لذكر الترهيب في كتاب الله، ومشاهد النار وما أعدّ تعالى فيها للعصاة مقاصد لصلاح الإنسان ونجاته يجب تدبرها والوقوف عليها؛ فمن وعاها عقل عن ربه خطابه ورحمته.

مقدمة

ذكر تعالى عقب بعض مشاهد النار في كتابه قوله تعالى ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ (الزمر: 16) فالله تعالى يخوف عباده للوصول الى التقوى، والتقوى من الأوصاف المنوط بها دخول الجنة.. ومن تدبر فيما ذكر تعالى من مشاهد تعذيب أعدائه في النار وجدها قد أعقبت أو سُبقت ببيان الجريمة، وفي هذا وغيره إن تدبرها الناظر في كتاب الله وجد مقاصد واضحة من ذكر الترهيب نقف على بعضها في المقال والذي بعده إن شاء الله.

نحن عبيد وهناك ملِك

المقصد الأول: فعند قراءة الترهيب من سلطة عليا هي رب العالمين يظهر مقصد مهم وهو عِلْمُ وبيان أن الله تعالى هو الملك ونحن عبيده وأرقاؤه وملكه سبحانه، ومن خرج عن مقتضى العبودية عليه أن يلقى جزاء مخالفة الملِك وليس للعبد الخروج عن طوع سيده، ولا مخالفته. وعليه أن يقف على قدم الخدمة له سبحانه يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه فيفعل ما يؤمر، بل وأفضل من هذا ألا يفعل إلا بأمر.

فإنه متقلب في نعمـه يُغذى ويُطعم ويُسقى ويُستر وتُلبى حاجاتـه من قِبَل سيـده الكريـم القاهـر.

وطالما أننا عبيد مأمورون .. أرقاء .. مِلك لربنا تعالى؛ فليس لأحد الخروج عن الطاعة، فإن كنا أحرارًا بين الخلق فلسنا أحرارًا أمام رب العالمين؛ بل عبيد وإماء مملوكون.

ومن يخرج عن طوع سيده ويخالـف أمره فليعلم أن هناك جزاءا وعقاباا مترتب على عمله أو على عدم عمله بما أُمر.

أنت تفعل وترتكب وتمضي؛ ولكن هذه الأفعال لها مسئولية ولو لم تقدّرها فهي موجودة ومحسوبة، وستلقاها.

تهتم الملائكة الكرام الكاتبون بأعمالك ونتائجها وآثارها حتى بعد موتك؛ حتى لو لم يكن في حسبانك كل هذا الأثر لكنه عملك وأثرك.

فإن عملت غافلاً عن الجزاء وارتكبت؛ فهو موجود حتمًا ستلاقيه شئت أم أبيت.. نحن عبيد وهناك ملِك.

فليعلم العبيد أنهم لا يخرجون عن قبضة سيدهـم، وأنه عند المخالفة فالملِك يعاقب ويجازي.. فمن يتمادى اغترارًا بالإمهال الرباني والحلم والصبر فلا يظن الحلم والصبر نسيانًا ولا يظن نفسه سيتساوى مع القانت القائم المطيع.

فالعبد الآبق، عندما يخالف مولاه لا بد أن يعلم مغبّة المخالفة، وأن يعلم أنه لم يكن حرًا في تصرفاته بل كان محكومًا بشريعة تخاطبه. وكونُه أعرض أو نسى أو تناسى أو ولّاها ظهره وظن أن الأمر سيمر كأن لم يفعل وأنه سيسوَّى بينه وبين من استجاب واستقام على أمر ربه أو أن يُفضَّل عليه تبعًا لما أُكرم أو أُعطِى في الدنيا، فليعلم أن هناك مغبة لما يفرط ولما يفعل عن كل حركة أو قول أو فعل، أو ترْك وعدم فعل أحيانًا حينما يكون مأمورًا ولا يفعل.

خطابٌ جادٌ

المقصد الثاني: أن نعلم أن خطاب الله تعالى لنا خطاب جاد

هو ليس إحسانًا قابلاً للترك؛ بل هو خطاب ـ وإن تضمن قمة الإحسان ـ فليس لأحد الخروج عنه.

هو خطاب جاد من أعرض عنه فلم يلتفت إليه ولم يُعِرْه اهتمامًا ولم ينشغل به بل انشغل باهتماماته الشخصية فهو مُعرِض وله جزاء: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ [طه: 124 – 127].

فالتعامي عن الآيات والانشغال عنها ونسيانها جريمة يقابلها العمى الحسي في الآخرة، والجريمة ليست أنه فعل كذا فقط؛ بل الجريمة كذلك أنه لم يقم بما أُمر به.

إن الله تعالى وإن لم يُكره أحدًا على اعتناق هذا الدين قدَرًا ولم يأمر بالإكراه بل نهى عنه شرعًا، فهذا ليس معناه ـ كما يفهم بعض الجاهلين ـ أن الموضوع مجرد نصيحة من شاء أخذ بها أو أن لأحد أن يطيع ربه وله أن يعصيه.

إن مجرد من ينشغل عن هذا الدين له وصف (مُعِرض) وتُوعِّد على هذا، ومن عانده أو رفضه أو كذبه فله وصف (كافر أو معاند أو مكذب)، ومن خالف فهو (عاصٍ أو فاسق أو فاجر) ولذا قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ [الطارق: 13 – 14]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: 67 – 68].

وقال تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ؟ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ؟ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ [النبأ: 1 – 5]، فهذا الدين هو أعظم نبأ وحدث يجب أن يلتفت له البشر لأنه خطاب الله لهم وعليه يترتب مصيرهم.

الحياة ليست عبثا

المقصد الثالث: أن نعلم جدية الحياة ذاتها وأنها ليست عبثًا، وبيان أن اختيارات العبد يترتب عليها جزاء حقيقي وضخم فوق ما يتصور؛ فعلى العبد أن يدرك مسئولية أفعاله وأقواله ومعتقداته..

فاعتقاد الإنسان يجب ألا يكون عبثًا أو هزلاً أو استخفافًا؛ فالخلو من المعتقد الصحيح جريمة، والشك فى الحق جريمة: ﴿وحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ﴾ [سبأ: 54]، ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الجاثية: 32 – 37].

وبالتالي فالبحث عن المعتقد الصحيح والتصور الحق واجب هام وجاد ويجب أن يبحث عنه بجدية.

والأقوال المغضبة لله تعالى جريمة قد توجب على صاحبها الخلود فى النار: ﴿وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ..﴾ الآية [التوبة: 74].

والأفعال المخالفة لما أنزل الله تعالى قـد تودي بصاحبها وتهلكه هلاكًا لا صلاح بعـده: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير﴾ [فاطر: 37].

واختيارات الإنسان في مواقفه بين الحق والباطل وشراء أحدهما ببيع الآخر والتخلي عنه مسئولية كبيرة جدًا..

إن عمرًا يقضيه الإنسان عاقلاً قويًا.. ثلاثون أو أربعون سنة أو أكثر قليلاً يترتب عليه خُلد دائم في نعيم أو في عذاب مهين ومخزٍ ومؤلم ومتنوع مع ما يورثه من سخط رب العالمين وغضبه حتى يغضب عليه كل شيء ويلعنه كل شيء: ﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: 159]؛ إن الأمر إذا عظيم.

المعتقد مسئولية، والكلمة والموقف مسئولية، وأي عمل تعمله أو تمتنع عما يجب عليك عمله مسئولية ضخمة له تبعاته والسؤال عنه أمام رب العالمين.

فمراقبة الكلمة والموقف والعمل والاستعداد له والشعور بالمسئولية تجاهه مقصد هام للترهيب المذكور في كتاب الله تعالى.

خاتمة

حياتك ليست عبثًا وإن ظننتها كذلك، وأفعالك لن تمر وإن غفلت عن ذلك، وكلماتك لن تُنسى لك بل مكتوبة ومعدودة، ومواقفك وما ترتب عليها من خير أو شر كلها محسوبة لك.

فمن عبث بحياته أو هزأ بها فلن تكون الحياة هازئة عابثة من أجله، بل ستبقى جادة وستصدمه بجديتها في قبره ثم  أمام رب العالمين ثم فى تلقيه جزاءه من ربه تعالى.

ومن تعامل مع حياته وعمره والدقائق والساعات والأيام تعاملاً هازئًا فإنه لم يفهم القرآن ولم يفهم معنى الحياة ولم يدرك قيمة العمر ومعنى التكليف الرباني لنا؛ فالحياة مسئولية خطيرة وضخمة ونحن فى خطر شديد ولابد أن نتحفز للنجاة.

………………………

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة