إن أخطر ما في فتنة المنافقين فتنتهم لأنفسهم، وتعريضها لها بالعذاب في الدرك الأسفل من النار، وفتنتهم للمسلمين، بما يحدثونهم من فتنة وفساد کبیر وبلاء، حيث إنهم ينخرون في قواعد هذا الدين من داخله، على حين جهل أو غفلة من المسلمين، ودون أخذ الحذر والحيطة منهم، لأنهم يظهرون الإسلام وحب الإسلام، وهنا يحصل الانخداع بهم وعدم الحذر منهم.

نكبة الأمة بالمنافقين

ولذا فصل الله عز وجل صفاتهم، وحذرنا من عداوتهم وفتنتهم، فقال سبحانه: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ [المنافقون: 4]، والوقائع تثبت يوما بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات، وأن نكايتهم فيها وجنایتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات؛ فالكفر الظاهر على خطره وضرره يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها، ما لم يكن مسنودا بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين، ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم بالنصيحة، ويزيل من أمامهم العقبات، ويفتح البوابات.

رأينا ذلك في عصرنا وسمعنا عنه قبل عصرنا؛ فمنذ أن افتتح (ابن سلول) طريق النفاق، سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح النفاق الظاهر المتظاهر مع الكافرين في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين1(1) انظر مقال (جهاد المنافقين) مجلة البيان عدد (171) د. عبدالعزیز کامل..

ومن أشد وأخطر الفتن التي يمارسها المنافقون في مجتمعات المسلمين ما يلي:

–        فتنة القضاء على الدولة الإسلامية وتمكين الكفار منها

لو تأملنا التاريخ الإسلامي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومرورا بحروب الردة، ومقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومقتل عثمان رضي الله عنه ، ثم توالي الفتن على المسلمين، وسقوط دولهم إلى عصرنا الحاضر، لرأينا أن ذلك قد تم على أيدي بعض المنافقين، الذين تحالفوا مع الكفار، ومهدوا لهم دخول البلاد، فحري بمن هذا جرمه وهذه فتنته أن يحذر ويتقى، وأن يفضح ويقصى، ولا يمكن له في بلاد الإسلام. وعن فتنة المنافقين في التاريخ الإسلامي يتحدث الدكتور عبدالعزیز کامل، فيقول حفظه الله تعالى:

(لا تعجب! فالتاريخ ليس خيرا كله، فهو وعاء لما يقضى من القدر خيره وشره؛ فأقدار الخير يهيئ الله لها رجالا عظماء شرفاء؛ فبعد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كم من رجال تألقوا في التاريخ، بل تألق التاريخ بهم، وأما أقدار الشر فقد خلق لها الأشرار، ولم يعدم التاريخ منهم من يعكر صفو صفحاته العظيمة، ومن يجرف مجری سيره نحو الانحدار، لا نتحدث هنا عن التاريخ الإنساني بعامة؛ فهذا ليس موضوعنا، ولكن عن التاريخ الإسلامي خاصة؛ حيث كان ذلك التاريخ مشطورا بين نصيبين: نصيب للصادقين السائرین على المحجة البيضاء، ونصيب للكاذبين الخاطئين من حزب المنافقين أو ضحاياهم من العصاة الفاسقين.

أما المنافقون منهم فكانوا ولا يزالون كالورم الخبيث الكامن في الجسد بانتظار لحظة من الوهن والإنهاك، حتى يفرض نفسه منتشرا بالداء والبلاء.

تعالوا نستنطق التاريخ، ونستخرج شهاداته، ونقلب بعض ملفاته وصفحاته، لعلنا نستحضر بعض ملامح الواقع العملي لقوله تعالى عن المنافقين في كل زمان ومكان: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4].

منافقو العرب وفتنة الردة

أبو بكر رضي الله عنه هو أعظم عظماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، لا يشك في ذلك مؤمن، ولكن انظر لهذا العظيم الكريم: من شغله واستغرق جهده في سني حكمه القصيرة، حتى لم تكد همومه تخرج عن حدود الجزيرة إلا قليلا؟! إنهم فئام ممن كتم نفاقهم وأسكت صوتهم أيام تنزل الوحي؛ حيث كانوا دائمي الخوف وهذا سر انقماعهم من تنزل القرآن بأخبارهم وأسرارهم: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 14]، فلما أمنوا تجدد ذلك التنزيل بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، استعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوایا، وكشفوا عن نفاق كان مستورا، وجهروا بالامتناع عن ركن الإسلام الثالث، بأن منعوا الزكاة التي كانوا يؤدونها كرها على عهد الرسالة: ﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 98]، وبدأت معالم فتنة تولى كبرها مبكرا أعراب منافقون في المدينة وحولها، كان القرآن قد حذر منهم: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ [التوبة: 101]، بدأت هذه الفتنة صغيرة في إطار هؤلاء المحيطين بالمدينة، حتی توسعت کنار الهشيم بعد أن تحولت من نفاق مستتر إلى ردة معلنة، استوعبت أرجاء الجزيرة حتى لم يبق على الإسلام في تلك الجزيرة، التي وحدها محمد صلى الله عليه وسلم إلا أهل المسجدين.

وشاء الله تعالى أن يطفئ تلك النار التي شبت في أرجاء الجزيرة بثبات بدأ به رجل واحد، واستطاع أن يختار للمرحلة ما يناسبها من الحسم والحزم، وطارد أبو بكر المرتدين في أرجاء الجزيرة، حتى ردها كلها إلى الإسلام، ولا ندري أي مستقبل كان يمكن أن يكون لهذا الدين لو ترك أبو بكر هؤلاء المنافقين الذين تحولوا إلى مرتدين؛ ليعبثوا في ثوابت الدين ويعيثوا فسادا داخل حصن الإسلام والمسلمين.

وجاء بعد الصديق عمر الفاروق رضي الله عنهما ، الذي خنس النفاق في عهده وانقمع؛ وكيف لا يكون الأمر كذلك وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي كان إذا سلك فجا سلك الشيطان فجا غيره؟!

ومع هذا؛ فقد جرى في شأن مقتله لغط بسبب شبهات ثارت حول تواطؤ ما حدث بين قاتله المجوسي أبي لؤلؤة، ورجلين آخرين، حيث ترجح لدى ولد الفاروق (عبيد الله بن عمر) رضي الله عنهما أنهما تآمرا مع أبي لؤلؤة على قتل أبيه، وكان أحدهما من أمراء الممالك الفارسية ويدعى (الهرمزان)، وقد أعلن إسلامه بين يدي عمر رضي الله عنه، والآخر يدعى (جفينة)، وقد مات على النصرانية، وقد باشر عبيد الله قتلهما بنفسه ثأرا لأبيه…

وانجلت الظلمة بعد اغتيال الفاروق بإشراق عهد ذي النورین، وشرع الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه في إكمال ما بدأه أسلافه من تمكين للدين في الداخل ونصرته في الخارج، وتعززت في عهده رایات الفتوح، حتى سارت قافلة الإسلام في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه لا تخلو من هنات البشر، ولكن بشرا آخرين أوغلوا في الغلو، وتنطعوا في طلب الكمال الذي لم يقتربوا هم من حده الأدنى، بل لم يلج بعضهم دين الإسلام أصلا؛ حيث كشف النفاق عن حزبه الجديد، ممثلا في عبد الله بن سبأ وجماعته؛ حيث أظهر ذلك الرجل اليهودي الملقب ب (ابن السوداء) الإسلام في زمن عثمان، وانطلی نفاقه على كثيرين، بل قل: اجتمع على نفاقه الكثيرون، فبدأ ينشط في الشام والعراق ومصر زاعما النصح للمسلمين، وهو لا يريد إلا تفریق صفوفهم، وبث الخلاف بينهم، وتجمع حوله أشباهه من المنافقين، فكان منهم نفر ممن نزلوا مصر واستوطنوها مع الفاتحين، ونفر آخر كانوا في العراق وآخر في الشام، وبدأ المنافقون فتنتهم بالتنادي بلا حياء بعزل من كان يستحي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتجمع رعاع آخرون ممن لا يفقهون حول المطالبة بعزل عثمان، بل تأثر بذلك بعض الصادقين من المؤمنين الذين شوشت عليهم دعايات المنافقين وتهويلاتهم، وصدق الله إذ قال عن شأن المسلمين مع المنافقين: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47]، لما قتل المنافقون من عصابة ابن سبأ عثمان رضي الله عنه: ؛ وبويع علي رضي الله عنه بالخلافة، باتت ظلال المصيبة مخيمة على الأجواء، واختلطت مشاعر الحزن بمشاعر الغضب، حتى استحالتا إلى رغبة في الانتقام، ثم عزيمة على الثأر. ولولا نفاق هؤلاء وتسترهم بالإسلام مع اختلاطهم في الناس لما أشكل أخذهم والثأر منهم، ولكنه النفاق الذي يخدع ويخادع، ويخلط الأمور كلما كادت أن تصفو…

ولم يكن ممكنا لأحد أن يتصور أن تبلغ خيانة المنافقين على الأمة إلى أن تنشب مثل هذه الفتن والمعارك بين المسلمين، وفيهم من سادات الصحابة والتابعين.

ومن الفتن التي تولدت عن الفتنة الأولى ثم ما تلاها من أحداث: ظهور فرقة الشيعة؛ فقد نظر هؤلاء إلى علي رضي الله عنه على أنه يمثل موقف بيت النبوة، وأن كل من خالفه فقد خالف هدي النبوة وأمانة الرسالة، وبدأ هذا الموقف عاطفيا، ثم تطور مذهبيا حتى اجتمع حوله فرقة ذات طموحات سياسية، وكانت نشأتها حين انفصل الخوارج عن جيش علي، فرأى من بقي منهم أنهم هم وحدهم شيعة علي ومن ثم شيعة أهل البيت، ولم يكونوا وقتها يطعنون على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عمل فيهم النفاق عمله أيضا؛ حيث ظهر فيهم من يفضل عليا على أبي بكر وعثمان بمجرد الهوى، ثم تطور إلى رفض خلافتهما وشتم من يراها شرعية، ثم تطور الأمر إلى القول بعصمة آل البيت والأئمة الإثنى عشر منهم، وقد أسهم منافقو الفرس الذين فتح الفاروق عمر بلادهم ثم أكملها عثمان رضي الله عنه بعد الشيخين أسهم هؤلاء المجوس في بث العداوة والفرقة في الأمة بالطعن على السلف والتآمر ضدهم، وكان ذلك قد بدأ بقتل عمر رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم تحول إلى تبني ذلك المذهب الشيعي، الذي لا يزال أخطر مذهب مناوئ لمذهب السلف وطريق أهل السنة والجماعة اعتقاديا وسياسيا.

دور المنافقين (العبيديين في استقدام الصليبيين)

تظاهر رأس من رؤوس المنافقين بالتشيع، وكان يدعى أبا الخطاب ابن الأجدع، وهو الذي نسبت إليه الفرقة الخطابية، وسلك طريق النفاق المعتاد بادعاء الصلاح، فصاحب جعفر الصادق في حياته، وادعى أنه وصيه بعد مماته برغم تبرؤ جعفر منه، وتتلمذ على أفكار ذلك المنافق زنديق آخر هو ميمون القداح المنحدر من أصول یهودية، وعمد هذا الآخر إلى الدعوة للتشيع على الطريقة الإسماعيلية المنحرفة، وتحركت بإيحاء من تلك الأفكار الحركة القرمطية، التي تبنت نشر المذهب الإباحي الداعي إلى إباحة كل المحرمات وإسقاط الواجبات.

وكان لميمون القداح حفيد يدعى (سعید)، ادعى أنه أحد أبناء الأئمة المستورين من ذرية إسماعيل بن جعفر الصادق؛ فزعم على هذا أنه علوي يستحق الخلافة !! وقد بدأ يدعو إلى نفسه بالخلافة بعد أن سمى نفسه (عبيد الله)، وشایعه جمع من المنافقين على ذلك، وأشاعوا أنه حقا من العلويين من ولد فاطمة رضي الله عنها، وتطورت دعوته بعد أن کسبت الأنصار، فأقاموا الدولة الفاطمية بالمغرب، وكان إخوانهم القرامطة والإسمياعلية قد أقاموا دولا قبل ذلك في البحرين واليمن.

واستمرت دولة العبيديين في المغرب من عام 297 ه حتى عام 363 ه، حيث انتقلت بعد ذلك إلى مصر في عهد الخليفة (العبيدي المعز لدين الله)، فأقام لدولة النفاق الشيعي کيانا بمصر.

وقد كان هؤلاء العبيديون الخبثاء طيلة عهود يقربون الكفار، وبخاصة النصارى، ويتخذون منهم البطانة ويولونهم المناصب، ويكثرون من الزواج منهم، وكانت هذه البطانة سببا أساسيا من أسباب استفحال أمر النصارى في الشام بعد سيطرة العبيديين عليها، حتى آل أمر الشام إلى أن سقطت في أيدي الصليبيين، بعد أن فر أمراء العبيديين منها، وتركوها لقمة سائغة لهم حتى احتلوا القدس، وسيطروا على المسجد الأقصى، ورفعوا الصلبان على مآذنه!.

النفاق وسقوط الخلافة العباسية

تساهل آخر خلفاء العباسيين الخليفة المستعصم بالله، في اتخاذ بطانة من المنافقين؛ فقد قرب إليه أحد الروافض الخبثاء، وجعله وزیره و مستشاره وهو: محمد بن أبي طالب مؤيد الدين العلقمي، وكان هذا الزنديق راغبا في تحويل الخلافة عن أهل السنة إلى الشيعة، ولما كان الشيعة وقتها في حالة من الذلة لا تسمح لهم بذلك، فقد عزم ذلك المنافق المتسمي بالإسلام أن يستخدم لهذه الغاية الكفار الصرحاء، فأغرى ملك الدولة الوثنية التتارية (هولاكو) بغزو دولة الخلافة العباسية، وكاتبه في ذلك، فاستجاب هولاكو، وطلب من ابن العلقمي أن يمهد لذلك أولا من طرفه، بأن يستغل قربه من الخليفة لكي ينصحه بتسريح أكبر عدد ممكن من الجيش العباسي.

وبالفعل استطاع العلقمي أن يقنع الخليفة بتسريح خمسة عشر ألفا من فرسان الجيش بذريعة خفض النفقات، ولما أعفوا من الخدمة في جيش الخلافة أمرهم الوزير المشؤوم بأن يغادروا بغداد، ويبحثوا عن أرزاقهم خارجها، وبعد ذلك بمدة أقنع الخليفة بتسريح عشرين ألفا آخرين، مدعيا أمامه أن البلاد في أمان ولا تحتاج إلى كل هؤلاء الجنود، وظل هذا الخبيث وغيره من المنافقين سائرين على هذه الطريقة في إضعاف الدولة العباسية عسكريا حتى استيقن بأنها قد بلغت أشد حالات الضعف؛ فقد أصبح جيشها لا يزيد عن عشرة آلاف جندي بعد أن كانوا في آخر عهد الخليفة السابق نحو مئة ألف جندي.

وعندما أنجز تلك المهمة القذرة في غفلة الولاة اللاهين عن جهاد المنافقين، أوعز العلقمي إلى هولاكو بأن يقدم إلى عاصمة الخلافة ولا يضيع الفرصة، فدخل التتار بغداد وقتلوا الخليفة شر قتله، وفتح الوثنيون التتار أبوابا من الجحيم على أهل بغداد، فأباحوها أربعين يوما يعملون القتل فيها ويشيعون الدمار، حتى أحصي القتلى في تلك المدة بألفي ألف نفس! وكوفيء الوزير (ابن العلقمي)، فعينه هولاكو وزيرا في الحكومة الجديدة على أطلال بغداد التي خربها النفاق.

المنافقون وإسقاط الخلافة العثمانية

مهما قيل عن خلافة آل عثمان من الأتراك وما كان عليها من المآخذ، فإن التاريخ يحفظ لهم أنهم حافظوا على وحدة العالم الإسلامي في كيان سياسي عالمي استمر ما يزيد عن خمسة قرون، صدوا خلالها عن المسلمين الحملات الشرسة من كفار الشرق والغرب من الروس والأوروبيين.

ولكن تلك الخلافة التي أذلت کبریاء طواغيت العالم في العديد من الملاحم، تكرر معها في أواخر عهدها أمر قریب مما حدث مع الدولة العباسية، حين استوزر الخلفاء وقربوا عناصر من المنافقين الحاقدين على الإسلام الحاملين لأسماء المسلمين؛ فقد سيطر على مقاليد الأمور في تركيا في أواخر عهد الخلافة شرذمة من منافقي اليهود، الذين كانوا قد قدموا إلى تركيا من أسبانيا بعد أن طردهم النصارى من هناك بعد انتهاء حكم المسلمين في الأندلس، وتكون تحالف غير مقدس من اليهود الصرحاء والنصارى في الخارج، مع المنافقين الأتراك في الداخل سواء كانوا من أصول تركية، أو من هؤلاء الدخلاء المهاجرين الذين كانوا مع أعداء الأمة قلبا وقالبا.

واللافت هنا أن عصابة المنافقين هؤلاء الذين كان يطلق على أسلافهم: يهود الدونمة؛ لم يتحركوا في بلاد الإسلام إلا تحت مسمى الإسلام، ويعجب المرء: كيف أمن المسلمون لهؤلاء أن يتركوهم على هذه الحال من الترقي في مناصب الدولة وهم يعلمون خبثهم، ولم تكن لهم دلائل صدق في الإيمان حتى يصلوا إلى مناصب الوزراء وقادة الجيوش.

ومع مجيء القرن العشرين كان التنسيق بين اليهود وبين المنافقين الأتراك قد بلغ مداه، وبخاصة عندما رفض السلطان العثماني عبدالحميد أن يعطي اليهود فلسطين ليقيموا عليها دولة لهم.

فعندها عزم زعيم الصهيونية الحديثة (تيودور هرتزل) على إزاحة تلك العقبة أعني الخلافة، ليقيم اليهود على أنقاضها دولة للمنافقين المرتدين في تركيا، ثم دولة لليهود الظاهرين في فلسطين، ولم يكن بوسع هرتزل ولا من حوله من المنظمات اليهودية المدعومة بنصارى أوروبا أن يصلوا إلى هذين الهدفين لولا أولئك المنافقون المتسمون بأسماء المسلمين داخل تركيا.

فقد تأسس المحفل الماسوني المسمى ب (محفل الشرق العثماني) في تركيا، ليكون ناديا للضرار يضم في أعضائه كل عدو لدود للإسلام، وشكل المنافقون الأتراك أيضا جمعية (الاتحاد والترقي) وحزب (تركيا الفتاة)، ليضموا في أعضائها عناصرهم من القادة في الجيش وغيره من مرافق الدولة، وبدأ الجميع يتحركون في غفلة من الساسة والعلماء وأهل الفكر من المسلمين، الذين غفلوا أو تغافلوا عن حكم الله في إبعاد المنافقين وجهادهم والغلظة عليهم، حتى انتهى الأمر إلى إسقاط الخلافة العثمانية وإلغاء منصب الخليفة على يد أكبر رموز النفاق في القرن المنصرم: مصطفی کمال أتاتورك؛ وعندها خلع المنافقون رداء الإسلام، وارتدوا ثوب الردة المسماة ب (العلمانية)، تلك الراية الكفرية الفضفاضة التي أظلت تحت جناحها كل جبار عنيد.

ولكن تلك الردة أعني العلمانية أبت أيضا أن تستأنف مسيرتها إلا على الطريق نفسه، الذي سار عليه ابن سلول وابن سبأ ومیمون القداح والعلقمي وسبتاي زيفي وكمال أتاتورك.

إنه طريق النفاق، وهو الطريق الذي ظل موصولا إلى يومنا هذا؛ حيث يمكننا أن نقول: إن مسيرة الذل التي تسير فيها الأمة منذ أكثر من قرن من الزمان لم يذلل سبلها ويمهد طرقها إلا طوائف المنافقين، الذين اتخذوا من الكافرين أولياء، فأسلموهم أمة الإسلام وأخضعوها لهم، ومكنوهم من تركيعها عسكريا واستلابها حضاريا، والتحكم فيها سياسيا واقتصاديا في غيبة سلطان الحكم بدين الإسلام الذين عملوا قبل الأعداء على محاربته ومحاربة أهله بالأصالة عن أنفسهم حينا، وبالنيابة عن الأعداء أحيانا)2(2) عن مقال (خطر النفاق حقيقة أم خيال) مجلة البيان العدد (۱۷۲) ص 60 باختصار وتصرف يسير..

وفي واقعنا المعاصر رأينا كيف أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق لم يتم إلا عن طريق المنافقين النفعيين من الرافضة الباطنيين والعلمانيين، المتنكرين لدينهم، الهائمين في حب الغرب وأفكاره وأخلاقه، الراكنين إلى الدنيا ومناصبها ولو على حساب الدين وأهله .

الهوامش

(1) انظر مقال (جهاد المنافقين) مجلة البيان عدد (171) د. عبدالعزیز کامل.

(2) عن مقال (خطر النفاق حقيقة أم خيال) مجلة البيان العدد (172) ص 60 باختصار وتصرف يسير.

اقرأ أيضا

النفاق صرح ممرد وقواعد تتحرك

خذلان قضايا المسلمين .. وسياق النفاق

المنافقون وامتداد خطرهم .. بعضُهم من بعض

 

التعليقات غير متاحة