عمر بن عبد العزيز لم يكن رجل زهد وولاية وجد نفسه فجأة خليفة؛ بل كان رجل دولة استشعر الأمانة، فكان إداريًا عظيمًا، إلى جانب صلاحه وتقواه، فراقب الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية الخلافة بجدٍّ واجتهاد.

– إنكاره على الوليد بن عبد الملك في الحكم بالهوى

قال أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم : ودخل عمر بن عبدالعزيز على الوليد بن عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة فإذا خلا لك عقلك واجتمع فهمك فسلني عنها، قال : ما يمنعك منها الآن ؟ قال: أنت أعلم إذا اجتمع لك ما أقول، فإنك أحق أن تفهم .

قال: فمكث أياما ثم قال : يا غلام من بالباب ؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز فقال : أدخله ، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر : إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وإن عمالك يقتلون ويكتبون : إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسؤول عنه ، والمأخوذ به ، فاكتب إليهم أن لا يقتل أحد منهم أحدا حتى يكتب إليك بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك قال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك . علي بكتاب فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يخرج من ذلك إلا الحجاج ، فإنه أمضه ، وشق عليه وأقلقه . وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك فقال : من أین دهينا ؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا، فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال : هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره .

قال : ثم إن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري جاف من بكر بن وائل ، ثم قال له الحجاج : ما تقول في معاوية ؟ فنال منه. قال له : ما تقول في يزيد ؟ فسبه ، قال : فما تقول في عبد الملك، فظلمه قال: فما تقول في الوليد ؟ فقال : أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك ..

قال : فسكت عنه الحجاج وافترصها منه ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه : أنا أحوط لديني ، وأرعى لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحدا لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من کنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه، فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم، فقال له الوليد : ما تقول في ؟ قال : ظالم جائر جبار ، قال : ما تقول في عبد الملك؟ قال جبار عات قال : فما تقول في معاوية؟ قال : ظالم . قال الوليد لابن الريان : اضرب عنقه فضرب عنقه .

قال : ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال : يا غلام اردد علي عمر، فرده عليه فقال : يا أبا حفص ما تقول بهذا ؟ أصبنا فيه أم أخطأنا؟ فقال عمر ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدرکه منينه ، فقال الوليد : شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك ؟ قال : لعمري ما استحله ، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضبا، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أن سيأمرني بضرب عنقك. فقال عمر: ولو أمرك كنت تفعل ؟ قال: أي لعمري قال عمر : اذهب إليك1(1) سيرة عمر بن عبد العزيز / 134- 136 ، وانظر تاریخ دمشق 45/ 152..

فهذا موقف جليل من عمر بن عبد العزيز في الصدع بالحق أمام الوليد بن عبد الملك الذي كان شديد البطش وفي حال من الغضب الشديد ، ولكنه كان بين أمرين : أن يتعرض لسخط الوليد وعذابه إن جهر بالحق، أو أن يتعرض لسخط الله جل وعلا وعذابه إن جهر بالباطل، فآثر طلب رضوان الله سبحانه واجتناب سخطه وعذابه فكفاه شر عباده .

– مشورته على سليمان بن عبد الملك في الحكم

قال أبو محمد ابن عبد الحكم : وشاور سلیمان بن عبد الملك عمر بن العزيز في رجل سب سليمان فقال: ما ترى فيه؟ فقال من حوله: اكتب بضرب عنقه – وعمر بن عبد العزیز ساکت – فقال : مالك لا تتكلم يا عمر؟ فقال : أما إذا سألتني فلا أعلم سبة أحلت دم مسلم إلا سبة نبي ، قال : فقاموا وقام فقال سليمان: لله بلادك يا عمر لو قرشي طبخت في مرقته لأنضجها2(2) سيرة عمر بن عبد العزيز / 131 – 132 ، والمقصود بالمرقة اللحم، والمراد وصفه بالقوة والحزم ..

ولقد حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أن رجلا من الخوارج شتمه ، كما ذكر ذلك ابن عبد الحكم قال: وحكم رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم 3(3) يعني قال : لاحكم إلا الله . – وأبو بکر بن محمد في صلاته – فقطع عليهم الصلاة وشهر السيف، فكتب أبو بكر إلى عمر، فأتي بكتاب عمر فقرئ عليه فشتم عمر والكتاب ومن جاء به ، فهم أبو بكر بضرب عنقه ثم راجع عمر وأخبره أنه شتمه وأنه هم بقتله . فكتب إليه عمر : لو قتلته لقتلتك به، فإنه لا يقتل أحد بشتم أحد إلا أن يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك كتابي هذا فاحبس عن المسلمين شره، وادعه إلى التوبة في كل هلال، فإذا تاب فخل سبيله ، فلم يزل في الحبس حتى هلك عمر فضرب يزيد بن عبد الملك عنقه.

وهكذا كان علم عمر بن عبد العزيز وورعه عاصمين له من الظلم، فالورع وحده لا يكفي في العصمة بدون العلم بالشرع لأن المسلم بدون العلم قد يقع في المخالفات عن جهل، والعلم وحده لا يكفي لأن المسلم قد يعلم الحكم ولكنه لا يطبقه اتباعا للهوى، وقد تمیز عمر بن عبد العزيز في معاملة الخوارج بالعدل والحكمة.

– إنكاره علی سلیمان بن عبد الملك في الإنفاق

قال أبو محمد ابن عبد الحكم: وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالا عظيما، فقال لعمر بن عبد العزيز : كيف رأیت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم4(4) سيرة عمر بن عبد العزيز /131 ..

فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبدالملك ، فقد كان سليمان – لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق – يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحا، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله . .

– إنكاره علی سلیمان بن عبد الملك في تحکیمه کتاب أبیه

ذكر ابن عبد الحكم رحمه الله في روايته عن شيوخه قال : وكلم عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبدالعزيز من بني عبد الملك ، فقال له سليمان بن عبد الملك : إن عبد الملك كتب في ذلك كتابا منعهن ذلك، فتركه يسيرا ثم راجعه ، فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه : إتني بكتاب عبد الملك ، فقال له عمر: أبالمصحف دعوت يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان : ليوشکن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه ، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر ، فزجر سليمان أيوب ، فقال عمر : إن كان جهل فما حلمنا عنه ؟5(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم 31 وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي / 29 ..

فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق التي يحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعا لا يمكن تغييره، فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغير هو كتاب الله تعالی وحده .

وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعا نافذا من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته .

وموقف يذكر لسليمان حيث وبخ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق ، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له ، كما أن من فضائله جعل عمر بن عبد العزيز مستشارا له ومن خاصته الأقربين ، ثم عقد الخلافة له من بعده .

– عزله ولاة السوء

إن من أهم المواقف الجريئة التي قام بها أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إقدامه على عزل ولاة السوء الذين اشتهروا بالظلم، وكان أول عمل قام به عزل أسامة بن زيد التنوخي ويزيد بن أبي مسلم ، قال ابن عبد الحكم في ذلك: وكتب بعزل أسامة بن زيد التنوخي ، وكان على خراج مصر ، وأمر به أن يحبس في كل جند سيئة ، ويقيد ويحل عن القيد عند كل صلاة، ثم يرد إلى القيد، وكان غاشما ظلوما معتديا في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل يقطع الأيدي في خلاف ما يؤمر به ، ويشق أجواف الدواب فيدخل فيها القطائع6(6) لعل المراد الأيدي المقطوعه. ويطرحهم للتماسيح ، فحبس مصر سنة ، ثم نقل إلى أرض فلسطين فحبس بها سنة ، ثم مات عمر رحمه الله وولي يزيد ابن عبد الملك فرد أسامة على مصر .

قال : وكتب بعزل يزيد بن أبي مسلم عن أفريقية وكان عامل سوء، يظهر التأله والنفاذ لكل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر من السيرة بالجور والمخالفة للحق، وكان في هذا يكثر الذكر والتسبيح، ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون وهو يقول : سبحان الله والحمد لله ، شد يا غلام موضع كذا وكذا لبعض مواضع العذاب ، وهو يقول : لا إله إلا الله والله أكبر شد يا غلام موضع كذا وكذا ، فكانت حالته تلك شر الحالات7(7) سيرة عمر بن عبد العزيز / 37 – 38..

وهكذا كان أول عمل قام به عمر هو عزل هذين الواليين الظالمين، كما جاء في رواية ابن عبد الحكم أنه كتب كتابي عزلهما بعد دفن سليمان بن عبد الملك وقبل رجوع عمر إلى بيته ، مما يدل على شدة اهتمامه بإقرار العدالة ورفع الظلم .

فهذان الواليان قد نسيا عبوديتهما لله تعالى ، فلم يصاحبهما الشعور بأنهما ومن فوقهما في المسئولية منفذون لشريعة الله تعالى، مستسلمون لأوامره ، بل كان الشعور الذي يسيطر عليهما هو محاولة إرضاء طموحهما نحو الطغيان والتجبر على الرعية، وإرضاء من فوقهما من المسئولين لاعتقادهما بأن إذلال الناس يقربهما من المسئولين.

وهذا الشعور الضاغط الذي يلازم الطغاة ويهيمن على تفكيرهم ينسيهم أي تفكير نحو إصلاح الرعية والإحسان إليهم لأن همهم منصرف إلى مدى البراعة في إتقان مجال النفاق والمداهنة لمن هم فوقهم، وتحصيل رضاهم بأي ثمن ، وإن كان يترتب على ذلك سخط الله تعالى عليهم ، وكراهية الناس لهم . . .

وفي الخبر الأخير مثل من التضليل بالتظاهر بالتدين حيث يكثر ذلك الوالي من التسبيح والتهليل والتكبير ، في الوقت الذي يتسلی فيه برؤية المعذبين ، ويصدر أوامره بالتشديد في تعذيبهم ، وهذا جهل منه وضلال ، ففي الوقت الذي يقول فيه لا إله إلا الله ، ينطق عمله الظالم بتعظيم غير الله تعالى ، لأن الله جل وعلا لا يرضى بالظلم، وإنما ينطوي فكر هذا الوالي الظالم على إرضاء شهوة الجبروت والطغيان في نفسه أو نفوس من يعمل لكسب رضاهم.

وإذا كان يقول : الله أكبر ، فكيف لم يجعل الله تعالي تصب عينيه وهو يعذب الناس ؟ فهل كان الله عز وجل أكبر في فكره حقا، أم كان الأكبر هم من يعظمهم من دون الله تعالى ؟

وهذا الاتجاه له نتائجه الخطيرة على عقيدة المسلمين وسلوكهم، ولهذا كان غضب الإمام العادل عمر بن عبد العزيز ، فإنه لم يكن بمعزل عن واقع الأمة قبل الخلافة ، فلما تولى أمر المسلمين سارع إلى عزل الولاة الولاة الذين يعرقلون سير المجتمع نحو الصلاح.

– قوته في الرجوع إلى الحق

ذكر الحافظ ابن عساكر من خبر یحیی بن سعيد وربيعة بن أبي عبدالرحمن قالا : كان عمر بن عبد العزيز يقول : ما من طينة أهون علي فكا ، ولا من کتاب أیسر علي ردا من کتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في غيره فنسخته8(8) تاریخ دمشق 45/ 194 ، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي /61 ..

فهذا يدل على تغلبيه نداء العقل السليم على نداء العواطف، وذلك مبعثه قوة ملاحظة الهدف الإسلامي الأعلى وهو ابتغاء رضوان الله تعالى والدار الآخرة، فإذا كان الإيمان بهذا الهدف قويا فإنه يتكون لدى صاحبه عزوف عن اتباع هوى النفس وقوة في الشخصية تبعث على عدم المبالاة بانتقادات الناس ولا فيما قد يتعرض له الجاه من اهتزاز لدى بعض الناس .

ومن ذلك ما أخرجه محمد بن سعد من خبر حسن بن القاسم الأزرقي : أنه كان عند عمر بن عبد العزيز ونفر من قريش يختصمون إليه فقضی بينهم ، فقال المقضي عليه : أصلحك الله إن لي بينة غائبة، فقال عمر: إني لا أؤخر القضاء بعد أن رأيت الحق لصاحبه ، ولكن انطلق أنت فإن أتيتني ببينة وحق هو أحق من حقهم فأنا أول من رد قضاءه على نفسه9(9) طبقات ابن سعد 5/386..

تلذذه بتنفیذ الحق

ذكر الحافظ ابن الجوزي من خبر أبي بكر بن عمرو بن حزم قال قال لي عمر بن عبد العزيز : ما وجدت في إمارتي هده شيئا ألذ من حق وافق هواي10(10) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي /207 ..

وهكذا يعلن العظماء عن مواقع ملذاتهم .. إنهم لا يتلذذون بمتاع الدنيا الزائل مهما لمع بريقه وقویت جاذبيته ، ولكنهم يعشقون المعاني السامية والمثل العالية التي من أبرزها تنفيذ الحق مع انشراح النفس إليه.. إنها متعة روحية عالية لا يتذوقها إلا من صفا فكره وسمت مطالبه .

– بیانه مهمة الحاكم

من مواقفه رحمه الله في بيان مهمة الحاكم قوله في إحدى خطبه: أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي ، وليس بعد الكتاب الذي أنزل إليكم كتاب ، فما أحل الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حلال إلى يوم القيامة ، وما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة ألا إني لست بقاض ، وإنما أنا منفذ لله، ولست بمبتدع ولكتي متبع ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عز وجل، لست بخير منكم ، ألا وإني أثقلكم حملا، يا أيها الناس إن أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم ، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم11(11) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم /41 – 42، وانظر تاريخ دمشق 45 / 171..

فقد بين رحمه الله أن مهمة الحاكم أنه منفذ لشريعة الله تعالى في الأرض ، وذلك في أمور سياسة الأمة الداخلية والخارجية وأمور الجهاد لحماية الأمة ولتبليغ الإسلام ، ثم في تنفيذ أحكام الإسلام التي يحكم بها القضاة كإقامة الحدود ورد المظالم ، ثم في الإشراف والرقابة على سائر أمور الأمة .

وفي تحديد مهمة أمير المؤمنين بكونه منفذا لشريعة الله تعالی بیان للخط السياسي الذي يجب أن يسير عليه ، فهو ليس مشرعا مع الله جل وعلا ، ولا يجوز له أن يتأخر في تنفيذ شريعة الله تعالى .

ثم بين أنه – من ناحية المصدر الذي يتلقى منه – متبع للكتاب والسنة ومنهج الخلفاء الراشدين وليس بمبتدع شيئا لم يسبق إليه، فإذا استنكر بعض الناس وجوه الإصلاح التي يقوم بها فليس ذلك لأنها أمور مبتدعة وإنما ذلك لكون بعض السنن أميتت ، وأحيى الناس بدلا منها البدع ، فصار المعروف منكرا والمنكر معروفا عند بعض الناس.

ثم بين أن طاعة السلطان ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بطاعة الله سبحانه ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإذا أمر الحاكم بأمر يتعارض مع شريعة الإسلام فلا يجوز تنفيذ أمره بل يجب تنبيهه ليرجع إلى الحق ، فينقذ نفسه وينقذ أمته من مخالفة أمر الله تعالی .

ثم بين أنه لا تلازم بين المسئولية والخيرية ، فليس كون الإنسان مسئولا يخوله أن يكون خيرا ممن هم تحت مسئوليته، وإنما كلما عظمت المسئولية كانت التكاليف أشق وأثقل، فمن كان مسئولا عن أسرته فقط ليس كمن هو مسئول عن إدارة أو إمارة ، وصاحب الولاية العظمى هو أثقل المسلمين حملا، لأن كل مسئول يأتي يوم القيامة فيناقش الحساب عن رعيته التي استرعاه الله إياها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما من وال على عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه ، فكه عدله أو أوبقه جوره” أخرجه الإمام أحمد12(12) الفتح الرباني 23/14 – ورجاله رجال الصحيح ..

ولقد كان عمر بن عبد العزيز بهذا الكلام دقيق الفهم لحقيقة الولاية حيث فهم أنها مغرم وليست بمغنم ، وأنها لا تزيد صاحبها شرفا ولا رفعة ، وإنما هي ابتلاء بعمل ثقيل متواصل، إن أداه صاحبه على ما يرضي الله تعالى كان عملا صالحا وأصبح نعمة على صاحبه ، ودخل في زمرة من قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. وذكر منهم الإمام العادل”13(13) صحيح البخاري رقم 1423 الزكاة (3/ 292) ، صحیح مسلم ، زكاة رقم 1031 ص:715.، وإن عمل فيه بما يسخط الله تعالى كان عملا سیئا وكان نقمة على صاحبه ودخل في زمرة من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه”14(14) صحيح مسلم رقم 1828 ، الإمارة (ص 1458)..

ثم ختم خطبته ببيان أن أفضل العبادة فعل الواجبات واجتناب المحرمات ، وذلك مقتبس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: “وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»15(15) صحيح البخاری ، الرقاق ، رقم 6502 (11/340). وذلك يشمل فعل الواجبات واجتناب المحرمات.

وهذه الجملة تدل على عمق فهم عمر لشمول العبادة حيث جعل منها ترك المحرمات ، وعلى فقهه حيث قدم ذلك على فعل النوافل.

الهوامش

(1) سيرة عمر بن عبد العزيز / 134- 136 ، وانظر تاریخ دمشق 45/ 152.

(2) سيرة عمر بن عبد العزيز / 131 – 132 ، والمقصود بالمرقة اللحم، والمراد وصفه بالقوة والحزم .

(3) يعني قال : لا حكم إلا الله .

(4) سيرة عمر بن عبد العزيز /131 .

(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم 31 وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي / 29 .

(6) لعل المراد الأيدي المقطوعه.

(7) سيرة عمر بن عبد العزيز / 37 – 38.

(8) تاریخ دمشق 45/ 194 ، وانظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي /61 .

(9) طبقات ابن سعد 5/386.

(10) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي /207 .

(11) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم /41 – 42، وانظر تاريخ دمشق 45 / 171.

(12) الفتح الرباني 23/14 – ورجاله رجال الصحيح .

(13) صحيح البخاري رقم 1423 الزكاة (3/ 292) ، صحیح مسلم ، زكاة رقم 1031 ص:715.

(14) صحيح مسلم رقم 1828 ، الإمارة (ص 1458).

(15) صحيح البخاری ، الرقاق ، رقم 6502 (11/340).

المصدر

كتاب: “التاريخ الإسلامي مواقف وعبر” للدكتور عبد العزيز بن عبد الله الحميدي، (1/26-37).

اقرأ أيضا

جهاد السلطان بيبرس

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

شخصيات مؤمنة .. عندما ينطلق الإيمان بأصحابه

واجه الصهاينة والشيوعيين ودعاة تحرير المرأة .. الشيخ حسنين مخلوف

 

التعليقات غير متاحة