في صلح الحديبية تنزلت رخص وشرعت أحكام، وتعلَّم الناس معنى الانقياد والثقة في مغبة الطاعة وحُسن عاقبة الانقياد لله ورسوله.

مقدمة

كانت البشارات كثيرة ومتوالية في صلح الحديبية، وفي عاقبة الطاعة فيه والإستسلام، وعاقبة الثبات والنصرة لهذا الدين؛ وهكذا يكمن الخير في الطاعة وهو عاقبة كل طاعة.

الفأل والظن الحسن

كان، صلى الله عليه وسلم، يُعجبه الفأل ويكره الطِيرة والتشاؤم، وكان كذلك يحسن الظنّ بمن لا يُعهد منه السوء، وكذلك ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بنبيهم؛ إذ الفأل يدفع للأمام، ويشحذ الهمم، والظنّ الحَسن يُريح الصدور، وهو مؤشر إلى سلامة القلب.

قال ابن القيم رحمه الله:

“ومن فوائد (قصة الحديبية) استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطِّيَرة المكروهة؛ لقول النبي، صلى الله عليه وسلم، لمّا جاء (سهيل): «سَهُل أمركم». (1زاد المعاد: 3/ 503)

أما حُسن الظن فيظهر في تعامله، صلى الله عليه وسلم، مع مقولة المسلمين للناقة: (خلأت القصواء)، وقوله ـ دفاعاً عنها، وتبريراً لحالها ـ: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق، ولكن حبسها حابسُ الفيل».

قال العلماء:

“وفي ذلك جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها لا يُنسب إليها، ويُرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله”. (2السيرة من فتح الباري: 2/ 591)

ما أحوجَنا إلى هذا الأدب في حسن الظن والتعامل مع الأخطاء مع البشر إنه لا يعني التغفيل لكنه حسن ظن، وإقالةٌ للعثرة، وتغلبٌ للخير والمحاسن على الشرِّ والقبائح، ولو أُسقط كلُّ أحدٍ بخطأ وقع فيه لما بقي أحدٌ صالحاً للاعتبار، فلنترفق بإخواننا وبأنفسنا، ولنحفظ حبل الودّ بيننا، وليكن حسن الظن أصلاً راسخاً في علاقاتنا وتعاملنا؛ فذاك يسهم في وحدتنا، ولا يدع مجالاً للشيطان للتحريش بيننا، ولا يعني ذلك بحال ترك المناصحة؛ فالمؤمن مرآة أخيه، والمؤمنون نَصَحة، لكن هذا شيءٌ، ومحاولة الإسقاط وتصيُّد الأخطاء شيء آخر.

بشارات الحديبية

صدق المؤمنون في الحديبية ـ مع ربِّهم ـ فتوالت عليهم نعمه، وتتابعت عليهم البشائر. أجل! لقد رضي الله عن المبايعين تحت الشجرة، وأخبر عن إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وأنهم أحق الناس بكلمة التقوى، وأنهم أهل لها، غُفِر لأهل الحديبية بخبر الذي لا ينطق عن الهوى: «كلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر» (3رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم: 6894)) . قيل: إن صاحب الجمل الأحمر ـ الجدُّ بن قيس، وقيل رجل من بني ضُمرة (4ورجحه صاحب مرويات الحديبية: 69)

وشهد النبي، صلى الله عليه وسلم، بأنهم «خير أهل الأرض» (5رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 9383)، وبشَّرهم بالنجاة من النار: «لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحدُ الذين بايعوا تحتها». (6صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2554)

ووعدهم الله مغانم كثيرةً يأخذونها، فعجّل لهم منها ما عجّل، وكفّ أيدي المشركين عنهم، فُتِحَتْ خيبر، وخُضِدَتْ شوكة اليهود، وامتدت الدعوة في الجزيرة، وانتشر الإسلام، ووصل صوته عالياً إلى الأمم والملوك والرؤساء، ثم تحقق الوعد وجاءت قمة البشائر ودخل المسلمون مكة، واطَّوَّفوا ـ آمنين ـ في البيت الحرام ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 27].

نعم لقد كان تأجيل دخولهم مكة لحكمة يعلمها الله ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ فلم يُرِد الله أن يدخل المسلمون مكة، وسيوفهم مصلتة على رؤوسهم، ولا يريد الله أن يدخلوا مكة وبعضهم يحمل السلاح وبعضهم يطوف. لا يريد الله ـ في هذه المرحلة ـ أن تقع معركة بين المسلمين وأهل مكة، بل اقتضت حكمته سبحانه ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ﴾ [الفتح: 27]، ودخل المسلمون مكة في (عمرة القضاء) آمنين، وإن رغمت أنوف المشركين، واكتحلت عيونهم وقرَّت قلوبهم بالبيت الحرام بعد طول صدٍّ وغياب.

وكذلك يفلح الصابرون، وينتصر الصادقون، وكلما صدق المسلمون مع ربّهم هيأ لهم من أسباب النصر ما لم يحتسبوا، وأثابهم من الرحمات والبركات فوق ما تصوروا، وفتح لهم من البشائر وأنواع النصر ما به يُسَرون ويفرحون. كيف لا؛ وربُّنا عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وبيده بركات السماء والأرض، وخزائنه ملأى، وهو ذو الفضل العظيم.

ألا إن الإيمان مفتاح الخيرات والبركات ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض﴾ [الأعراف: 96]، وبالإيمان يتحقق الأمن والهدى ويسود الإخاء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]؛ فهل يا ترى يبحث المسلمون عن ضالتهم المنشودة، أم تراهم يتخبطون في الظلم والظلمات والضياع والشتات، وأنَّى لهم أن يُنصروا؟

بين خوف الأخيار وتحكيم الآراء والأهواء

المتأمل في قصة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وموقفه (يوم الحديبية) يرى نموذجاً لخوف الأخيار؛ فهو حين تأثر لظاهر شروط الصلح، وراجع النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم راجع أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إنما حملته الغيرة لدين الله ومحارمه، ومع ذلك وحين تبين له أن الخير فيما اختاره الله لرسوله، وكان هذا الصلح فتحاً مبيناً ـ كما أنزل القرآن ـ حينها تأثَّر عمر مرة أخرى وخاف أن يلحقه شيءٌ من الإثم، فعوّض عن ذلك بعمل الصالحات كما قال: «فما زلت أصوم وأتصدق، وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً» (7رواه أحمد، مسند الكوفيين، 25181)

وهكذا يحاسب الأخيار أنفسهم ـ على الدوام ـ ويرون الخطأ اليسير كالجبل العظيم، ولا يزالون يستغفرون ويعملون من الطاعات ما يرونه مُكفِّراً لأخطائهم، أما أهل السوء والغفلة فقد يعملون كالجبال من السيئات، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وفرقٌ بين القلوب الحية ومن قست قلوبهم.

أما الدرس الآخر، في القصة نفسها، فينبِّه إلى أهمية طاعة الله ورسوله والانقياد للشرع وإن خالف الهوى؛ قال العلماء: لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته والانقياد لأمره ولو خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس، أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلفٍ أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ على أتم الوجوه وأكملها؛ غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره (8ابن الديبع الشيباني: حدائق الأنوار، 2/ 226)

ولابن القيم، رحمه الله، كلامٌ نفيسٌ في آثار تحكيم العقول والآراء على الوحي، ومما قاله:

“وكلُّ من له مُسكةٌ من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ في تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل. وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمةٍ إلا فسد أمرها أتمَّ فساد؛ فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، وكم هُدم بها من مَعقِل الإيمان، وعُمر بها من دينِ الشيطان..». (9أعلام الموقعين، 1/ 86)

رُخص الحديبية

الله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم، ومن رحمته بالمسلمين تشريع أحكام فيها تخفيف ورحمة ورفع للحرج والمشقة عنهم، وفي الحديبية شرع كثيرٌ من الأحكام التي كانت رحمةً للمسلمين في الحديبية وللمسلمين من بعدهم عامة، ومن ذلك:

1 – صلاة الخوف: فقد ثبت صلاة المسلمين لها في (عُسفان) زمن الحديبية، بل جزم بعض أهل العلم ـ كابن القيم ـ أن أول صلاة للخوف كانت في (عُسفان). (10انظر: زاد المعاد، 3/ 252، مرويات الحديبية 86، 072)

2 – وشُرعت في الحديبية (الفدية) لمن ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله عنه، وأنزل الله الرخصة له وللمسلمين من بعده في قوله: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]، وحديث كعب. (11متفق عليه) (12مرويات الحديبية 202 ـ 902)

3 – كما شرع فيها التحلُّل للمُحصَر، وأنه لا يلزمه القضاء.

4 – وفي الحديبية شُرعت رخصة الصلاة في الرحال في حال المطر. قال أبو المُليح: قال لي أبي (أسامة بن عمير الهذلي) ـ رضي الله عنه ـ: «لقد رأيتنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية، وأصابتنا سماء لم تبلَّ أسأفل نعالِنا، فنادى منادي رسول الله، صلى الله عليه وسلم: صلُّوا في رحالكم». (13رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهم، والحديث سنده متصل، وصححه ابن حجر في الفتح 2/ 113، مرويات الحديبية: 212، 172)

5 – وفي الحديبية ـ وقيل تكرر في غيرها ـ شُرع قضاء الصلاة الفائتة بالنوم أو النسيان عند ذكرها؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أقبلنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زمن الحديبية، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من يكلؤنا (أي يحرسنا) فقال بلالٌ: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، قال: ففعلنا، قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي». (14رواه أبو داود وأحمد بنحوه، والنسائي بأطول من هذا ـ وغيرهم، وصحح إسناده طائفة من أهل العلم كالهيثمي والألباني والحكمي، انظر: مرويات الحديبية للحكمي ص242، 243، 842)

وهذه الحادثة فيها رخصة لمن اجتهد واحتاط للصلاة، ثم غلبه النوم، أو أدركه النسيان، وليس فيها حُجة للكسالى والمفرطين والذين هم عن صلاتهم ساهون.

خاتمة

هذه بعض رخص الله للمسلمين في الحديبية، واستمرت من بعدهم، وهي سمةٌ من سمات هذا الدين العظيم كما قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].

وهو كذلك سمة للطاعة والانقياد وما يعقبها من الخير.

………………………………

الهوامش:

  1. زاد المعاد: 3/ 503.
  2. السيرة من فتح الباري: 2/ 591.
  3. رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم: 6894.
  4. ورجحه صاحب مرويات الحديبية: 69.
  5. رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 9383.
  6. صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2554.
  7. رواه أحمد، مسند الكوفيين، 25181.
  8. ابن الديبع الشيباني: حدائق الأنوار، 2/ 226.
  9. أعلام الموقعين، 1/ 86.
  10. انظر: زاد المعاد، 3/ 252، مرويات الحديبية 86، 072.
  11. متفق عليه.
  12. مرويات الحديبية 202 ـ 902.
  13. رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهم، والحديث سنده متصل، وصححه ابن حجر في الفتح 2/ 113، مرويات الحديبية: 212، 172.
  14. رواه أبو داود وأحمد بنحوه، والنسائي بأطول من هذا ـ وغيرهم، وصحح إسناده طائفة من أهل العلم كالهيثمي والألباني والحكمي، انظر: مرويات الحديبية للحكمي ص242، 243، 842.

المصدر:

  • أ. د. سليمان بن حمد العودة، العدد: 206.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة