إن المقصود من الإيمان بالأسماء والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فقط ، وإنما المقصود أن نفهمها كما فهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لفظا ومعنى ، والتعبد لله سبحانه وتعالى بها والعمل بمقتضاها .
من أسماء الله الحسنى: [الأول، الآخر]
دليل هذين الاسمين الكريمين من الكتاب والسنة
– قول الله – عز وجل -: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد: 3].
– ومن السنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: (اللَّهم ربَّ السماوات وربَّ الأرض وربَّ العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كلِّ شيء، فالقَ الحبِّ والنَّوى ومُنزِّلَ التوراةِ والإنجيل والفرقان، أعوذُ بك من شرِّ كلِّ شيء أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنتَ الآخرُ فليس بعدَكَ شيء، وأنتَ الظَّاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطنُ فَليس دونك شيء، اقْضِ عنا الدَّين وأغْنِنا من الفقر)»1(1) مسلم (2713)..
ولم يرد ذكر هذه الأسماء الحسنى إلا مرة واحدة في القرآن، وكذلك في السنة.
معنى (الأول) من الناحية اللغوية
قال الراغب في المفردات: «الأول: الذي يترتب عليه غيره ومستعمل على أوجه:
أحدها: المتقدم بالزمان كقولك: عبد الملك أولاً ثم منصور.
الثاني: المتقدم بالرياسة في الشيء، وكونه غيره محتذيًا به نحو: الأمير أولاً ثم الوزير.
الثالث: المتقدم بالوضع والنسبة، كقولك للخارج من العراق: القادسية أولاً ثم فيد، وتقول للخارج من مكة: فيد أولاً ثم القادسية.
الرابع: المتقدم بالنظام الصناعي. نحو أن يقال: الأساس أولاً ثم البناء2(2) المفردات ص 31 – 32..
وقال الزجاج: «(الأول) هو موضع التقدم والسبق3(3) تفسير الأسماء ص 59.».
معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى
فيكفينا تفسير أعلم البشر بالله تعالى؛ وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء).
ولذلك قال ابن جرير – رحمه الله تعالى – في تفسيره: « هو (الأول): قبل كل شيء بغير حد»4(4) تفسير الطبري 27/124.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: « (الأول) هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية، إذ كان موجودًا، ولا شيء قبله ولا معه»5(5) شأن الدعاء ص 87..
وقال البيهقي: « (الأول) هو الذي لا ابتداء لوجوده»6(6) الاعتقاد ص 63..
وقد جرى على ألسنة كثير من المتكلمين وبعض أهل السنة – أحيانًا – تسمية (الرب) تعالى (بالقديم)، والقديم ليس من أسماء الله تعالى الحسنى.
والتزام تسميته بـ (الأول) هو الموافق للكتاب والسنة، واللغة، ويؤدي ما يؤديه (القديم) وزيادة؛ فإن (القديم) يعم كل متقدم على غيره في الزمان، وأما (الأول) فإنه يدل على التقدم المطلق على كل شيء.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: « (الأول): يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويجب على العبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية إذ السبب والمسبب منه تعالى»7(7) شرح الأسماء الحسنى ص 169، دراسة وتحقيق عبيد بن علي العبيد..
المعنى اللغوي لاسمه سبحانه (الآخر)
قال الراغب رحمه الله تعالى: «(الآخِر) يقابل به (الأول)، (وآخَرُ) يقابل به (الواحد)»8(8) المفردات ص 13..
و(الآخر) ما يقابل الأول وهو ما ليس بعده شيء إما مطلقًا، وإما باعتبار عدد مخصوص كآخر الشهر، وآخر السنة، وآخر سطر في الورقة.
وقال الزجاج: « (الآخر) هو المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها»9(9) تفسير الأسماء ص 60..
المعنى في حق الله تعالى
قال الخطابي: « (الآخر) هو الباقي بعد فناء الخلق. وليس معنى (الآخر) ما له انتهاء، كما ليس معنى (الأول) ما له ابتداء»10(10) شأن الدعاء ص 87..
وقال البيهقي: « (الآخر) هو الذي لا انتهاء لوجوده»11(11) الاعتقاد ص 63..
وقال الطبري: « (الآخر) بعد كل شيء بغير نهاية»12(12) تفسير الطبري 27/215..
وأحسـن التعـريفات وأكملهـا ما فسـره أعرف البشـر بالله – عز وجل – وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء)13(13) أخرجه مسلم، (2713)..
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته»14(14) مدارج السالكين (3/313)..
ودليل هذا الاسم الكريم من الكتاب والسنة قد سبق ذكره في الحديث عن اسمه سبحانه (الأول) فليرجع إليه. ولم يرد اسم (الآخر) إلا مرة واحدة في القرآن، ومرة واحدة في السنة وهما في الدليلين المذكورين سابقًا.
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين
اعتراف العبد أن الفضل كله من الأول والآخر سبحانه وليس من نفسه ولا أحد سواه
يذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – هذه الآثار فيقول: «فعبوديتة باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد وفضله سابق على الوسائل. والوسائل من مجرد فضله وجوده؛ لم تكن بوسائل أخرى. فمن نزل اسمه (الأول) على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًا وعبودية خاصة.
التعلق بـ(الآخر) سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول
وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بـ(الآخر) سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له، ولا فلاح، ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإراداتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. فكما كان واحدًا في إيجادك فاجعله واحدًا في تألهك إليه لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه (الأول والآخر) وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه (الأول) وإنما الشأن في التعبد له باسمه (الآخر) فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده»15(15) طريق الهجرتين ص20-21..
بعض أسرار اقتران اسمي الجلالة (الأول، الآخر)
ثم يذكر – رحمه الله تعالى – بعض أسرار اقتران اسمي الجلالة (الأول، الآخر) فيقول: « قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى) [محمد: 17]، فهداهم أولاً فاهتدوا فزادهم هدى ثانيًا… وهذا من سر اسميه (الأول والآخر): فهو المعد وهو الممد، ومنه السبب والمُسبَّب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: (وأعوذ بك منك)16(16) مسلم (486). »17(17) مدارج السالكين 1/313..
ويقول أيضًا: «منه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم: 42]»18(18) أعلام الموقعين 1/143..
وقال رحمه الله تعالى: «الغايات والنهايات كلُّها إليه تنتهي: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) [النجم: 42]؛ فانتهت إليه الغايات والنهايات؛ وليس له سبحانه غايةٌ ولانهاية ٌ؛ لا في وجوده، ولا في مزيد جوده، إذ هو (الأوَّل) الذي ليس قبله شيءٌ، و(الآخر) الذي ليس بعده شيءٌ، ولا نهاية لحمده وعطائه؛ بل كلَّما ازداد له العبد شكرًا: زاده فضلاً، وكلَّما ازداد له طاعة: زاده لمجده مثوبة، وكلَّما ازداد منه قربًا: لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غاية ولا نهايةٍ، ولهذا جاء: إنَّ أهل الجنة في مزيدٍ دائمٍ بلا انتهاء.
فإن نعيمهم متصلٌ ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه؛ ولا لمزيده، ولا لأوصافه، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام: (إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ) [سورة ص: 54].
(يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم؛ وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني؛ فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته: ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيطُ إذا أُدخل البحر)19(19) مسلم (2577). »20(20) مدارج السالكين 2/268..
الهوامش
(1) مسلم (2713).
(2) المفردات ص 31 – 32.
(3) تفسير الأسماء ص 59.
(4) تفسير الطبري 27/124
(5) شأن الدعاء ص 87.
(6) الاعتقاد ص 63.
(7) شرح الأسماء الحسنى ص 169، دراسة وتحقيق عبيد بن علي العبيد.
(8) المفردات ص 13.
(9) تفسير الأسماء ص 60.
(10) شأن الدعاء ص 87.
(11) الاعتقاد ص 63.
(12) تفسير الطبري 27/215.
(13) أخرجه مسلم، (2713).
(14) مدارج السالكين (3/313).
(15) طريق الهجرتين ص20-21.
(16) مسلم (486).
(17) مدارج السالكين 1/313.
(18) أعلام الموقعين 1/143.
(19) مسلم (2577).
(20) مدارج السالكين 2/268.
اقرأ أيصا
أسماء الله الحسنى: (7) [الحيُّ]