غزوة مؤتة كانت أول معركة للمسلمين مع النصارى، عيّن النبي صلى الله عليه وسلم لها قادة ثلاثة، زيد بن حارثة ثم قال: “إن قُتل زيدٌ فجعفر، وإن قُتل جعفرٌ فعبدالله بن رواحة”.

تزايد الاعتداءات من قبل القبائل العربية الآتية من جبهة حدود الدولة الإسلامية مع الشام

أشرنا فيما سبق [بداية العلاقات بين المسلمين والروم] إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم، بدأ يعطي عناية بالغة إلى جبهة حدود الدولة الإسلامية مع الشام- حيث يسيطر الروم- منذ بداية العام الخامس الهجري، حيث غزا بنفسه دومة الجندل، ثم أغزى زيد بن حارثة وادي القرى ثم أغزى عبد الرحمن ابن عوف دومة الجندل ثانية، وذلك لإظهار هيبة الإسلام في هذه الجهات ثم لإنذار القبائل العربية فيها، بأن التعرض للمسلمين بأي أمر لن يمر دون عقاب.

ولكن يبدو أن هذه القبائل لم تفهم، أو لم ترد أن تفهم ذلك فدأبت على الاعتداء على المسلمين وبصفة خاصة على قوافل التجار المسلمين التي تمر بهم، ولم يسلم منهم حتى رسل النبي صلّى الله عليه وسلم، فبينما كان دحية بن خليفة الكلبي عائدا من عند هرقل- بعد أن سلمه رسالة النبي- تعرض له بعض من قبائل جذام، وأغاروا عليه، وأخذوا كل شيء معه1(1) ابن الأثير- الكامل (2/ 207) ..

قتل الحارث بن عمير الأزدي مبعوث رسول الله إلى أمير بصرى

ثم بلغت هذه الاعتداءات قمتها في هذا العمل الغادر الدنيء وهو قتل الحارث بن عمير الأزدي، مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى، وإليك رواية ابن سعد عن هذا الحادث: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحارث بن عمير إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، رسول غيره، فاشتد ذلك عليه- أي: على النبي- وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف، وهم ثلاثة آلاف.. وأوصاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا، وإلا استعانوا بالله وقاتلوهم.. فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون معان من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل ماب من أرض البلقاء في مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام»2(2) ابن سعد- الطبقات (2/ 128، 129) وانظر سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 183) ..

الأمر إذن ليس أمر اعتداءات عفوية متفرقة، على الإسلام والمسلمين، وإنما هو أخطر من ذلك بكثير، هو تحالف ضخم بين القبائل العربية وبين الروم ضد دولة الإسلام الوليدة، وضد الدعوة الإسلامية والتصدي لها ومقاومتها، وهو ما لم يمكن السكوت عليه من جانب المسلمين ولذلك كانت مؤتة وكان ما تلاها من أحداث وتطورات بين المسلمين والروم.

تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام

لما وقعت حادثة اغتيال مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم، الحارث بن عمير الأزدي، كان لا بد من عقاب من قام بهذا العمل الغادر؛ لأن دماء الرسل والسفراء والمبعوثين مصانه في كل عرف وفي كل زمان ومكان، فإذا اعتدى أحد على مبعوث من مبعوثي النبي بهذا الشكل الدنيء؛ فإن هذا يعتبر إهانة بالغة للإسلام والمسلمين، وإذا لم يرد المسلمون على هذا العدوان؛ فإن هذا في أقل تقدير سيطمع فيهم أعداءهم ويجرئهم على تكرار هذا الفعل مرات عديدة، خصوصا في هذه المناطق التي لا غنى للمسلمين عن المرور فيها، دعاة أو تجارا أو مجاهدين أو مبعوثين لذلك كان الرد والعقاب أمرا مشروعا، فندب النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين للقيام بهذه المهمة وأمرهم أن يقصدوا إلى المكان الذي استشهد فيه الحارث بن عمير رضى الله عنه وقبل القتال أمرهم النبي أن يدعوا الناس إلى الإسلام فإن أجابوا، فعندئذ يكونون قد اعتذروا عن فعلتهم وكفروا عن ذنبهم، فلا داعي لقتالهم. أما إذا رفضوا الإسلام، فإنهم بهذا يؤكدون إصرارهم على عدائهم للإسلام ومقاومته، وعندئذ كانت أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم لجنوده بأن يستعينوا الله عليهم ويقاتلوهم. وكانت المهمة على هذا النحو محدودة تحديدا دقيقا. فهي مهمة تأديبية. لتأديب شرحبيل بن عمرو الغساني ومن ظاهره على هذه الجريمة، ولم يرد فيها ذكر للروم إطلاقا، بل ربما لم يرد في ذهن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الروم سوف يتصدون للمسلمين بهذه الأعداد الهائلة. فنحن نعرف من حذر النبي وحيطته أنه لو فكر في الروم وتصور أن يدخلوا مع المسلمين في حرب لاستعد لذلك استعدادا أكبر ولكانت الحملة على نطاق واسع، فالروم دولة قوية وإمكانياتها هائلة، وهي قد انتصرت على دولة ندّ لها وهي دولة الفرس التي كانت تنازعها زعامة العالم المعروف حينئذ، فلو قدر النبي أن المسلمين سوف يضطرون لحرب الروم لأمدهم بإمدادات أكبر.

على كل حال توجهت حملة مؤتة إلى وجهتها وعلى رأسها القواد الثلاثة الذين عينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فلما وصلت الحملة وعلم قوادها أن الروم جمعوا جموعهم لحربهم «أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة»3(3) انظر عن غزوة مؤتة المصادر الآتية: ابن هشام (2/ 420) ، الروض الأنف- السهيلي (2/ 12) وما بعدها. ابن سعد- الطبقات (2/ 128) وما بعدها. ابن الأثير- الكامل (2/ 235) ..

أي: إن المسلمين قدروا خطورة الموقف وتدارسوه، ولولا غلبة حماسة عبد الله ابن رواحة عليهم لربما اختلف الموقف واختلفت النتيجة. أو لو أرسلوا إلى النبي لكان من الممكن أن يمدهم بالرجال، أو يرى رأيا فيه نجاحهم وانتصارهم، ولكن قدر الله وما شاء فعل.

سرت كلمات عبد الله بن رواحة في روح الجند وحمستهم للقتال خصوصا عندما قال: «يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، فقال الناس: صدق والله، وساروا» .

ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله

بدأت حرب عاتية شرسة بين جيشين ليس بينهما أدنى تكافؤ، فماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف من الروم والعرب الذين ينضوون تحت سلطانهم، وقاتل جند الله- كما هو العهد بهم- قتالا مجيدا، واستشهد قوادهم الثلاثة على التوالي، ثم آلت القيادة إلى عبقري الحرب، سيف الله خالد بن الوليد رضى الله عنه الذي نظر إلى الموقف نظرة ثاقبة، وقدر بفطرته العسكرية، وحرصه على المسلمين أن الاستمرار في الحرب أمر خطير قد يودي ببقية المسلمين، ورأى أن الحكمة تتطلب منه أن ينقذ المسلمين من الهلاك فوضع خطته البارعة للانسحاب وانسحب بمن بقي من المسلمين وعاد إلى المدينة حيث استقبلهم الناس مظهرين استياءهم من موقفهم، وعيروهم وقالوا لهم: «يا فرار فررتم في سبيل الله» وكان تقدير الناس أنهم فروا من المعركة ولم يكن هذا صحيحا، فالفرار لم يكن من خلق المسلمين الصادقين أبدا ولن يكون.

ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم قدر موقفهم ورفع معنوياتهم وقال: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» .

وهكذا أصبح جليّا أن الروم قد أعلنوها حربا شعواء على الإسلام ودولته. ولكن المسلمين سوف يلقنونهم درسا قاسيا، وسوف يرغمون هرقل على أن يغادر الشام وإلى الأبد. وقلبه يقطر دما وهو يقول: «وداعا يا سوريا وداعا لا لقاء بعده» .

مؤتة إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين

رأينا ما قد صنع الروم بالمسلمين في مؤتة، حيث حاولوا استئصالهم، لولا لطف الله، الذي ألهم خالد بن الوليد بخطة الانسحاب. وقلنا لك: إن تدخل الروم في مؤتة على هذا الشكل يعتبر إعلان حرب من جانبهم على الإسلام والمسلمين.

وما داموا قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فإن جهادهم ورد عدوانهم أصبح واجبا على المسلمين وقيادتهم. وقد فتحت مؤتة عيون المسلمين أكثر فأكثر على خطر الروم. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم دائم الرصد لأخبارهم وكل تحركاتهم، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتأديبهم ولينسيهم وساوس الشيطان. ولم يكن مناسبا أن يغزو النبي صلّى الله عليه وسلم الروم قبل أن تذعن قريش للإسلام، صحيح أن بين النبي وبين قريش هدنة بسبب صلح الحديبية، ولكن لا يدرى ماذا تصنع قريش إذا علمت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم انشغل في حرب مع الروم؟ فقد تنتهز الفرصة وتنقض على المدينة، وعندئذ يقع المسلمون بين عدوّين خطيرين.

تصفية الحساب مع قريش

لذلك آثر النبي أن يؤجل الاشتباك مع الروم والذي- أصبح واجبا محتما- إلى ما بعد تصفية الحساب مع قريش. خصوصا وأن قريشا عندما علمت بهزيمة المسلمين في مؤتة أمام الروم، فرحت جدّا، وظنت أن في ذلك القضاء على المسلمين، فما دام الروم قد وجهوا أنظارهم إلى المسلمين، ورصدوا لهم هذه الأعداد الهائلة، فإنهم سوف يريحونها من الإسلام هكذا ظنت قريش وهكذا فكرت، ولكن خاب تفكيرها وساء ظنها: حمل هذا التفكير السقيم وهذا الظن السيئ قريشا على نقض معاهدة الحديبية- التي أشرنا إليها- استخفافا بأمر المسلمين بعد مؤتة، ولتعيد الأمور كما كانت عليه قبل عهد الحديبية4(4) انظر د. هيكل- حياة محمد (ص 412) .، ولم تكن تدري أن ذلك سوف يؤدي إلى أن تفتح مكة أبوابها للنبي صلّى الله عليه وسلم.

كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فلما كانت مؤتة، وخيّل إلى قريش أن المسلمين قد قضي عليهم، فلما اعتدت بنو بكر على خزاعة- وهم حلفاء النبي- نصرتهم قريش ولم تراع صلح الحديبية، وبهذا تكون قد نقضت المعاهدة نقضا صريحا. ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم ليقبل من قريش هذا العبث بالعهود، خصوصا في هذا الجو النفسي الذي شاع بعد مؤتة. والنبي من ناحيته وفيّ لقريش تماما بكل التزاماته نحوها، وطبقا لما نص عليه صلح الحديبية، حتى أنه لم ينصر بعض المسلمين الذين كانت تعذبهم قريش؛ لأنه التزم بذلك، وأكبر مثل على ذلك، قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو وقصة أبي بصير.

قريش تنقض العهد … ورسول الله يفتح مكة

ومع ذلك تنقض قريش العهد بهذه البساطة، أليس ذلك استخفافا بالمسلمين؟! لذلك عزم النبي صلّى الله عليه وسلم على غزو قريش، وتلقينها درسا في احترام العهود. ولم تقو قريش على مواجهة النبي، ففتحت مكة أبوابها وأذعنت قريش لأمر الله ورسوله. وضرب الرسول لهم أروع الأمثلة في العفو والتسامح، فنسي ما صنعوه معه طوال عشرين عاما.

فلما دخل البيت العتيق، وقريش كلها في قبضته، قال لهم: «ماذا تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»5(5) ابن الأثير- الكامل (2/ 252) ..

موقعة حنين وهزيمة هوازن

فتحت مكة في العشرين من رمضان في العام الثامن الهجري، وأسلمت قريش وبعد أسبوعين من فتح مكة، علم النبي في أثنائها أن هوازن تعد العدة للهجوم على المسلمين، فقرر أن يباغتهم قبل أن يباغتوه فحدثت موقعة حنين وهزمت هوازن وحلفاؤها من ثقيف ثم حاصر النبي الطائف لإخضاع ثقيف التي تحصنت فيها، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفع الحصار عن الطائف؛ لأنه كان على يقين أنه بعد فتح مكة وإسلام قريش، فلن تقو أية قبيلة عربية على حربه، وأن ثقيف آتية إليه طال الزمن أو قصر، ولقد استشار النبي نوفل بن معاوية الدئلي في المقام على حصار ثقيف فقال له: «يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذّن بالرحيل»6(6) ابن الأثير- الكامل (2/ 267) ..

وبعد أن قسم النبي غنائم حنين على أصحابه عاد إلى المدينة مظفرا في شهر ذي الحجة ليتابع الموقف في الشمال مع الروم، وهنا جاءته الأخبار بأن الروم يستعدون للهجوم على ديار الإسلام، فكانت غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة.

الهوامش

(1) ابن الأثير- الكامل (2/ 207) .

(2) ابن سعد- الطبقات (2/ 128، 129) وانظر سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 183) .

(3) انظر عن غزوة مؤتة المصادر الآتية: ابن هشام (2/ 420) ، الروض الأنف- السهيلي (2/ 12) وما بعدها. ابن سعد- الطبقات (2/ 128) وما بعدها. ابن الأثير- الكامل (2/ 235) .

(4) انظر د. هيكل- حياة محمد (ص 412) .

(5) ابن الأثير- الكامل (2/ 252) .

(6) ابن الأثير- الكامل (2/ 267) .

المصدر

“بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة” للدكتور عبد الشافي عبد اللطيف، ص117-122.

اقرأ أيضا

بداية العلاقات بين المسلمين والروم

الدولة الصفوية في إيران.. التاريخ والمنهاج

قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (1-2) مظاهر التخلف

 

التعليقات غير متاحة