عزيزٌ هو المؤمن وإن فاوض الكفار، قوي وإن هادَن، شديد القربى للمسلمين وإن تباعدت بهم أوطان وأعراق، محفوظ بحفظ الله حتى كان حفظه آية.

مقدمة

كم يحتاج المسلمون الى التفرقة بين أمور يظنها قصير النظر بادي المأخذ أنها متناقضة؛ فلا يجمع بين القوة والعقل والمهادنة، ولا بين العزة والمفاوضة، وغيرها من الأمور. وبينها فروق جلية في كامل العقل والنظر المشترشد بالوحي الكريم.

العزة والثقة بنصر الله لا تفارق المؤمنين

المؤمن لا تفارقه العزّة وإن استكبر واستنكف منه المجرمون، وهو واثقٌ بنصر الله لدينه وإن كانت الغلبة في الظاهر لغير المسلمين، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنْ (صالَح) المشركين و(هادنهم) و (لايَنهم) لمصلحة وحكمة؛ فلم تفارقه (العزة) منذ خرج وحتى عاد إلى المدينة:

أولا) فهو حين خرج أَهدى في جُملةِ هَدْيِهِ جملاً لأبي جهل في أنفه بُرَّةٌ من فضّة يغيظ به المشركين (1أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الحاكم وغيره، انظر: المستدرك 1/ 467، مرويات غزوة الحديبية 233، المسند 1/ 261، سنن أبي داود مع معالم السنن 1749)، وابن القيم (زاد المعاد 3/ 301))

وفيه استحباب مغايظة أعداء الله مُستدلاً بقوله تعالى: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: 29]، وقوله تعالى: ﴿وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ﴾ [التوبة: 120].

ثانيا) وهو حين بعث عثمان، رضي الله عنه، إلى قريش كان من جُملة مهامه التي أوصاه بها أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمنات، ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله مظهرٌ دينه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإيمان، وأن الفرج قريب، فأعلمَهم عثمان بذلك. (2زاد المعاد 3/ 290، السيرة من الفتح، 2/ 302)

ثالثا) وحين أشيع أن عثمان، رضي الله عنه، قُتل دعا المؤمنين معه إلى (البيعة) وكانت (بيعة الرضوان) على الجهاد والصبر وعدم الفرار، بل ورد أنها على الموت، والجمعُ وارد بين هذه العبارات (3انظر حافظ الحكمي، مرويات غزوة الحديبية ص 138-241)، وكانت هذه البيعة منه، صلى الله عليه وسلم، ومن المؤمنين، نصرةً وعِزةً وانتصاراً لكرامة المسلم المظلوم، وإذلالاً ومعاقبة للظالم المعتدي. وقد رضي الله عن البيعة والمبايعين بنص القرآن الكريم، وما أحوجَنا في زمننا المعاصر إلى معرفةِ حق المسلمِ ونصرته إذا اعتُدي عليه.

رابعا) ومِن قَبل الصلح وبعده لم يفارق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثقته بنصرة الله لدينه وإظهاره على الدين كله. وتلك مهمة لا بد أن تُستحضر في نفوس المفاوضين والمحاورين؛ فالحوار شيء والثقة بنصر الله شيء آخر، لا تعارض ولا تضاد بينهما.

أجل؛ لقد أنزل الله فيما أنزل في سورة (الفتح): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [الفتح: 28]؛ فقد تكفّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض. وفي هذا تقويةً لقلوب المؤمنين وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن يُنجزه، فلا تظن أن ما وقع من الإغماض والقهر (يوم الحديبية) نصرة لعدوه، ولا تخلٍّ عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يُظهره على كل دين سواه..؟ (4ابن القيم: زاد المعاد، 3/ 513)

حبل الإسلام ومودته أقوى من مودة القُربى

ما عرفَت الدنيا رابطةً أقوى من رابطة العقيدة، ولا نسباً أعظم من نسب الإسلام. والذين جمعهم الإسلام مع رسول الله محمدٍ، صلى الله عليه وسلم، كانوا يمثلون قبائل شتى، ولكنهم في توادّهم وتراحمهم كالجسد الواحد، وكانوا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على التقدير والتضحية بما لم تبلغه بلاطات الملوك والأمراء والعظماء؛ ذلك الذي اعترف به (عروة بن مسعود) حين قدمِ في الحديبية على النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحح فهمه الخاطئ حين قال للنبي، صلى الله عليه وسلم ـ في البداية: أيْ محمد! أرأيت لو استأصلتَ قومك! هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ـ يعني الهزيمة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ فوالله! إني لأرى وجوهاً، وأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدعوك.

وهنا احتملت الغيرة أبا بكر، رضي الله عنه، إذ تولى الرد على عروة فقال: امْصُصْ بَظْرَ اللات، أنحن نفرُّ عنه وندعه؟ (5و(البَظْر) قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بها، لكن بلفظ (الأم) ـ فأراد أبو بكر المبالغة في سبِّ (عروة) بإقامة من كان يعبد مقام أمه؛ وذلك أن عروة نسب المسلمين إلى الفرار)

قال ابن حجر:

“وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق. وقال ابن المنير: وفي ذلك تخسيسٌ للعدو، وتكذيبهم وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنتُ الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ” ا. هـ.

وكم أنت عظيم يا أبا بكر: إن تكلمت فأنت شجاع، وإن سكتَّ فأنت راضٍ مسلِّم لأمر الله.

وفِقْه القصة (إجمالاً) كما قال الحافظ ابن حجر: أن العادة جرت أن الجيوش المجمّعة لا يؤمَن عليها الفرار؛ بخلاف من كان من قبيلةٍ واحدة؛ فإنهم يأنفون الفرار عادة، وما درى عروة أن مودّة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي، صلى الله عليه وسلم (6السيرة النبوية من فتح الباري 205، 602)

وفي التنزيل: ﴿إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].

مفهوم القوة والضعف والمسامحة والشدّة

الحدَّة والشِّدة والعنف والتشنج ليست بلوازم للقوة، والمسامحة والمهادنة، والتعقّل والمداراة ليست مؤشراتٍ للضعف، والأمور تختلف بأحوالها، والناجح من وظّف الموقف المناسب في الوقت المناسب؛ فليس الشديد بالصّرعة، وإن من البيان لسِحراً، وإذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها، والمداراة من أخلاق المؤمنين، والمداهنة سِيما المنافقين.

ومن تأمل هَدْيه، صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في (الحديبية) وجدها محققة للغرض، وإن غلب عليها المسامحة والمفاهمة. ولذا قال العلماء بجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم ما لم يكن قادحاً في أصله؛ إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرفُ بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيدٌ بالوحي. (7ابن حجر: السيرة في الفتح، 2/ 332)

كم نحتاج إلى هذه القاعدة التي فصّلها الحافظ ابن حجر، وحدد فيها هدف المسامحة في الدين، ووقتها، وضوابطها، وموقف التابع والمتبوع منها.

وكم نحتاج قبل ذلك إلى الوقوف على نصوص الوحيين لمعرفة مفهوم الحق للقوة وأثرها، والواقع يشهد أن قوةً أدبيةً ومرافعة منطقية قد يستجيب ويخضع لها الخصوم، ولجاجاً ومهارشة وحُمقاً قد يتنافر منه الأقربون.

وإذا كان في (الرمي) قوةٌ؛ ففي برهان (الحجة) قوةٌ أخرى، والقوة المثمرة في استخدام أي منها عند الحاجة إليها، كما تثمر المسامحة أو الشدة إذا وُضعتا في موضعهما.

روائع للثبات على الحق، ونموذج لخذلان الباطل

إنهما نموذجان مختلفان: نموذج الثبات على الحق رغم المكاره، ونموذج السقوط للباطل رغم الكبرياء.

يمثل النموذجَ الأولَ أولئك الصحابةُ الذين أوذوا وعُذبوا بمكة؛ فلما حانت فرصة (الحديبية) خرجوا ليتنفسوا الحرية مع المسلمين، ولكن شروط الحديبية حالت بينهم وبين ما يشتهون، ولو كان عندهم أدنى شك في الدين لقال قائلهم، ها قد فعلنا الأسباب وصبرنا حتى عجزنا عن العذاب، أفنُرَدُّ مرة أخرى إلى الفتنة والأذى..؟ ولكن الثبات على الحق والعزيمة على الرشد جعلت أمثال (أبي جندل، وأبي بصير) يفكرون تفكيراً آخر لا يخلصهم مما هم في من محنة؛ لا، بل يجبر قريشاً على أن تعيد حساباتها.. وقد كان كما في تفصيل قصتهما.

أما النموذج المقابل فمثَّلته قريش ممثلة بزعيمها آنذاك (أبي سفيان) الذي هُرع إلى المدينة يستعطف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في استقدام أبي بصير والمؤمنين معه؛ حيث ألحقوا بتجارة قريش الأذى، وهزّوا اقتصادها، وأخافوا أتباعها.

ألا إن في مسارعة قريش لنقض شرط ردّ من جاء إليه مسلماً من مكة عبرة لكل طاغية يقف في طريق الإسلام وهو يحسب أنه قادر على الصدِّ عن دين الله، ونور الله نافذ وشريعته ماضية إلى يوم القيامة.

إنهما نموذجان مختلفان كاختلاف الحق عن الباطل، وتباين المسلم عن الكافر. ورغم شجاعة العرب في الجاهلية؛ فما شهدت هذا اللون من الشجاعة إلا بعد أن شعَّ نورُ الإسلام؛ حيث تجاوز رابطة القبيلة وحدود الوطن إلى فضاء أرحب وقيم أعلى.

ولتكون آية للمؤمنين

لا شك أن الله كان يحوط المؤمنين ويدافع عنهم، وهو الذي نصرهم ومكّن لهم، وجعل لهم من (عقد الحديبية) فتحاً مبيناً، وإلا فقد تعرضوا لخطر الأعداء، وكانت آيةً من الله؛ إذ كفّ الناس عنهم كما قال تعالى: ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 20].

فقيل: أيدي (أهل مكة) أن يقاتلوهم، وقيل أيدي (اليهود) حتى همُّوا بأن يغتالوا مَنْ (بالمدينة) بعد خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمن معه من الصحابة منها، وقيل: هم أهل (خيبر) وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان.

قال ابن القيم: «والصحيح تناول الآية للجميع». (8زاد المعاد، 3/ 313)

وقوله: ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 20]، أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آيةً للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم ـ قاله القرطبي. (9الجامع لأحكام القرآن: 61/ 972)

وقال ابن القيم:

“قيل هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كفُّ أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم؛ فإنهم كانوا ـ أهل مكة ومَنْ حولها، وأهل خيبر ومَنْ حولها، وأَسَدٌ وغطفان، وجمهور قبائل العرب ـ أعداءً لهم، وهم بينهم كالشّامة، فلم يصلوا إليهم بسوء؛ فمن آياته، سبحانه، كفُّ أيدي أعدائهم عنهم، وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم. (10زاد المعاد: 3/ 313)

خاتمة

في المقابل كانت آية؛ إذ كفّ الله المسلمين عن دخول مكة؛ إذ حبس الناقة حابس الفيل، ولو دخل الصحابة ـ حينها ـ مكة، ثم صدّتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام خلقٌ منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يُسلمون ويجاهدون؛ هذا فضلاً عن أنهم لو دخلوا مكة حينها لما أُمن أن يُصاب أناسٌ من المؤمنين المستضعفين من الرجال والنساء والولدان بغير قصد، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الفتح: 25].

إنها حكم باهرات وآيات بينات، والله يحكم ما يشاء وهو العليم الحكيم، وكما يكون في القتال من حكم ومصالح يكون في السّلم أحياناً حكم ومصالح.

………………………..

الهوامش:

  1. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الحاكم وغيره، انظر: المستدرك 1/ 467، مرويات غزوة الحديبية 233، المسند 1/ 261، سنن أبي داود مع معالم السنن 1749) ، وابن القيم (زاد المعاد 3/ 301).
  2. زاد المعاد 3/ 290، السيرة من الفتح، 2/ 302.
  3. انظر حافظ الحكمي، مرويات غزوة الحديبية ص 138-241.
  4. ابن القيم: زاد المعاد، 3/ 513.
  5. و(البَظْر) قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بها، لكن بلفظ (الأم) ـ فأراد أبو بكر المبالغة في سبِّ (عروة) بإقامة من كان يعبد مقام أمه؛ وذلك أن عروة نسب المسلمين إلى الفرار.
  6. السيرة النبوية من فتح الباري 205، 602.
  7. ابن حجر: السيرة في الفتح، 2/ 332.
  8. زاد المعاد، 3/ 313.
  9. الجامع لأحكام القرآن: 61/ 972.
  10. زاد المعاد: 3/ 313.

 المصدر:

  • أ. د. سليمان بن حمد العودة، مجلة البيان، العدد: 206.

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة