تمكن الإيمان من قلب سالم بن عمير فأحب الجهاد في سبيل الله، وكذلك هو الإيمان إذا تمكن من قلب حبب إليه الجهاد في سبيل الله، فكان حريصاً على أن يكون إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل غزاة بغزوها ومعركة يخوضها، فحضر بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها.

مؤمنون وكافرون

عندما أشرقت شمس الإسلام بنورها على يثرب أضاءت قلوبا وغمرتها بالإيمان وعشت عن نورها أعين فاسودت منها القلوب وأظلمت منها العقول فمالت عن الإيمان وبرمت بالمؤمنين وناصبتهم العداء.

وقد أصابت هذه الحال بعضاً من قبائل الأنصار، فكان منهم المؤمنون المخلصون في إيمانهم المضحّون في سبيل إسلامهم، وكان منهم الكافرون المتامدون في ضلالهم المبالغون في عدائهم.

ومن قبائل الأنصار التي انقسمت بين الفريقين قبيلة من الأوس هم بنو عمرو بن عوف، فكان من مؤمنيهم الصادقين سالم بن عمير، وكان من كافريهم الحاقدين رجل يدعى أبو عفك.

أبو عفك. . اليهودي

كان أبو عفك عربيا من بني عمرو بن عوف تأثر بجوار اليهود للأوس في يثرب فآمن باليهودية ودان بها وتعصب لها.

وعندما وصل الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلى يثرب ناصبه يهود العداء لأنهم رفضوا أن يكون النبي الخاتم من غيرهم، وهم من قبل رفضوا أن يؤمنوا بأي نبي من غير بني إسرائيل.

كان عداء اليهود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودينه يتقلب بين السر والعلن، فهم تارة يُسرون بهذا العداء ويكتمونه، وتارة أخرى يجهرون به ويعلنونه، وكان من بينهم نفر أبوا أن يسروا عداءهم، فأعلنوه وجاهروا به وبالغوا فيه، وكان هؤلاء النفر من العرب الذين دانوا باليهودية وآمنوا بها، وعلى رأس هؤلاء كان أبو عفك ومثله كان كعب بن الأشرف، فأبو عفك أوسي وكعب بن الأشرف طائي!

كان الموقف المنطقي لليهود أن يؤمنوا بالرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وهو مكتوب عندهم في التوراة. .

وكان الموقف المنطقي لهم إذ لم يؤمنوا أن يكونوا للنبي حلفاء، فهم أهل كتاب والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب كتاب. . .

وكان الموقف المنطقي لهم، إذ لم يفعلوا هذا أو ذاك أن يحفظوا حق الجوار، فالرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جار لهم في المدينة، وكان عليه الصلاة والسلام خير من حفظ الجوار ورعاه.

ولكن اليهود، كعادتهم، لم يكونوا منطقيين مع أنفسهم أو مع الأحداث التي تدور من حولهم، فقد أنكروا رسالة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وحالفوا المشركين ضد الموحدين، واختاروا الوقوف إل جانب مشركي مكة، على بعد الشقة بينها وبين المدينة، ضد من جاورهم من المسلمين في يثرب.

اشتعال الأحقاد بعد بدر

وعندما انتصر المسلمون في بدر، ووصل البشير بأخبار النصر المبين إلى يثرب لم يصدق اليهود النبأ أو لم يريدوا أن يصدقوه، فقد كانوا يعتبرون انتصار الإسلام هزيمة لهم وإضعافا لمكانتهم في المدينة، لذا وقفوا من النصر مواقف متباينة كلها تدل على حقدهم الدفين للإسلام والمسلمين، فقد كانوا بين مشكك في النصر وبين هازيء به وبين مهدد بالانتقام لقتلى المشركين من قريش.

وشرعوا في إيذاء المسلمين، ولم يكفوا عن الإيذاء حتى بعد عودة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة يقود خلفه سبعين من الأسرى المقرنين بالحبال والأصفاد، بل إن ذلك زاد في أحقادهم، فزادوا لذلك في إيذائهم. . .

وتولى كبر المجاهرة بالعداء نفر من العرب المتهودين على رأسهم أبو عفك الأوسي.

ولم يمنع ما بلغه أبو عفك من سنٍّ أربت على المائة، وقيل أنها بلغت مائة وعشرين، من التصدي للإسلام وأهله، فراح يذمهم في مجلسه، واجتهد في الصد عن الإسلام وبالغ في هذا الاجتهاد، وكان من أشد وسائله خطراً هذه القصائد التي أخذ يقولها في ذم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته والمؤمنين ودعوتهم، وكان مما قاله في ذلك مخاطباً المسلمين من قومه الأوس:

لقد عشتُ حيناً وما إن أرى … من الناس داراً ولا مجمعا

أجسم عقولاً وآتي الى … منيب سراعاً إذا ما دعا

فسلبهم أمرهم راكب … حراماً حلالاً لشتى معا

فلو كان بالملك صدقتم … وبالنصر تابعتم تُبّعا

سالم بن عمير يقتل أبا عفك

ساء سالم بن عمير ما كان يسمعه من أبي عفك من سب المسلمين والسخرية بهم، وساءه أكثر من ذلك ما سمعه من أشعار أبي عفك في ذم المسلمين ودعوة الناس للتخلي عن الإسلام والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وخشي من تأثير أبي عفك على قومه، فقد كان فيهم سيدا وكان للشعر عليهم سلطان..

وفكر سالم في طريقة يقطع بها لسان هذا الرجل الحاقد، وطاف فكره يبحث فيما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمثال هذا الرجل، فوجد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يسكت عن هؤلاء الشعراء الذين يُشهرون بالدعوة وبالدعاة بشعرهم، وتذكر ما كان يطلبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحابه عندما يبلغه أذاهم بهذا الشعر الذي ينمقونه فيزينون به الكفر ويبغضون به الإيمان الى الناس، فقد كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلتفت إلى اصحابه ويقول لهم: من لي بفلان؟ فيفهم الصحابة ان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد قتله فينتدب لذلك واحد من الصحابة وينزل بالمعتدي بشعره على الإسلام وأهله العقاب الذي قرره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . قطع لسانه يقطع عنقه إذن فالعقاب الذي يستحقه أبو عفك هو الموت وقرر سالم في نفسه أن يتقرب الى الله بدم هذا الكافر، وقال: عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه.

وتربص سالم بأبي عفك يريد أن يقتنص منه غره، فقد كان الرجل منيعاً في قومه لا يوصل إليه، وكان الجانب الضعيف فيه أنه كان مغتراً بنفسه وبمنعته، يظن أن أحداً من المسلمين لا يجرؤ على الاقتراب منه فضلاً عن قتله، فساقه غروره هذا لأن ينام ذات ليلة صائفة بفناء منزله، وكانت هذه فرصة سالم فاقتنصها، لقد أمهل عدو الله حتى استغرق في نومه، ثم تقدم منه حتى إذا كان على رأسه وضع السيف في كبده ثم اتكأ عليه حتى أنفذه. . .

ودوّى صراخ عدو الله من ألم الطعنة وهول الصدمة. . . فانطلق سالم مبتعداً عنه بينما هرع إليه نفر من قومه منجدين، فما أدركوه إلا جثة هامدة. . .

والتف القوم حول الرجل الهالك، ونظر كل منهم الى الآخر كأنما يسأل ما العمل؟ وطال حديث العيون وصمت الألسنة الى أن قال واحد منهم: من قتل أبا عفك؟ ولما لم يتلق جواباً من أحد قال: والله لو نعلم من قتله لقتلناه به. . .

وسمعت مقالة الرجل المتوعد امرأة مسلمة كانت تقف معهم وتنظر الى عدو الله السابح بدمه، فردت على المتوعد ساخرة بوعيده. . . لقد كان يعلم أن قاتله من المسلمين ولكنه يجبن عنه وعن التصدي له، فقالت تخاطب المتوعد بمخاطبة القتيل:

حباك حنيف آخر الليل طعنة أبا عفك، خذها على كبر السن!

وعلم الناس أن سالم بن عمير قد قتل أبا عفك، فسر ذلك المسلمين وحفظوه له، وساء ذلك المشركين والمنافقين واليهود وودوا لو قتلوه به، ولكن الخوف من المسلمين كان قد تمكن من قلوبهم والهيبة منهم كانت قد ملأت عيونهم. . . فتركوه يمشي بينهم يزيد في غيظهم فتغلي أحقادهم في صدورهم.

سالم المجاهد

تمكن الإيمان من قلب سالم بن عمير فأحب الجهاد في سبيل الله، وكذلك هو الإيمان إذا تمكن من قلب حبب إليه الجهاد في سبيل الله، فكان حريصاً على أن يكون إلى جانب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل غزاة بغزوها ومعركة يخوضها، فحضر بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها.

كان سالم بن عمير فقير المال غني القلب بالإيمان، فكان مما يجلب الهم إلى قلبه كلما دعا الداعي لغزاة في سبيل الله خشيته أن لا يتمكن من تجهيز نفسه بالسلاح والركوبة، فقد كان المسلمون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهز الرجل نفسه بأدوات القتال، ولكنه في كل غزاة كان يتدبر أمره، فما من غزاة غزاها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان سالم من بين رجالها حتى كانت غزوة تبوك، فقد أمر رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – المسلمين بالتجهز لغزو الروم، وقد كانت هذه الغزاة في عام جدب وحر، كما كانت المسافة بين المدينة وتخوم الروم بعيدة تحتاج إلى إعداد وعدة في السلاح والزاد والركاب، وأين لسالم بن عمير وفقراء المسلمين من مال يجهزون به أنفسهم لهذه الغزاة؟.

وكبر الأمر على سالم، كيف يغزو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزاة لا يشارك فيها؟ وحاول أن يتدبر أمره فلم يستطع، وشكا أمره الى بعض المسلمين من أمثاله فوجدهم مثله في هم كبير، فاستقر رأيهم على أن يذهبوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون منه العون في ذلك. . .

سالم وصحبه البكاؤون

وجاؤوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبكون. . . يا رسول الله لا نجد مالاً نجهز به أنفسنا، فاحملنا يا رسول الله على ركوبة من عندك. . .

ولم يكن عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملهم عليه، فردهم بما عرف عنه من لطف ولين وحنان، فانصرفوا من عنده باكين على ما سوف يفوتهم من فضل الجهاد في هذه الغزاة…

وسمع المسلمون بقصة هؤلاء النفر الذين بكوا بين يدي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالبين منه أن يعينهم ليتمكنوا من المشاركة في الجهاد، واعتذار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم لضيق ذات يده. . . فأسرع المحسنون منهم فأعانوهم. . .

كانوا سبعة نفر، حمل اثنين منهم يامين بن عمير، وحمل اثنين آخرين العباس بن عبد المطلب، وحمل الثلاثة الباقين عثمان بن عفان. . .

ولا تسل عن فرحة سالم بن عمير وعن غبطته وسروره، فقد يسر الله له طريقاً الى الجهاد، ولم تكن نفس عمير تسر لشيء سرورها للجهاد في سبيل الله.

وخلد القرآن سالم بن عمير وصحبه في كتابه العزيز، فقال جل من قائل: (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة:91-92]

وبتخليد القرآن الكريم لهؤلاء النفر من المسلمين المخلصين خلدهم إخوانهم من المسلمين، فأطلقوا عليهم لقب البكائين، وأصبحوا يعرفون به منذ ذلك الحين الى يومنا هذا وسوف يعرفون به الى يوم الدين.

على الدرب. . .

وانتقل الرسول – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الى الرفيق الأعلى، وانتقلت الخلافة الى الراشدين من بعده، واستمرت مسيرة الجهاد المباركة، فشارك فيها سالم بن عمير، ففتح المسلمون المشارق والمغارب، وسالم لا تفتر له همة في الجهاد في سبيل الله. . .

وطال العمر بالمجاهد في سبيل الله، سالم بن عمير، حتى أدرك شطراً من خلافة معاوية، وبعد أن سطر صفحات بيضاء في كتاب الجهاد الإسلامي انتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً. . .

المصدر

كتاب: “فدائيون من عصر الرسول” أحمد الجدع، ص163-170.

اقرأ أيضا

عبد الله بن أنيس فدائي من عصر الرسول

عمير بن عدي الخطمي

جهاد السلطان بيبرس

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

التعليقات غير متاحة