لا يجهل أحد من المسلمين مشاهد اليوم الآخر وعظمة شأنه، ويكفي أن نتدبر كتاب الله عز وجل لنجد ذلك الاهتمام العظيم بذكر اليوم الآخر، وتقريره في كل موقع ومناسبة؛ فتارة يربط بينه وبين الإيمان بالله، وتارة يفصّل في ذكره تفصيلا، قلّما يوجد مثله في أمور الغيب الأخرى.

كلما كان للمسمى شأن عظيم كثرت أسماؤه

لقد ورد في القرآن الكريم عدة أوصاف ومشاهد لنبأ الآخرة العظيم حريٌّ بالمسلم الموقن بالرجوع إلى الله عز وجل أن يقف طويلاً عندها ، عَلَّ القلوب أن ترق وتنيب ، وعلَّ الجوارح أن تنقاد لربها بالعمل الصالح؛ حتى تحصل لها رحمة الله عز وجل التي ينجي الله بها من شاء من عباده من شر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة . ومن أوصاف هذا اليوم أنه :

1 ـ يوم الحسرة

قال تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم:39) .

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (الإنذار هو : الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب ، والإخبار بصفاته ، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد ، يوم الحسرة حين يقضى الأمر ، فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ، ويسألون عن أعمالهم ، فمن آمن بالله ، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى بعدها . ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقِيَ شقاءً لا يسعد بعده ، وخسر نفسه وأهله ، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة تنقطع منها القلوب ، وتتصدع منها الأفئدة ، وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته ، واستحقاق سخطه والنار ، على وجه لا يتمكن الرجوع ، ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا ؟!!

فهذا قدامهم ، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ، ولو خطر ، فعلى سبيل الغفلة،قد عمتهم الغفلة ، وشملتهم السكرة ، فهم لا يؤمنون بالله ولا يتبعون رسله ، وقد ألهتهم دنياهم ، وحالت بينهم وبين الإيمان ، شهواتهم المنقضية الفانية ، فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن عمل خيراً ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه)1(1) تفسير السعدي عند الآية ( 39 ) من سورة مريم . اهـ.

وروى البخاري في التفسير باب: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين ا لجنة والنار ، فيقال: يا أهل الجنة ، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت ، ثم يقال: يا أهل النار ، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) متفق عليه2(2) البخاري في التفسير ( 4730 ) ، مسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2849 ) ..

وقد ورد ذكر الحسرة- والحسرات في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل منها:

قوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (الأنعام:31)

وقوله تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر:56)

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ( البقرة : 167) .

والحاصل مما سبق أن من أخبار النبأ العظيم أنه يوم الحسرات والندامات والتأسفات ، ولكن حيث لا ينفع الندم ، ولا تنفع الحسرة .

على ماذا يتحسر الإنسان يوم القيامة؟

والأمور التي يتحسر عليها الإنسان يوم القيامة كثيرة وكثيرة ، نذكر فيما يلي بعضها ، لعلنا نحاسب أنفسنا عليها ، ما دمنا في زمن المهلة وقبل أن يأتي يوم الحسرة ؛ فمن ذلك:

الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب ، وكدرتها مبطلات الأعمال من : رياء أو عجب أو منة ، حيث ضاعت في وقت يكون الإنسان فيه أشد ما يكون إلى الحسنة الواحدة.

الحسرة على أعمال صالحة كان الاتكاء والأمل بعد الله عليها ، ولكنها ذهبت عن أصحابها في ذلك اليوم العصيب إلى من ظُلموا في مال أو دم أو غير ذلك .

الحسرة على التفريط في طاعة الله تعالى،وتصرّم العمر القصير في اللهث وراء الدنيا ؛ حلالها وحرامها ، والاغترار بزينتها ، ونسيان الآخرة وأهوالها ، والتفريط في وقاية النفس والأهل من عذاب جهنم ، والافتتان بالأموال والأولاد الذين يتحسر على فقدهم يوم القيامة ، كما قال تعالى: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر:15)

حسرة الظالمين المفسدين في الأرض ، الذين يصدون عن سبيل الله، يبغونها عوجاً ، حيث ستكون حسرتهم عظيمة ، حين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ، وحين يسمعون قول الله عز وجل: (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (لأعراف:44 ـ45)

حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق ، وبراءة المتبوع بالباطل من التابع ، والتابع من المتبوع ، وبراءة الشيطان ممن أطاعوه ، ولكن حيث لا ينفع الندم ولا تنفع الحسرات .

الحسرة على أعمال لم يُتبع فيها الرسول لله ، ويحسب أهلها أنهم يحسنون صنعاً ، ولكنها تضيع في وقت الحاجة إليها ؛ كحال أهل البدع والعبادات التي لم يأذن بها الله سبحانه .

الحسرة على أموال جُمِعَتْ من وجوه الحرام المختلفة: كربا ورشوة وغصب ؛ فبقي وزرها على جامعها ، وصار أجرها لغيره ممن ورثها وعمل بطاعة الله.

كان من كلام إبراهيم التيمي ـ رحمه الله تعالى ـ أن يقول: (أي حسرة أكبر على امرئ من أن يرى عبداً كان الله خوَّلَه في الدنيا وهو عند الله أفضل منزلة منه يوم القيامة؟!

وأي حسرة على امرئ أكبر من أن يؤتيه الله مالاً في الدنيا فيرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله ، فيكون وزره عليه وأجره لغيره؟! وأي حسرة على امرئ أكبر من أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره وقد عمي هو ، ثم يقول: إن من كان قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ، ولهم من القدم ما لهم ، وإنكم تتبعونها وهي مدبرة عنكم ، ولكم من الأحداث ما لكم من الأحداث ما لكم ، فقيسوا أمركم وأمر القوم)3(3) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 431 ) . .

حسرة المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، حين تبلى السرائر ، وحين يعرضون لا تخفى منهم خافية .

وتبلغ الحسرة ذروتها حين ينادى أهل النار ، ليروا ذبح الموت ، فيوقنون عند ذلك بأبدية العذاب في النار ، حيث لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، كما ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري والذي سبق ذكره آنفاً.

2 ـ يوم التلاق

قال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (غافر:15).

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى يوم التلاق: (قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يوم التلاق: اسم من أسماء يوم القيامة، حذّر الله منه عباده . وقال قتادة والسُّدِّي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة: يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق . وقال ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم . وقد يقال: إن يوم التلاق يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر ، كما قاله آخرون)4(4) تفسير ابن كثير عند الآية رقم ( 15 ) من سورة غافر . اهـ.

ومما سبق من أقوال المفسرين في يوم التلاق- يتبين أنه شامل لكل ما فيه معنى التلاقي والاجتماع ، وذلك كما في قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) (التغابن:9) وقوله عز وجل: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى:7) .

يقول القرطبي رحمه الله تعالى: (ويوم الجمع: يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، والإنس والجن ، وأهل السماء وأهل الأرض . وقيل: هو يوم يجمع الله بين العبد وعمله. وقيل: لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم)5(5) تفسير القرطبي عند الآية ( 7 ) من سورة الشورى .اهـ.

ويقرب التصور لهذا الجمع العظيم ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.. . )6(6) رواه الترمذي / كتاب الزهد / باب ( 9 ) ( 7 / / 74 ) رقم 2313 ، وقال: حسن غريب ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي . الحديث.

وهذا العدد العظيم من الملائكة الذين مُلِئَتْ بهم السماء الواسعة الأرجاء سيكونون من بين هذا الجمع العظيم .

وأود الوقوف عند معنى من معاني يوم التلاق أو يوم الجمع ، ألا وهو ما ذكره جمع من المفسرين في أن من ذلك التقاء الظالم بالمظلوم واجتماعهما بين يدي الحكم العدل ؛ للفصل بينهما ، وذلك لأذكّر نفسي وإخواني المسلمين بهذا الموقف العصيب، الذي تُردُّ فيه المظالم إلى أهلها، ويؤخذ للمظلوم من الظالم، قال تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طه:111) .

فلا يمكن لمن أيقن بيوم التلاق ويوم الجمع الأعظم أن يسفك دماء الناس، أو يأكل لحومهم وأموالهم بغير حق ، وهو يعلم أن الاستيفاء هناك، ليس بالدينار والدرهم ، وإنما بالحسنات والسيئات ، فليحذر الذين يظلمون الناس ؛ وخاصة من يظلم الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ليحذروا يوم التلاق في يوم الفصل ، وليطمئن المظلوم فلن يضيع عند الله شيء ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

3 ـ يوم الآزفة

قال تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) (غافر : 18) .

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معناها: (يوم الآزفة: اسم من أسماء يوم القيامة ، وسميت بذلك لاقترابها)7(7) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .اهـ.

ويقول السعدي رحمه الله تعالى: (أي يوم القيامة التي قد أزفت وقربت ، وآن الوصول إلى أهوالها وقلاقلها ، وزلازلها)8(8) تفسير السعدي عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .اهـ.

وقال تعالى: (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ *وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ *فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (لنجم: 57 ـ 62)

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (أي اقتربت القريبة ، يعني يوم القيامة. وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الساعة مثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أُتيتم أُتيتم !) ثم يقول الرسولصلى الله عليه وسلم: (أنا ذلك) ، وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان)9(9) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 57 ) من سورة النجم .اهـ.

وقال السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: ((أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي: قربت القيامة ، ودنا وقتها ، وبانت علاماتها.

(لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) أي: إذا أتت القيامة ، وجاءهم العذاب الموعود به .

ثم توعد المنكرين لرسالة محمد لله ، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم ، فقال: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) ؟ أي:أفمن هذا الحديث ، الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه، تتعجبون وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة ، الخارقة للأمور والحقائق المعروفة ؟ذا من جهلهم، وضلالهم، وعنادهم. وإلا فهو الحديث ، الذي إذا حدث صدق ، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل ، ليس بالهزل ، وهو القرآن العظيم ، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، الذي يزيد ذوي الإصلاح رأياً وعقلاً، وتسديداً وثباتاً،وإيقاناً، وإيماناً بل الذي ينبغي العجب، من عقل من تعجب منه ، وسفهه وضلاله .

(وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) أي: تستعجلون الضحك والاستهزاء به ، مع أنه الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب ، وتبكي له العيون ؛ سماعاً لأمره ونهيه، وإصغاءً لوعده ووعيده ، والتفاتاً لأخباره الصادقة الحسنة.

(وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) أي : غافلون ، لاهون عنه وعن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وزيف أديانكم ، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال، لما كنتم بهذه المثابة ، التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) الأمر بالسجود لله خصوصاً ، يدل على فضله وأنه سر العبادة ولبها؛ فإن روحها الخشوع لله ، والخضوع له. والسجود أعظم حالة يخضع بها العبد ، فإنه يخضع قلبه وبدنه ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة ، موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموماً ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال والأقوال ، الظاهرة والباطنة)10(10) تفسير السعدي عند الآيات ( 57 ـ 62 ) من سورة النجم . اهـ.

ويصف لنا سيد قطب رحمه الله تعالى تجربة وقعت له وهو يسمع سورة النجم ، وكيف عاش معها ، وتأثر بها ، وخاصة الآيات الأخيرة منها ، فيقول:

(كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ القرآن من قريب ، يتلو سورة النجم ، فانقطع بيننا الحديث ؛ لنستمع وننصت للقرآن الكريم، وكان صوت القارئ مؤثراً ، وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسناً ، وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلوه .

عشت مع قلب محمد لله في رحلته إلى الملأ الأعلى، عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله، وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى.

عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي ، وتحلق بي رؤاي ، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي ، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها .. إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى .

ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض ، وأمام الأجنة في بطون الأمهات ، وعلم الله يتابعها ويحيط بها ، وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة .. الغيب المحجوب لا يراه إلا الله ،والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء ، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد ، والحشود الضاحكة والحشود الباكية ، وحشود الموتى ، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها ، وتبرز أسرارها ، فإذا هي ذكر أو أنثى ، والنشأة الأخرى ، ومصارع الغابرين ،والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !

واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى* أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ)

ثم جاءت الصيحة الأخيرة ، واهتز كياني أمام التبكيت الرعيب: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ *وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) ؟ فلما سمعت: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقّاً إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ،لم أملك مقاومته ، فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ، ولا أن أكفكف دموعاً هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة !

وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح11(11) يعني حادث سجود المشركين بعد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لسورة النجم . وحديث سجود المشركين مع المسلمين رواه البخاري في التفسير ( 4862 ) ، ( 4863 ) .، وأن تعليله قريب، إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ، ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها ، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة .. وذلك سر القرآن .. فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ؛ وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير ؛ فيكون منها ما يكون)12(12) في ظلال القرآن ( 6 / 3420 ، 3421 ) .اهـ.

4 ـ يوم التناد

قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد) (غافر: 32 ، 33).

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (ولما خوفهم العقوبات الدنيوية خوفهم العقوبات الأخروية ، فقال: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) أي: يوم القيامة ، حين ينادي أهلُ الجنة أهل النار: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً) (الأعراف: 44 وما بعدها ).

وحين ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) (لأعراف:50) .

وحين ينادي أهل النار مالكاً: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) فيقول: (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف:77) .

وحين ينادون ربهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فيجيبهم: (اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون:107 ، 108).

وحين يقال للمشركين: (ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) (القصص: 64) .

فخوفهم رضي الله عنه هذا اليوم المهول ، وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك ؛ولهذا قال: (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِين) أي : قد ذهب بكم إلى النار: (مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) [الطارق:9 ،10] )13(13) تفسير السعدي عند الآيتين ( 32 ، 33 ) من سورة غافر .اهـ.

والنداءات يوم القيامة كثيرة ، يضاف إلى ما قاله الشيخ السعدي رحمه الله تعالى قوله عز وجل: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (القصص:62) ، وقوله سبحانه: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:65) .

وقد سُمي هذا النبأ العظيم بيوم التناد ، وكأنه ممحض وخالص للنداءات لا شيء فيه سواها؛ حيث هي الغالبة على جوِّهِ البارزة فيه . والموفق من عباد الله سبحانه من وفق في هذا اليوم العظيم (يوم التناد) إلى أن يكون من أهل الجنة الذين إن نادوا فإنهم مسرورون بندائهم لأهل النار بأنهم وجدوا ما وعدهم ربهم حقاً ، وإن وجه إليهم النداء والسؤال بما أجابوا به المرسلين فإن نفوسهم تقرُّ بالجواب ؛ حيث الاتباع والاستسلام لما جاء به المرسلون .

والويل كل الويل، والحسرة كل الحسرة لأهل النار ، الذين إن نادَوا فبئس النداء وبئس الطلب ؛ حيث ينادون شركاءهم فلا يستجيبون لهم ، بل يكفرون بهم ، وينادون أقاربهم من أهل الجنة بشربة ماء، أو طعمة من رزق الجنة ، فلا يجدون إلا التبكيت والحرمان .

وإن نودوا (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) فلا جواب لديهم ولا حجة ، إلا الخيبة والخسارة . وماذا عسى أن يقولوا؟ أيقولون: إنما أجبنا آباءنا وأحبارنا ورهباننا ومشايخنا ، ولم نلتفت إلى ما جاء به المرسلون؟ إنهم يعلمون أن لا فائدة في هذا الجواب ؛ بل فيه الحسرة والندامة ، فهو سبب خيبتهم وعذابهم؛ ولذلك عميت عليهم الأنباء ، كما أخبر الله عز وجل عن حالهم بقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) (القصص:66).

فحري بمن أيقن بيوم التناد أن يستعد لذلك اليوم ، بإفراد الله عز وجل بالعبادة وتنقية القلب من جميع الشركاء من دون الله عز وجل ، وإفراد الرسول لله بالمتابعة والانقياد لما جاء به ، حتى إذا جاء النداء العظيم يوم القيامة: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) يكون الجواب حاضراً،تقرُّ به العين، وتنعم به النفس ، أما من كانت إجابته لغير المرسلين : كشيخ أو طريقة أو حزب أو غير ذلك ، فيالها من حسرة وخسارة !! نعوذ بالله من ذلك.

الهوامش

(1) تفسير السعدي عند الآية ( 39 ) من سورة مريم .

(2) البخاري في التفسير ( 4730 ) ، مسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2849 ) .

(3) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 431 ) .

(4) تفسير ابن كثير عند الآية رقم ( 15 ) من سورة غافر .

(5) تفسير القرطبي عند الآية ( 7 ) من سورة الشورى .

(6) رواه الترمذي / كتاب الزهد / باب ( 9 ) ( 7 / / 74 ) رقم 2313 ، وقال: حسن غريب ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .

(7) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .

(8) تفسير السعدي عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .

(9) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 57 ) من سورة النجم .

(10) تفسير السعدي عند الآيات ( 57 ـ 62 ) من سورة النجم .

(11) يعني حادث سجود المشركين بعد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لسورة النجم . وحديث سجود المشركين مع المسلمين رواه البخاري في التفسير ( 4862 ) ، ( 4863 ) .

(12) في ظلال القرآن ( 6 / 3420 ، 3421 ) .

(13) تفسير السعدي عند الآيتين ( 32 ، 33 ) من سورة غافر .

اقرأ أيضا

الترهيب في كتاب الله .. عبيد أمام نبأ عظيم

قل هو نبأ عظيم

التوازن بين الدنيا والآخرة

 

التعليقات غير متاحة