أظهر كعب عداءه للإسلام من أول يوم حل فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة المنورة، حسداً من عند نفسه، وانسجاماً مع جبلة يهود التي تأبى أن ترى السيادة مع غيرها.

يهود تقود حملة شرسة ضد الإسلام وأهله

جن جنون يهود، فلم يبق في عقولهم متسع للتفكير المتزن، ولم يبق في قلوبهم مجال لغير الحقد والحسد فراحوا يعملون بكل ما لديهم لحرب الله ورسوله، وقام زعماؤهم وأحبارهم بحملة شرسة ضد الإسلام وأهله، فهم لم يكتفوا بأن يقفوا دون إيمان عامة يهود بالدين الحق، بل أوغروا قلوبهم عليه وجندوهم لحربه، ثم راحوا يستعدون قريشاً وعامة القبائل لحرب المسلمين، وأخذ شعراؤهم في هجاء المسلمين والتشبيب بنسائهم. .

وكان رأس كل هؤلاء كعب بن الأشرف، وهو رجل طويل جسيم جميل وشاعر مجيد، ذو مال وفير جعله يسود يهود الحجاز ويكون فيهم مطاعاً.

وأظهر كعب عداءه للإسلام من أول يوم حل فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة المنورة، حسداً من عند نفسه، وانسجاماً مع جبلة يهود التي تأبى أن ترى السيادة مع غيرها.

كعب يستميل بني قينقاع وبني قريظة بالمال

وبدأت حملة العداء التي تولى كبرها كعب عندما جاءه أخبار بني قينقاع وبني قريظة، كما هي عادتهم كل عام، ليأخذوا صلته!

قال لهم كعب: أسمعتم بهذا الرجل القرشي الذي جاء يثرب يدعو إلى الدين الجديد؟

قالوا: نعم.

قال: فما عندكم من أمره؟

قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئاً!

قال كعب: حرمتم كثيراً من الخير! فارجعوا إلى أهلكم فإن الحقوق في مالي كثير!

لم يكن أحبار يهود يتوقعون هذه الإجابة من كعب، ولو كانوا يعلمون بما يكنه من عداء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجابوه بكلمة الحق، فالمال عندهم مقدم على كل حق فكيف يرتقون ما فتقوا ويصلحون ما أفسدوا، فإن الفساد كل الفساد في شرعهم أن يحرموا المال ويمنعوه! فراجعوا أنفسهم وقارنوا بين المال والصدق وبين الدنيا والآخرة، وغلبت عليهم أخلاقهم المتأصلة في كيانهم، فاختاروا المال والدنيا على الصدق والآخرة، ونكسوا على رؤوسهم وعادوا إلى كعب أذلة خانعين وقالوا له: يا سيد يهود، إنا أعجلناك فيما خبرناك به، ولما استثبتنا علمنا أن غلطنا، وليس هو المنتظر!

بهذا الموقف المتخاذل من أحبار السوء كسب كعب الجولة في عدائه للإسلام، فسارع إلى هؤلاء النفر من الأحبار فوصلهم وأغدق عليهم، وأعلن أن لكل من يتابعهم على رأيهم هذا من الأحبار خرجاً من ماله ومنزلة في سلطانه!

عقد الحلف بين جاهلية الأصنام وجاهلية الأحبار

وهكذا ضمن كعب يهود إلى جانبه، أما المشركون من قريش فهم معه على كل حال، ولكنه أراد أن يصل ما بينه وبينهم وينسق عمله معهم، فارتحل إلى مكة في سبعين راكباً من يهود، ونزلوا على أبي سفيان بن حرب فرحب بهم وأكرمهم، ورأى بمقدمهم فرصة مواتية ليثبت قريشاً على عدائها لمحمد ودين محمد، فعقد لليهود مجلساً في ملأ من قريش وأحلافهم، وقال لهم والناس تسمع: يا معشر يهود، إنكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، فإن أردتم أن نحالفكم ونقاتل محمداً معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما!

واشرأبّت القلوب، وأنصتت الآذان، وأطرقت العيون، فما كان ليهود أن تسجد للأصنام وتؤمن بها وهي التي كانت تدعوهم لعبادة الله ونبذ هذه الأصنام. . أيمكن أن يحدث هذا؟

وما راع الناس إلا منظر سبعين يهودياً يعلنون إيمانهم بالأصنام ويسجدون لها!

فعلها أبناء القردة وسلالة الخنازير، ولكنها لم تكن غريبة منهم ولا عجيبة، فقد سجدوا من قبل لعجل السامري، وإنما هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد!

وهكذا عقد الحلف بين جاهلية الأصنام وجاهلية الأحبار، ومع أنه يبدو للناس بأن هذا الحلف قوي، إلا أنه والله سحاب هريق ماؤه وسراب ليس وراءه إلا الخيبة والضياع!

وقوي ساعد كعب، أو هكذا ظن هو، فتمادى في عدائه للمسلمين، وأخذ يحرض عليهم بشعره، ويهجوهم به ويشنع عليهم. وقد كان للشعر عند العرب منزلة وأي منزلة، فكان أشد ما يؤلمهم بيت من الشعر يهجون به، وكان أشد ما سله عليهم كعب شعره هذا الذي يفتري فيه على الله وعلى رسوله وعلى المسلمين.

وصبر المسلمون على ما أعلنه كعب من عداوتهم، فهم الآن في شغل عنه بتنظيم أمور المدينة، وبمراقبة قريش والأعراب الطامعين بغزو المدينة.

النصر المؤزر في بدر ومصرع زعماء قريش وسادة العرب وفرسان المعارك

ونشبت المناوشات بين قريش والمسلمين، وأفضت المناوشات إلى الصدام الكبير في بدر، وفيها أكد المسلمون قوتهم وتحسنت سمعتهم الحربية بين الأعراب، ورسخ مركزهم وثبتت أقدامهم كقوة في الجزيرة يحسب حسابها ويخشى جانبها، وتخلصوا في بدر من زعماء قريش الذين صرعتهم الأيدي المتوضئة والقلوب المؤمنة.

وأرسل الرسول – عليه السلام – بين يدي عودته منتصراً من بدر بشيرين إلى المدينة يزفان أخبار النصر المؤزر في بدر.

واجتمع حولهم سكان المدينة مسلمهم وكافرهم وانضم إليهم يهود، وكلهم يسأل عن أخبار بدر، فجعل البشيران عبد الله بن راوحة وزيد بن حارثة يقولان: قُتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأمية بن خلف وأبو البختري بن هشام ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج.

وعمت الفرحة قلوب المسلمين، وساد الوجوم أهل الشرك ويهود، فقد عدد البشيران زعماء قريش وسادة العرب وفرسان المعارك.

كعب يبكي قتلى بدر ويُحرض قريشاً بشعره على المسلمين

كان كعب بن الأشرف يقف وسط هذه الجموع وقد تقاذفتها أفكار متضاربة، فهم بين فرح مسرور وحزين مقهور، ودارت الأرض تحت قدمي كعب وهمس لنفسه: أحق ما يقول هؤلاء؟ لا، لا إن هذا أمر أغرب من الخيال ولا بد أن البشيرين يحلمان!

وأفاق كعب من سكرته، وهب صائحاً بأعلى صوته: أيها الناس، لا تصدقوا هذين، فإنهما لا يعلمان ما يقولان فهؤلاء الذين عدوا من بين القتلى هم أشراف العرب وملوك الناس، ووالله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها!

وانسحب الناس بين مصدق ومكذب، وانتظر المسلمون عودة رسول الله لتهنئته بالنصر المبين، فلما عاد – عليه السلام – وتيقن كعب الخبر، راح يبكي قتلى بدر ويُحرض قريشاً بشعره على المسلمين وأخذت الرسل تأتي وتذهب بينه وبين قريش الموتورة، وكان مما أرسل إليه أبو سفيان بن حرب يسأله: ” إنك تقرأ الكتاب، ونحن أميون فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ “، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما هو عليه! !

وتمادى كعب لما رآه من كف المسلمين أيديهم عنه، ولما يؤمله من قدوم قريش للثأر لقتلى بدر، وألح في هجاء المسلمين، وتطاول على رسول الله بلسانه القذر، وتعرض لنساء المسلمين فشبب بهن وذكرهن بالسوء.

قتل كعب بن الأشرف

عند ذلك قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلس من أصحابه: ” اللهم أكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار ” ثم التفت إلى أصحابه وقال: ” من لنا بابن الأشرف فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وآذى الله ورسوله وقوّى المشركين علينا “.

فقال محمد بن مسلمة: ” أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله “.

فقال – عليه السلام -: ” إفعل إن قدرت على ذلك “.

وكان كعب بن الأشرف عزيزاً في قومه، ممتنعاً في حصنه، يحتاج الوصول إليه إلى خطة محكمة وعزم كالجبال.

وأدرك الصحابي الجليل محمد بن مسلمة عظم المهمة وصعوبتها، فقضى ثلاث ليال لا يأكل ولا يشرب إلا ما يبقي على نفسه، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسل إليه، فلما حضر قال له: لم تركت الطعام والشراب؟

قال: ” يا رسول الله، قلت قولاً لا أدري أفي به أم لا.

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما عليك الجهد.

قال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا أن نقول “.

قال عليه السلام: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حلٍ من ذلك.

وأعطت هذه الكلمات محمد بن مسلمة روحاً متوثبة، ونفساً متأهبة، فذهب من فوره ليختار من يساعده على هذه المهمة، وكان لا بد من التروي في الاختيار، فالمهمة صعبة، والرجل ممتنع، وأمر رسول الله لا بد أن ينفذ.

محمد بن مسلمة يختار فرقته الفدائية

جلس محمد بن مسلمة يستعرض في ذهنه أصحاب رسول الله ممن يستطيع أن يعتمد عليهم في قتل ابن الأشرف. وبعد طول تفكر استقر رأيه على أربعة نفر: أبو نائلة سلكان بن سلامة وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاع، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس من بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر أخو بني حارثة.

لقد وافق محمد بن مسلمة في تكوين فرقته الفدائية، فهو ابن أخت كعب بن الأشرف وأبو نائلة أخو كعب من الرضاع، وهذا يساعد على كسب ثقة كعب، والثلاثة الباقون من أشجع الرجال ومن أشدهم إخلاصاً واندفاعاً لنصرة الإسلام.

أبو نائلة والفصل الأول من الخطة

اجتمع الفدائيون وتداولوا الأمر وقلبوه على وجوهه، ثم اتفقوا على خطة أحكموا فصولها، وابتدأ أبو نائلة في تنفيذ دوره فيها، ذهب إلى كعب بن الأشرف زائراً، فجلس عنده ساعة وتناشدا الأشعار، ثم أطرق أبو نائلة إطراقة المهموم، فقال له كعب: ما لك يا أخي؟

قال أبو نائلة: ويحك يا بن الأشرف، اني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم علي.

قال كعب: أفعل.

قال أبو نائلة: كان قدوم هذا الرجل (يعني النبي) بلاء علينا. عادتنا العرب، ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس.

قال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرتك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما كنت أقول.

قال أبو نائلة: إني قد أردت أن تبيعنا طعاماً ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك.

قال كعب: ترهنوني نساءكم؟

قال أبو نائلة: على رسلك يا كعب، فكيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك عليهن؟

قال كعب: ترهنوني أبناءكم.

قال أبو نائلة: لقد أردت أن تفضحنا. إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة (السلاح) ما فيه لك وفاء.

قال كعب: إن في الحلقة لوفاء.

قال أبو نائلة: ومتى آتيك بهم؟

قال كعب: متى شئت، وليكن ليلاً حتى لا تثيروا ريبة محمد وأصحابه!

وعاد أبو نائلة إلى أصحابه، وقد أدى دوره كما رسم له وأحكم الفصل الأول من الخطة المرسومة، فقد أفهم كعباً أن معه جماعة على رأيه حتى لا يرتاب بهم متى قدموا معه واتفق معه أن يرهنون سلاحهم مقابل بيعهم الزاد لأجل، وذلك حتى لا يرتاع إذا رآهم يحملون السلاح، لقد استطاع أبو نائلة أن يدخل إلى قلب هذا اليهودي من طريقين يعرفهما ممهدين عنده، عدائه لمحمد وحبه للمال والربا.

انطلقوا على اسم الله

وتواعدت الجماعة لتنفيذ الفصل الثاني من الخطة في الليلة التالية.

وفي الموعد المحدد من الليلة التالية التأم جمع الفدائيين فانطلقوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحدثوه بما تم بين أبي نائلة وكعب، وما عزموا على تنفيذه الليلة، فمشى معهم رسول الله حتى بقيع الغرقد، وهناك ودعهم ودعا لهم قائلاً: ” انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم “.

كان كعب بن الأشرف حديث عهد بعرس، يسمر مع عروسه وقد أغرق جسمه وثيابه بالطيب، وطاب الحديث بين العروسين فامتد إلى ساعة متأخرة من الليل، وعندما ثقلت جفونهما واستعدا للنوم سمعا صوتاً ينادي: يا كعب بن الأشرف، يا كعب بن الأشرف.

فوثب كعب يلبي النداء، فهبت عروسه وتعلقت بطرف ثوبه وأخذت تناشده أن لا ينزل من حصنه، وتقول له: يا كعب، إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة.

قال كعب: إنه أخي أبو نائلة، لو عرف أني نائم ما أيقظني.

قالت، وهي لا تزال تتشبث بطرف ثوبه: والله إني لأسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم!

قال: قلت لك إنه رضيعي أبو نائلة وابن أختي محمد بن مسلمة.

قالت: والله إني لأشعر أن في صوته شراً.

نظر إليها مبتسماً، ثم قال مدلاً بفتوته، معتزاً ببطولته دعيني، لو دعي الفتى لطعنة لأجاب.

وسحب طرف ثوبه من يدها برفق، ثم نزل من حصنه، واستقبلته الجماعة بالترحاب، وساروا معاً يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون ما أصابهم بعد مجيء محمد، ويسألونه أن يبيعهم. . . وكعب لا يفتأ يذم لهم النبي ومن آمن معه، ويذكر لهم ما جرّه على يثرب من بلاء، ويقول: حتى يثرب ما عادت تسمى باسمها القديم، فقد أخذ أصحابه يسمونها مدينة الرسول، وهو كما سمعت يسميها طيبة وطابة.

قال له أحدهم: سيعود اسمها القديم يا كعب، فاصبر حتى ندبر أمرنا.

فيقول كعب: إن صبرت على هذا فكيف أصبر على ما حرمه على الناس من التعامل بالربا وكيف أصبر وقد باعد ما بيننا وبين إخواننا من الأوس والخزرج، وزعم أنهم ومن أتى معه أمة واحدة؟ وكيف تصبرون أنتم وقد جعل آلهتكم إلهاً واحداً؟

كان الحديث متصلاً، وكعب سادر في غيه وضلاله إلا أن وصلوا إلى مكان يقال له ” شعب العجوز “، فوضع أبو نائلة يده على رأس كعب ثم شمها وقال: ما رأيت طيباً أعطر من هذا الطيب!

قال كعب: كيف، وعندي أعطر نساء العرب وأجملهن؟

قال أبو نائلة: يا كعب، أدن مني رأسك أشمه وأمسح به وجهي.

وبحركة سريعة وضع يده على رأسه واستمسك به وصاح بجماعته: اضربوا عدو الله!

انهالت على كعب أسياف أربعة، فلم تغن في حلكة الليل، وصاح عدو الله صيحة أيقظت من بالحصون المحيطة وكلها حصون يهود، فلم يبق حصن إلا وعليه نار، وحاولت يهود أن تأخذ على الفدائيين الطريق، ولكنهم أعجزوهم، وكان الحارث بن أوس قد أصيب بأسياف

إخوانه في عماية الليل، فاحتمله محمد بن مسلمة، وساروا يشتدون حتى وصلوا بقيع الغرقد، فكبروا: الله أكبر الله أكبر.

أفلحت الوجوه

وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقضي ليله مصلياً منذ غادروه لمهمتهم، فما إن سمع تكبيرهم حتى كبر كما كبروا. وعلم أنهم قتلوه، وخرج إلى باب المسجد يستقبلهم، فلما أقبلوا عليه قال لهم عبارته المشهورة في مثل هذه المواقف: ” أفلحت الوجوه “.

قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله.

وقادهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى داخل المسجد، وجلسوا متحلقين حوله. ثم أخذ قائد الجماعة محمد بن مسلمة يحدث عن صنيعهم، فقال: عندما رأيت أن أسيافنا لا تغني تذكرت خنجراً حاداً كان معي، فتناولته وطعنته في بطنه حتى أنفذته، فعلمت أني قتلته.

وفاضت وجوه الحاضرين بشراً وسروراً، وحمدوا لهذه الجماعة ما قامت به من عمل في سبيل الله، وتمنى كل واحد لو توكل إليه مهمة كهذه، ويوفقه الله لإتمامها، ليقوم مقام هؤلاء الصحابة أمام رسول الله، ويسمع ما سمعوا منه عند استقباله لهم أمام المسجد: ” أفلحت الوجوه “!

عندما أصبح الناس وأشرقت الشمس بنور ربها جاءت وفود يهود، وقد ملأهم الرعب واستحوذ عليهم الفزع، فقالوا: يا محمد قتل صاحبنا غيلة!

فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكرهم بصنيعه من التحريض على المسلمين، وهجائهم والتشبيب بنسائهم.

عندئذ علموا أن الرسول هو الذي أمر بقتله، وكانوا من قبل يشكون في ذلك، فازدادوا خوفاً ورعباً وعادوا إلى ديارهم، وحرصوا على إغلاق أبواب حصونهم مع غروب الشمس وما عادوا يفتحونها لأحد أبداً.

ورأى رسول الله الفرصة مواتية لكسر شوكة يهود وإرهابهم، فقال لأصحابه: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه.

وكان لهذا الأمر ما يبرره، فيهود لم تتوقف عن التآمر على المسلمين، ولم يفتر عداؤها للإسلام لحظة واحدة، ولم تنفع معها عهود أو عقود، فكان لزاماً وحقاً أن يقابلهم المسلمون عداء بعداء وقسوة بحزم.

المصدر

كتاب: “فدائيون من عصر الرسول” أحمد عبد اللطيف الجدع، ص75-90.

اقرأ أيضا

عبد الله بن أنيس فدائي من عصر الرسول

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

التطبيع مع اليهود والحلقة المفقودة

من منكرات التطبيع مع اليهود؛ ولاية الكافرين ومظاهرتهم على المسلمين

التعليقات غير متاحة