندمت- وقلت: اللهم إن أذهبت غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت]] وفي رواية، قالت عائشة: (فقلت كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، قد أبدلك الله خيراً منها، فقال: والله ما أبدلني خيراً منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الولد دون غيرها من النساء) وكان من حبه لها، ووفائه بحقها، يتفقد صويحباتها وصديقاتها بعد وفاتها، ومن أحب شيئاً أحب محبوباته، فكان إذا سمع صوت أخت خديجة برقت أساريره ابتسامة ورضا وبهجةً وفاء لزوجته تحت التراب، وإذا ذبح شاة، قال: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) وإذا دخلت عليه امرأة كانت تدخل عليه أيام خديجة هش لها وبش، وسر لرؤيتها ثم يقول: (أكرموها فقد كانت خديجة تحبها)

وروي أن عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: خيراً بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فلما خرجت، قالت عائشة: يا رسول الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، فقال: يا عائشة! إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان).

هذا هو بيت النبوة، وهذه هي العلاقة الزوجية المثلى كما يرسمها الإسلام بأسمى معانيها: وفاء وحباً، وبذلاً وعطاءً، وعملاً وجهاداً، وصبراً وتحملاً وتجملاً.

إن المرأة في صدر الإسلام، وحين يطبق الإسلام على وجهه تجد ربة بيت من طراز رفيع ما يمنع من ذلك علم ولا فقه، ولا ثقافة ولا رجاحة عقل، ولا وفرة مال، إن تصور ربة البيت إنساناً لا يجيد إلا الطهي والخدمة ضرب من السلوك القاصر لا تعرفه الأمم إلا حين انهيار حضاراتها، وسقوط مستواها العام في العلم والفكر والنظر وشغل المجتمع.

وبعد فقد توفيت خديجة رضي الله عنها: في السنة العاشرة من البعثة، في شهر رمضان، وهي في الخامسة والستين من عمرها بعد حصار الشعب، ودفنت في الحجون، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها ولم تكن شرعت صلاة الجنازة، فرضي الله عنها وأرضاها ورضي عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كلهن ورضي عن الصحابة أجمعين.

منزلة المرأة في الدين والمجتمع

إن الدروس من هذا البيت النبوي تجل عن الحصر إنها الدروس لربات البيوت، فما كانت النساء في الصدر الأول بجاهلات بحقيقة الإسلام، ولا جاهلات بجهاده وجلاده في الجزيرة وخارج الجزيرة، ولكن توزيع المسئوليات أعطى كلا الجنسين نصيبه من العناء والمسئولية دون تعسف.

المرأة قبل كل شيء وبعده ربة بيت، وزوجة بطل، وأم شهيد إنها زوجة حانية أو أم مربية، أو في طريقها إلى هذا المصير النبيل.

إن الموسومات برائدات النهضة الإنسانية أقصر باعاًَ، وأنزل ركبة أن يفهمن هذه المثل، ولو قلت لإحداهن: تستطيعين صناعة المستقبل بإذن الله كما تبغين، عندما تحسنين التبعل للرجل، وتنشئة الذرية، ورعاية الأسرة؛ يتورم أنفها ضيقاً وغيظاً، وإن تصور المرأة في البيت إنساناً قعيداً لا دور له جهل شنيع، وفهم متخلف لمعنى الأسرة والتربية والمسئولية، هذا درس من الدروس.

وثمة درسٌ آخر: ففي هذا الزواج المبارك ما يلجم أفواه المستشرقين والمستغربين من الذين يأكل الحقد أفئدتهم على الإسلام ونبي الإسلام وأهل الإسلام؛ حين يريدون أن يتخذوا من تعدد زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنيل من الإسلام ومن نبي الإسلام، وما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث مع خديجة رضي الله عنها وهي المرأة الأيم التي تزوجت رجلين قبله وتكبره بخمس عشرة سنة، لبث معها خمس عشرة سنة لم يتزوج غيرها قضى معها زهرة عمره، وقوة شبابه، ألا ساء ما يزرون وما يكتمون!

المصدر

المكتبة الشاملة: محاضرة لصالح بن عبد الله بن حميد.

اقرأ أيضا

امرأة وموقف

عمر بن العبد العزيز نماذج من جرأته في الحق وحزمه وحكمته

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

 

التعليقات غير متاحة