ينبغي لمن عافاه الله عز وجل من النفاق الأكبر، الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر أن يفتش في نفسه، ويسعى لتخليصها من النفاق الأصغر وأعماله وشعبه. حيث إن بعض هذه الصفات تنتشر في قلوب كثير منا وأخلاقهم ومعاملاتهم، ونحن نشعر أو لا نشعر، ولكن ما بين مكثر ومقل، وإن أخطر ما يكون من التلبس بهذه الصفات أو بعضها أو التهاون في علاجها والتخلص منها، هو أن تتراكم على القلب، ويخشى أن تؤول بصاحبها إلى النفاق الأكبر، والعياذ بالله تعالى. وكم من خاتمة سوء كان سببها دسائس خفية في القلوب ظهرت عند هول المطلع وخروج الروح.

صور النفاق الأصغر

ولذكر شيء من التفصيل في مزيد من صور هذا النفاق، التي تنتشر في حياتنا اليوم، ويتساهل بها كثير من الناس على خطورتها، وسنلاحظ في أكثرها أنها تعود إلى الصفة الكبرى والخصلة العظمى من خصال المنافقين، ألا وهي «الكذب». ومن أبرز هذه الصفات التي تشكل خللا في حياتنا ما يلي:

• الصفة الأولى: الكذب في الحديث وإخلاف الوعد والعهد

قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [التوبة: 75 – 77] والمقصود التنبيه على ذم هذه الخصلة، وأنها أساس النفاق الاعتقادي والعملي، ومع ذلك نراها منتشرة في حياتنا ما بين مقل ومكثر وما بين واقع بسببها في كبيرة وواقع في صغيره، وإخلاف الوعد والعهد من الكذب الشنيع، ومع ذلك فما أكثر من يتساهل بالمواعيد مع إخوانه، ولا يكترث في الوفاء بها، أو يفي بها بعد فوات الوقت في الموعد، وكم ممن لا يفي بعهده، ولا يؤدي الأمانات إلى أهلها.

وما أكثر من يكذب اليوم على أولاده أو طلابه، أو لا يفي لهم بوعوده لهم. وما أكثر من لا يفي بما يبرمه من عقود مع إخوانه المسلمين، حتى امتلأت المحاكم الشرعية من جراء ذلك مما يعرفه القضاة والمحامون.

وإخلاف الوعد المذموم هو من يبيت سلفا وينوي إخلاف وعده وعهده، أما من ينوي الوفاء بالوعد لكنه لم يتمكن من ذلك لعارض من نسيان أو عجز فلا لوم عليه إن شاء الله تعالى. وهذا ينبهنا على أن لا نعطي وعدا أو عهدا إلا ويغلب على ظننا الوفاء به. أما من لمس من نفسه العجز ووجود العوائق التي تعترض وفاءه بوعده أو عهده فيجب عليه ابتداء أن لا يحمل نفسه ما لم تحتمل، والسلامة والعافية في الدين لا يعدلها شيء.

• الصفة الثانية: الفجور واللدد في الخصومة والفحش والبذاء

والفحش والبذاءة ذكرت في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الشح والفحش والبذاء من النفاق»1(1) البيهقي في الآداب 1/184 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2630)..

والفجور في الخصومة أن يخاصم المخاصم بالباطل، وأن يتجاوز الحد في خصومته بما يظهر عليه من الظلم والعدوان في خصومته سواء في لسانه أو يده، ومن ذلك الفحش في الكلام من السب واللعن وبذيء الكلام ورديئه. وما أكثر من تظهر عليه هذه الصفات اليوم عند الخصومات، وقد يعدها بعضهم من الشجاعة والقوة وعزة النفس، وما درى أنها من صفات المنافقين.

• الصفة الثالثة: الاهتمام بجمال المظهر والحديث على حساب المخبر والجوهر وجمال السريرة والعمل

قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، وإن إهمال السرائر وعدم العناية بها وتوجيه الاهتمام والعناية بجمال المظهر أو من قول وصورة ودنیا زائلة إنما هو علامة على مرض في القلب ونفاق عملي، قد يؤول بصاحبه إلى النفاق الأكبر. وإن الناظر في حياتنا اليوم وما يسيطر عليها من الاهتمامات ليرى أمرا مؤسفا ينذر بالخطر.

• الصفة الرابعة: صفة ذي الوجهين التي جاءت في الحديث الصحيح

«تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلا بوجه، وهؤلاء بوجه»2(2) البخاري (3494)، مسلم (2526).، ويدخل في ذلك مداهنة الناس ومدحهم في وجوههم وذمهم في غيبتهم. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدون هذا من النفاق. فعن مجاهد أن رجلا قدم على ابن عمر رضي الله عنهما ، فقال له: (كيف أنتم وأبو أنيس الضحاك بن قيس؟ قال: نحن وهو إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولينا عنه قلنا غير ذلك. قال: ذاك ما كنا نعده ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق)3(3) سير أعلام النبلاء 6/382..

يقول ابن حزم رحمه الله: (الناس في أخلاقهم على سبع مراتب:

1. فطائفة تمدح في الوجه، وتذم في المغيب، وهذه صفة أهل النفاق من العيابين، وهذا خلق فاش في الناس غالب عليه.

2. وطائفة تذم في المشهد والمغيب، وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين.

3. وطائفة تمدح في الوجه والمغيب وهذه صفة أهل الملق والطمع.

4. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب وهذه صفة أهل السخف والنواكة.

5. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهدة، ويثنون بالخير في المغيب، أو يمسكون عن الذم.

6. وأما العيابون البرآء من النفاق والقحة فيمسكون في المشهد ويذمون في المغيب.

7. وأما أهل السلامة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب. ومن كل من أهل هذه الصفات قد شاهدنا وبلونا)4(4) الأخلاق والسير ص 108-109..

فما أكثر مثل هذه الصفات في حياتنا وأخلاقنا، وما أكثر من يداهن في الحق فیسکت عن بيان الحق، أو يقول الباطل مداهنة للناس رغبة في دنيا فانية، ولا سيما مع الوجهاء والأمراء.

• الصفة الخامسة: التثاقل في أداء الصلوات وقراءة القرآن وقلة ذكر الله عز وجل

قال تعالى عنهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [ النساء: 142]، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر … الحديث»5(5) مسلم (651) والبخاري (657).. ويقول ابن عباس رضي الله عنهما عن المنافق مع القرآن (نقل الحجارة أهون على المنافق من قراءة القرآن)6(6) شعب الإيمان للبيهقي 2/ 354..

فلننظر إلى أحوالنا اليوم مع الصلاة والقرآن وذكر الله عز وجل ، وكيف نشاطنا في ذلك، وكيف مسارعتنا إلى ذلك، وكيف سعادتنا وخشوعنا. إنه لمن المؤسف والمؤلم أن يوجد منا من لا يقوم إلى الصلاة إلا ثقيلا، فتفوته صلاة الجماعة أو بعضها في كثير من الأحيان. ولا يقرأ القرآن ولا يذكر الله إلا قليلا، ولا يخشع في صلاته إلا نادرا، وهذه كلها من شعب النفاق وخصاله، نعوذ بالله من ذلك.

• الصفة السادسة: عدم الاهتمام بالدين وبأحوال المسلمين، والإعراض عن الدعوة والجهاد في سبيل الله

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من شعب النفاق»7(7) مسلم (1910)..

وقد جاءت في القرآن آيات كثيرة تصف المنافقين بكراهيتهم للجهاد والفرح بالقعود عنه، بل إنهم ينشطون في التثبيط عنه، وبث الخوف والإرجاف في المسلمين لإعاقتهم عنه. ووصفهم بأنهم لا يهتمون إلا بأنفسهم، ولا يهمهم بعد ذلك ما أصاب المسلمين من مصائب وكوارث.

قال الله عز وجل عنهم: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ [التوبة: 81]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 18]، وقال عز وجل: ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران: 154]، والآيات في ذلك كثيرة.

والمقصود أن ترك الاهتمام بالدين، والإعراض عن الدعوة والجهاد، وعدم حديث النفس بذلك، هو من خصال وشعب النفاق وصفات المنافقين، فلنعرض أنفسنا على هذه الأوصاف، خشية أن تكون فينا ونحن لا نشعر.

وتحديث النفس بالغزو والدفاع عن الإسلام ونشره في الأرض لا يكون بمجرد القول والادعاء، وإنما لابد أن يظهر في تصديق هذا الادعاء بالنية الصالحة، وإعداد النفس لذلك، والزهد في الدنيا، وأن نخرج عن دائرة الاهتمام بأنفسنا وأهلينا ودنيانا، إلى الاهتمام بأمر هذا الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيل نشره، وأن يبدأ الإنسان بجهاد نفسه وهواه، ويتوب من ذنوبه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم، فإن قهر هواه عز وساد، ومن قهره هواه ذل وهان وهلك وباد)8(8) غذاء الألباب للسفاريني2/ 358.، وهذا من أول مراتب الجهاد، ودليل على صدق تحديث النفس بالغزو. ومن علامة صدق الحديث مع النفس في الغزو الإنفاق في سبيل الله عز وجل، وسماحة النفس بذلك، لأن من صفات المنافقين البخل والشح. وإذا أنفقوا فبكراهية النفس، قال عز وجل عنهم: ﴿وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [ التوبة: 54]، بل إنهم يثبطون الناس عن الإنفاق. قال الله عز وجل عنهم: ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا﴾ [المنافقون: 7].

• الصفة السابعة: مخالفة الظاهر للباطن ومناقضة العلانية للسريرة

يقول ابن رجب رحمه الله: (النفاق الأصغر كله راجع إلى اختلاف السريرة والعلانية، كما قال الحسن)9(9) جامع العلوم والحكم ص433..

وهذا أهم مظهر من مظاهر النفاق، وقد يكون سببا للنفاق الاعتقادي والخروج من الملة إذا وصل إلى حد إبطان الكفر وإظهار الإسلام – عياذا بالله – وقد يكون نفاقا عمليا إذا كان أصل الإيمان موجودا، ولكنه يبطن الكذب أو الغدر أو الخيانة، أو غير ذلك، ويظهر أضدادها؛ وهذا هو الذي يهم العبد المؤمن الحذر منه لكثرة من يقع فيه من المسلمين، وقد يؤول إلى النفاق الأكبر، كما قال ابن حجر رحمه الله من أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي إلى نفاق الكفر)10(10) فتح الباري 1/111..

ولهذا النوع من النفاق صور عدة منها:

(أ) إظهار الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، مع أن الأمر في الباطن خلاف ذلك؛ حيث يكون حب الدنيا قد تمكن من القلب وسافر في أوديتها.

(ب) إظهار المحبة والشفقة للناس وسلامة القلب نحوهم، مع تلبس القلب بأمراض كثيرة تناقض هذا الادعاء؛ كأمراض الحسد والحقد وإضمار الشر والغش لهم. وإظهار الغيبة لهم في قالب النصح والتوجع لهم. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى صورة من صور مخالفة الظاهر للباطن. حيث يقول: (ومنهم من يخرج الغيبة تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بالخير. ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله. ويقول: والله إنه مسكين أو رجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت… ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل کیت و کیت، و من فلان كيف وقع منه کیت وکیت… ومنهم من يخرج الاغتمام، فيقول: مسكين فلان غمني ما جرى له. وقلبه منطو على التشفي به)11(11) مجموع الفتاوی 28/ 238-237 (باختصار)..

(ج) إظهار الغيرة على الدين والحدب عليه، وأنه الهم الشاغل للنفس، مع أن هذا الادعاء لا يتعد اللسان أو الكتابة، أما القلب فیکاد يفرغ من هذا الهم المدعى؛ لأنه قد امتلأ باهتمامات أخرى تسبق الاهتمام بالإسلام في سلم الأولوية. وهذه الصورة عادة ما تظهر عند بعض الوعاظ أو الخطباء أو الكتاب الذين يظهرون الحرقة والألم على الإسلام والمسلمين، والله أعلم بما في القلوب. فلننتبه لخطر هذه المناقضة، ولنحذر هذه الفتنة؛ فهي من صفات المنافقين التي ذكرها الله عز وجل عنهم بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 167].

وعندما اعتذر المنافقون عن تخلفهم يوم الحديبية بانشغالهم بالأموال والأولاد كذبهم الله عز وجل بقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [الفتح: 11].

وبين لهم أن الذي في قلوبهم هو سوء الظن بالله عز وجل: ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ [الفتح: 12].

(د) إظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مخالفة ذلك في غفلة الناس من غير عذر في ذلك، قال عز وجل: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3]. قال ابن الأعرابي: (أخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الورید)12(12) شعب الإيمان للبيهقي (6987)..

وقال أبو عبيد السري: (النفاق خبث السريرة، فاتق الله أن يرى الناس أنك تخشى الله عز وجل، وقلبك فاجر)13(13) تاریخ دمشق 5/86..

• الصفة الثامنة: الوقوع في الحيل المحرمة

إن التحايل بحيل يحل بها ما حرم الله عز وجل تعد ضربا من ضروب الخداع والنفاق ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].

ولو أن من يقع في الحرام يعتقد بحرمة ما وقع فيه، ويرى نفسه عاصيا مذنبا، لكان أهون بكثير ممن يفعل الحرام أو يفتي به معتقدا حله بحيلة باطلة أو شبهة داحضة أو تأويل فاسد، فجرم هذا وإثمه عند الله أعظم بكثير ممن يرتكب المحرم معتقدا حرمته. ومن الأمثلة المشهورة في ذلك تحليل المرأة المطلقة ثلاثا من زوجها بنكاحها ثم طلاقها لتحليلها لزوجها وليس لقصد الزواج والنكاح، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالتيس المستعار. وكذلك من يتحايل على الربا ببيوع العينة.

إن من يتحايل على تحليل الحرام أو إسقاط الواجبات بحیل وشبهات وتأويلات باطلة، سواء كان ذلك لنفسه أو يفتي به غيره، إن هذا الأمر خطير وجرمه عظيم، وعليه فينبغي لمن خاف مقام ربه وخاف عذاب الآخرة أن لا يخادع نفسه بتأویلات باطلة… يمتزج فيه الهوى والشهوة بالشبهة والتأويل الباطل في تبرير مخالفة شرع الله عز وجل. فكون العبد يقع في مخالفة شرعية معتقدا حرمتها وشاعرا بالذنب، وأنه ارتكب محرما أهون بكثير وأخف جرما وإثما من كونه يقع في الحرام أو ترك الواجب مستحلا لذلك بحيلة أو شبهة باطلة، يضفي عليها الشرعية على فعله، فإن هذا ضرب من ضروب النفاق الخطيرة، لما فيه من الاستهانة بالله عز وجل وحرماته.

• الصفة التاسعة: الانشغال بعيوب الناس، وتتبع عثراتهم، وغيبتهم

عن أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا الناس ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه في بيته»14(14) رواه أحمد (19776) وأبو داود (4882) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2340)..

وعن أسماء بنت یزید رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخیارکم» قالوا: بلى. قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله»، «أفلا أخبركم بشراركم» قالوا: بلى. قال: «المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت»15(15) رواه البخاري في الأدب المفرد (323) وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (246)..

وقال أحد السلف: (من علامات الاستدراج للعبد عماه عن عيبه، وتطلعه إلى عيوب الناس)16(16) مفتاح الأفكار 1/140..

وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يعدد حكم الله عز وجل في تخلية العبد بينه وبين الذنب، فيقول: (التاسع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة)17(17) طريق الهجرتين 1/271..

يتبين لنا من خلال الأحاديث والآثار السابقة سوء هذه الخصلة وذمها، وأنها تنم عن نفاق ومرض في القلب وضعف إيمان. ويفهم هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه» .

وما أكثر اليوم من يقع فيها ليس من عامة الناس فحسب، بل إننا نراها تصدر من بعض المنتسبين للعلم والدعوة، فتراهم قد انشغلوا عن عيوب أنفسهم بتتبع عيوب وعثرات غيرهم من بعض الدعاة والعلماء، فتراهم يرمون غيرهم بما ليس فيهم أو يضخمون أخطاءهم إن وجدت، ويبالغون في نقدها وتحميلها ما لا تحتمل، وهذا كله يتم بذريعة الغيرة على دين الله عز وجل وكشف أهل البدع والضلال، والله أعلم بما في قلوبهم وسرائرهم. وإن مما يدل على عدم صدق بعضهم فيما يدعيه من القيام بواجب الدعوة وبیان ضلال المضللين، ذلك التناقض والمعايير المزدوجة التي یمارسونها، حيث نجدهم يلوذون بالصمت إزاء ما يقوم به المفسدون المنافقون من إفساد لأديان الناس وأموالهم وأعراضهم في مجتمعات المسلمين، فأين الغيرة، وتتبع ضلالات هؤلاء المفسدين وفضحهم؟ بل وصل الحال إلى أن نجد المدح والثناء من هؤلاء المفتونين لأهل الفساد والظلم والطغيان، والدفاع عنهم في الوقت الذي انبروا فيه لتتبع عثرات إخوانهم من الدعاة والفرح بتصيدها، نعوذ بالله من الفضيحة والخذلان.

• الصفة العاشرة: حب المدح من الناس والبحث عن الشهرة

وهذا باب من أبواب الرياء والسمعة، الذي يتسرب منه النفاق إلى القلب ويعشعش فيه.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت)18(18) الفوائد ص 149..

ويقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: (لم يصدق الله من أحب الشهرة)19(19) حلية الأولياء8/19..

وهذا من الآفات القلبية التي تدل على مرض القلب وتلبسه بشعبة من شعب النفاق، ولقد انتشرت هذه الآفات عند بعض المنتسبين اليوم للعلم والدعوة، ولا سيما وبعد هذه الثورة الإعلامية من مجلات و تلفاز وقنوات فضائية، حيث ظهر فيها بعض الدعاة وطلبة العلم وتزينوا فيها في المظهر والكلام والجرأة على الفتوى، مما ينم عن محبة بعضهم للظهور والشهرة ومديح الناس. وأخطر من ذلك أن يتزين الواحد منا بما ليس فيه، ويحب أن يمدح بما لم يفعل، فيا أشنعها من صفة، ذمها الله عز وجل في كتابه وذمها رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه .

قال الله عز وجل: ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 188]، وجاء في سبب نزول هذه الآية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ﴾)20(20) البخاري (4567)، مسلم (2777).. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط کلابس ثوبي زور»21(21) البخاري (5219)، مسلم (2130)..

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته المشهورة إلى أبي موسى الأشعري: «ومن تزين بما ليس فيه شانه الله» .

يعلق الإمام ابن القيم رحمه الله على هذه الوصية، فيقول: (وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان. فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة، وهما من أنفع الكلام وأشفاه للسقام. وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاء من جنس عمله)22(22) أعلام الموقعين 2/169..

• الصفة الحادية عشرة: عدم التألم من جراحات الذنوب

إن الاستهانة بمعصية الله عز وجل وعدم الشعور بالألم والحزن جراء اقتراف الذنوب، هو علامة خطيرة على ضعف الإيمان ومرض القلب واستهانة بعظمة الله عز وجل ، لأن المؤمن هو الذي تسره حسنته وتسوؤه سيئته، والمنافق من لا تسوؤه سيئته ولا تسره حسنته، کما جاء في الأثر. يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها: بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، وما لجرح بميت إيلام)23(23) إغاثة اللهفان ص 1/68..

الهوامش

(1) البيهقي في الآداب 1/184 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2630).

(2) البخاري (3494)، مسلم (2526).

(3) سير أعلام النبلاء 6/382.

(4) الأخلاق والسير ص 108-109.

(5) مسلم (651) والبخاري (657).

(6) شعب الإيمان للبيهقي 2/ 354.

(7) مسلم (1910).

(8) غذاء الألباب للسفاريني2/ 358.

(9) جامع العلوم والحكم ص433.

(10) فتح الباري 1/111.

(11) مجموع الفتاوی 28/ 238-237 (باختصار).

(12) شعب الإيمان للبيهقي (6987).

(13) تاریخ دمشق 5/86.

(14) رواه أحمد (19776) وأبو داود (4882) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2340).

(15) رواه البخاري في الأدب المفرد (323) وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (246).

(16) مفتاح الأفكار 1/140.

(17) طريق الهجرتين 1/271.

(18) الفوائد ص 149.

(19) حلية الأولياء8/19.

(20) البخاري (4567)، مسلم (2777).

(21) البخاري (5219)، مسلم (2130).

(22) أعلام الموقعين 2/169.

(23) إغاثة اللهفان ص 1/68.

اقرأ أيضا

خطر النفاق .. حقيقة أم خيال؟

أفعال وصفات هي من النفاق الأصغر

آيات في النفاق وأهله ذما ووصفا وتحذيرا

أحاديث في النفاق وأهله ذما ووصفا وتحذيرا

 

التعليقات غير متاحة