التعبد باسم الله تعالى “الحق” يثمر الموقف الصحيح تجاه المكروهات والمصائب النازلة؛ فإن الإنسان ظلوم جهول، والله تعالى بكل شيء عليم، وهو سبحانه حَكَمٌ عدْل، ولا يظلم تعالى أحداً.

من أسماء الله الحسنى: الحق

ورد هذا الاسم الكريم في عشر آيات من القرآن الكريم منها:

قول الله تعالى: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62].

وقوله تبارك وتعالى: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس: 32].

وقوله تبارك وتعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [طه: 114].

وقوله – عز وجل -: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 25].

وقوله سبحانه: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [لقمان: 31].

كما ورد ذكر هذا الاسم الكريم في أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة ومن ذلك: ما كان يستفتح به صلاة الليل حيث يقول: (اللَّهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق … الحديث)1(1) البخاري (1120)..

المعنى اللغوي (للحق)

الحق: نقيض الباطل، وجمعه حقوق وحقاق؛ وحق الأمر يحق حقوقًا: صار حقًا وثبت، قال الأزهري: معناه: وجب يجب وجوبًا، وحق الأمر يحقه وأحقه: كان منه على يقين2(2) انظر لسان العرب 2/ 939 – 940، وانظر تفسير الأسماء للزجاج ص 53، واشتقاق الأسماء للزجاجي ص 178..

معناه في حق الله تعالى

قال ابن جرير – رحمه الله تعالى – عند قوله تعالى: (وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) [يونس: 30].

(أي: رجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله، الذي هو ربهم ومالكهم الحق لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 24]: أي: بطل عنهم ما كانوا يتخرصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقربهم منه زلفى)3(3) تفسير الطبري 11/ 79..

وقال الخطابي: (الحق: هو المتحقق كونه ووجوده، وكل شيء صح وجوده وكونه، فهو حق.

ومنه قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة: 1، 2]. معناه: -والله أعلم – الكائنة حقًا لا شك في كونها ولا مدفع لوقوعها. ويقال: الجنة حق، والنار حق، والساعة حق. يراد أن هذه الأشياء كائنة لا محالة)4(4) شأن الدعاء ص 76 (باختصار)..

وقال ابن الأثير: ( (الحق): هو الموجود حقيقة المتحقق وجوده وإلهيته، والحق ضد الباطل)5(5) النهاية لابن الأثير 1/ 413..

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: ( (الحق) في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفًا. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفًا. فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج: 62]، وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) [يونس: 32]، (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81] “6(6) تفسير السعدي 5/ 492..

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (فكما أن ذاته (الحق): فقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وأفعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق. فمن أنكر شيئًا من ذلك فما وصف الله بأنه (الحق) المطلق من كل وجه، وبكل اعتبار فكونه حقًا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه)7(7) بدائع الفوائد 4/ 139..

مما سبق من النقولات يتبين لنا بعض المعاني التي يتضمنها هذا الاسم الكريم من أسمائه سبحانه الحسنى ومنها:

– أنه سبحانه له الوجود الحق: فالخلق كلهم يزولون ويفنون وهو سبحانه الحي الذي لا يموت، وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعب، ولا لغوب.

– وأن أسماءه سبحانه وصفاته كلها حق فليس فيها شيء باطل لا في علمه، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته فهو الإله الحق الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته.

– وأنه هو الحق في ربوبيته وألوهيته فهو (الرب) الحق لكل مربوب وهو المعبود الحق لكل مألوه وعابد مربوب.

– وأن أفعاله سبحانه كلها حق ومقتضى الحكمة فخبره حق، وشرعه حق، وقضاؤه حق وجزاؤه حق، والله أنزل الكتب بالحق، وأرسل رسله بالحق، وخلق السماوات والأرض بالحق، وقص الله تبارك وتعالى القصص بالحق. ووعد الله حق لا يتخلف، فنصره لأوليائه حق، والبعث بعد الموت حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، وكل ما وعد الله به فهو حق؛ لأنه صدر عن الحق سبحانه وتعالى وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (خلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق، وخلقها متلبس بالحق، وهو في نفسه (حق) فمصدره حق وغايته حق وهو متضمن للحق)8(8) شفاء العليل 2/ 57..

من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم

1 – تجريد المحبة لله – عز وجل – وتعظيمه وإجلاله حيث إنه الموجود الحق، والرب الحق والإله الحق. وكل ما سواه فهو مربوب، ووجوده مستمد من وجوده سبحانه. لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، فمنه سبحانه الإيجاد، والإعداد، والإمداد، وما سواه فهي أسباب مخلوقة صادرة من مسبب الأسباب الإله الحق.

فحري بمن هذه صفاته أن يحب ويعظم ويؤله وتوجه العبادة له وحده دون ما سواه؛ لأنه الرب الحق، والإله الحق الذي يستحق غاية الحب وغاية الذل والتعظيم والإجلال.

2 – الشعور بالغبطة والسعادة والسرور بالهداية إلى دين الإسلام الحق الذي هو دين الله، والذي من هُدي إليه واستقام عليه اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، وسلم من التشتت والاضطراب والحيرة التي تكون من نصيب المبطل المعرض عن الله – عز وجل – وعن أحكامه والذي هو في أمر مريج وفي حيرة وعماية.

وقد بين الله – عز وجل – حال الموحد المتمسك بالحق الثابت عليه وحال المشرك المبطل المتذبذب المحتار في قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:29].

وفي قوله سبحانه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الرعد: 19]، وقوله – عز وجل -: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].

فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ونسأله سبحانه الثبات على الحق حتى نلقاه.

3 – الرضى والطمأنينة بما يصيب المؤمن من المصائب المؤلمة والإيمان بأنها كائنة بعلم الله – عز وجل – وإرادته وحكمته، وهي حق لا باطل فيها ولا عبث ولا ظلم ولا هوى. فعلم العبد ويقينه بأن كل ما يأتي من الله – عز وجل – حق وعدل ورحمة، يجعله يطمئن ويسلم الأمر لإلهه الحق، ويسلم قلبه من أمراض الريبة، والتسخط، والاعتراض.

4 – التسليم التام لأحكامه سبحانه الشرعية فيما يأمر به وينهى عنه، واليقين بأن أحكام الله تعالى كلها حق وخير؛ لأنها من الله الحق الحكيم العليم فينشأ من ذلك القبول التام، والإذعان، والتسليم، والاغتباط، والسعي لإقرارها بين الناس حتى ينعموا بما فيها من الحق والخير والأمن والسلام.

قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، وسواء علمت الحكمة في هذه الأحكام أم لم تعلم فالأمر بالنسبة للمؤمن سواء ليقينه بأنها كلها حق؛ لأنها من عند الحق سبحانه.

5 – القبول التام والتصديق الذي لا يخالطه أدنى ريبة أو شك في كل ما أخبر الله – عز وجل – به من المغيبات؛ لأنها حق وصدق: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87].

6 – التواضع للحق، والانقياد له بعد تبينه؛ لأن الخير كله في الحق وما بعد الحق إلا الضلال والشر والشقاء. ومن رد الحق بعد بيانه فهو المتكبر الظالم لنفسه. قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)9(9) مسلم (91)..

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (كما أن من تواضع لله رفعه فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره. ومن تكبر عن الانقياد للحق – ولو جاء على يد صغير، أو من يبغضه أو يعاديه – فإنما تكبره على الله فإن الله هو (الحق) وكلامه حق؛ ودينه حق، والحق صفته ومنه وله، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم)10(10) مدارج السالكين 2/ 333..

7 – صدق التوكل على (الحق) – سبحانه وتعالى – لأن من كان على الحق الذي هو دين الله – عز وجل – فإنه يثق في الله – عز وجل – ويعتمد عليه في نصره لدينه، وتأييده لأوليائه.

قال الله – عز وجل -: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79].

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواء إلى ركنه الشديد، فإن الله هو (الحق) وهو ولي الحق، وناصره، ومؤيده، وكافي من قام به. فما لصاحب الحق ألا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) )[إبراهيم: 12]11(11) طريق الهجرتين ص 463..

8 – الثقة في نصر الله – عز وجل – لدينه الحق وأوليائه الثابتين عليه، وعدم الاغترار بانتفاش الباطل وزبده في وقت من الأوقات فإنه ذاهب. ولكن الله – عز وجل – يبتلي به العباد ليعلم المؤمن الصادق الثابت على الحق من المنافق أو ضعيف الإيمان الذين يبهرهم زبد الباطل فيشكون في وعد الله – عز وجل – ونصرته لأوليائه.

قال الله – عز وجل -: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد: 17].

9 – الإيمان باسمه سبحانه (الحق) وما يستلزم ذلك من كون وعده الحق، ولقاؤه الحق، والجنة حق، والنار حق؛ فكل ذلك يثمر في القلب الاستعداد للقاء الله – عز وجل – والخوف من المقام بين يديه سبحانه والشوق إلى جنته، والخوف من عذابه؛ لأن كل ذلك حق وصدق وآت لا محالة، وهذا الخوف يثمر التقوى في القلب، والتي علامتها امتثال أوامر الله – عز وجل – وترك مناهيه بإخلاص ومتابعة، والاستقامة على ذلك.

اقتران اسمه سبحانه (الحق) باسمه – عز وجل – (الملك)

ورد اقتران هذين الاسمين الجليلين في كتاب الله – عز وجل – في موضعين هما:

– في قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 116].

– وفي قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].

أما الآية الأولى: فواضح فيها سبب الاقتران؛ لأنه سبق هذه الآية قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115] والمعنى: أن الملك الحق منزه عن أن يخلق خلقه عبثًا أو أن يتركهم سدى، وفيه إشارة إلى أن تصرفاته – سبحانه وتعالى – واضحة الدلالة على أن ملكه حق لا يتصرف فيه إلا بما هو مقتضى الحكمة … ومفهوم الصفة أن ملك غيره سبحانه باطل أي: فيه شائبة الباطل؛ لا من جهة الجور والظلم؛ لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء، والخلفاء الراشدين، بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك، عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج12(12) التحرير والتنوير 16/ 416، 18/ 135..

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن خلقة الإنسان في هذه الأطوار؛ وتنقُّله فيها طورًا بعد طورٍ حتى بلغ نهايته: يأبى أن يتركه سُدى، فإنه يُنزَّه عن ذلك؛ كما يُنزَّه عن العبث والعيب والنقص، وهذه طريقة القرآن في غير موضع، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون: 115، 116].

فجعل كمال ملكه؛ وكونه سبحانه (الحقَّ) وكونه (لا إله إلا هو)؛ وكونه (ربَّ العرش) المستلزم لربوبيته لكلِّ ما دونه: مُبطلاً لذلك الظنِّ الباطل والحكم الكاذب، وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سِرَّهم ونجواهم، وحسبان أنه لا يراهم ولا يقدر عليهم، وحسبان أنه يُسوِّي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم، وغير ذلك مما هو مُنزَّهٌ عنه تنزيهه عن سائر العيوب والنقائص، وأن نسبة ذلك كنسبة ما يتعالى عنه مما لا يليق من اتخاذ الولد والشريك؛ ونحو ذلك مما ينكره – سبحانه – على من حَسَبه أشد الإنكار.

فدلَّ على أن ذلك قبيحٌ ممتنعٌ نسبته إليه؛ كما يمتنع أن يُنسب إليه سائرُ ما يُنافي كماله المقدس، ولو كان نفي تركه سدى إنما يُعلم بالسمع المجرَّد، لم يقل بعد ذلك: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً) [القيامة: 37]، إلى آخره؛ ومما يدلُّ أن تعطيل أسمائه وصفاته ممتنعٌ، وكذلك تعطيل موجبها ومقتضاها، فإن ملكَه الحقَّ يستلزم أمره ونهيه؛ وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله؛ وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليومٍ يجزي فيه المحسن بإحسانه؛ والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه؛ ولم يُثبت له المُلكَ الحقَّ، ولذلك كان منكر ذلك كافرًا بربِّه؛ وإن زعم أنه يُقرُّ بصانع العالم، فلم يُؤمن بالملك الحقِّ؛ الموصوف بصفات الجلال والمستحقِّ لنعوت الكمال)13(13) التبيان في أقسام القرآن ص 204، 205..

وقال أيضًا: (من المحال الممتنع عند كل ذي فطرةٍ سليمةٍ: أن يكون (الملك الحقُّ) عاجزًا؛ أو جاهلاً لا يعلم شيئًا، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يتكلَّم ولا يأمر ولا ينهى، ولا يُثيب ولا يُعاقب، ولا يُعِزُّ من يشاء ولا يُذِلُّ من يشاء، ولا يُرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها، ولا يعتني بأحوال رعيته بل يتركهم سدى؛ ويُخلِّيهم هملاً، وهذا يقدح في ملك آحاد البشر، لا يليق به، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه؟ )14(14) الداء والدواء ص 55، 56..

اقتران اسمه سبحانه (الحق) باسمه – عز وجل – (المبين)

جاء ذلك مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 25].

وقد جاء في تفسير قوله تعالى: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أن (المبين) وصف للحق لوضوحه وبيانه.

وقال بعض المفسرين: إن (المبين) وصف لله تعالى، أي: أن الله تعالى مبين وهادٍ. وممن مال إلى ذلك: الإمام الطبري، والقرطبي وغيرهما.

يقول الطبري رحمه الله تعالى: (وقوله: (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ)، يقول: ويعلمون أن الله هو الحق الذي بين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذ الشك فيه عند أهل النفاق الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون)15(15) تفسير الطبري 18/ 106..

وعلى هذا القول يكون (المبين) من أسمائه سبحانه وسيأتي تفصيل هذا الاسم الكريم في بابه إن شاء الله تعالى. وذكره هنا لاقترانه باسمه سبحانه (الحق) والتماس سر اقتران هذين الاسمين الكريمين. وعن ذلك يقول صاحب التحرير والتنوير: (ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي، لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل، لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر، والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم، ويجوز أن يكون المراد بـ: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ) [النور: 23]. خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بل الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم، لأنه زين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة، ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله جاعلين الحق ثابتًا لأصنامهم)16(16) التحرير والتنوير 9/ 163..

الهوامش

(1) البخاري (1120).

(2) انظر لسان العرب 2/ 939 – 940، وانظر تفسير الأسماء للزجاج ص 53، واشتقاق الأسماء للزجاجي ص 178.

(3) تفسير الطبري 11/ 79.

(4) شأن الدعاء ص 76 (باختصار).

(5) النهاية لابن الأثير 1/ 413.

(6) تفسير السعدي 5/ 492.

(7) بدائع الفوائد 4/ 139.

(8) شفاء العليل 2/ 57.

(9) مسلم (91).

(10) مدارج السالكين 2/ 333.

(11) طريق الهجرتين ص 463.

(12) التحرير والتنوير 16/ 416، 18/ 135.

(13) التبيان في أقسام القرآن ص 204، 205.

(14) الداء والدواء ص 55، 56.

(15) تفسير الطبري 18/ 106.

(16) التحرير والتنوير 9/ 163.

اقرأ أيضا

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

شرح أسماء الله الحسنى (1) [الله جل جلاله]

أسماء الله الحسنى: (3، 4) [الواحد، الأحد]

 

التعليقات غير متاحة