في صلح الحديبية تبدى للناس أثر الصدق وعلاماته، وأثر من سقطوا من عين الله فأخرهم ربهم وأخرهم عملهم. كم من خير يكمن في الطاعة وفي الصبر على مكروه الأقدار.

مقدمة

ما بين الصدق البادي من خلال مواقف وأعمال الحديبية تصديقا واستسلاما وبيعة على الثبات والموت، وما بين الفقه والمرونة مع الثوابت التي لا تضيع، لا زالت الحديبية تعطي ثمارا للناظرين إذا أرادو التفقه في دين الله.

البيعة المرضية، وأعظم الفتوح، والثبات على الحق

لقد أثنى الله على المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة (يوم الحديبية) وسُميت بيعتهم (بيعة الرضوان) ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18].

وكان الصحابة الذين شهدوها يعدّونها (فتحاً)؛ ففي صحيح البخاري من حديث البراء، رضي الله عنه، قال: «تعدُّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح (بيعة الرضوان) يوم الحديبية». (1البخاري، كتاب المغازي، 5383)

قال ابن حجر:

“الفتح مترتب على الصلح حين وقع الأمن ورفع الحرب، وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضاً إلى أن كمُل الفتح”. (2فتح الباري 7/ 441)

كما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعدُّون (صلح الحديبية) (أعظم الفتوح) جاء ذلك في رواية موسى بن عقبة عن الزهري، والبيهقي عن عروة، قال: «أقبل النبي، صلى الله عليه وسلم، راجعاً، فقال رجل من أصحابه، ما هذا بفتح؛ لقد صدونا عن البيت وصُدَّ هَدْيُنا، ورَدّ رسول الل، صلى الله عليه وسلم، رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغه ذلك، صلى الله عليه وسلم، فقال: بئس الكلام، بل هو (أعظم الفتوح) قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرَّاح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين؛ فهو (أعظم الفتوح) أنسيتم يوم (أُحُد) إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله هو (أعظم الفتوح) والله! يا نبي الله! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا».

أما روائع (البيعة) وصدق (المبايعين) فهي قمم في الصدق والتضحية، وأحدُ المبايعين، بل أولهم (أبو سنان الأسدي رضي الله عنه) يُبايع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ما في نفسه، صلى الله عليه وسلم: «الفتح، أو الشهادة» (3انظر: المرويات 143)، ثم يتتابع المسلمون ويبايعون على بيعة (أبي سنان). (4انظر عيون الأثر، لابن سيد الناس 2/ 125، وصحح إسناده الحكمي في المرويات ص144)

وآخر من المبايعين (سلمة بن الأكوع رضي الله عنه) بايع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات في أول الناس ووسطهم وآخرهم ـ كما رواه مسلم ـ وهذا مؤشر آخر للصدق والتضحية والثبات.

وثمة مؤشر مُهم لهذه البيعة في الثبات على الحق حتى الممات، ويد الله فوق أيديهم، وأثرُ هذه البيعة ينبغي أن يمتد في لاحق الزمن؛ ثباتاً على الحق، وتضحيةً لهذا الدين.

وبقي رجال الحديبية على العهد، ولم ينكث منهم أحد، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم يقرؤون ما نزل بشأنهم من القرآن ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 10].

ألا وإن في الحديبية درساً في الثبات على الحق يوازي الصدق في الجهاد والتضحية في سبيل الله. (5منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/ 367)

وبالجملة: كانت بيعة على الصبر والجهاد والثبات، وعدم الفرار، ويكفي المبايعين أن الله زكاهم ورضي عنهم، وعلم ما في قلوبهم فأنزل عليهم السكينة والفتح.

المنافقون وصلح الحديبية

هل كان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديبية منافقون..؟ وماذا عن موقف المنافقين الذين لم يخرجوا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحديبية..؟

جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: «كنا (يوم الحديبية) أربع عشرة مائة، فبايعناه، غير “جدِّ بن قيس الأنصاري” اختبأ تحت بطن بعيره». (6صحيح مسلم، كتاب الإمارة، 1543) وعن جابر: لما دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الناس إلى البيعة وجد رجلاً منا يقال له “الجدّ بن قيس” مختبئاً تحت إبط بعيره. (7مسند الحميدي، 2/ 735)

وعند ابن إسحاق عن جابر قال:

“ولم يتخلف عنه، صلى الله عليه وسلم، أحدٌ من المسلمين حضرها (البيعة) إلا الجدّ ابن قيس (أخو بني سلمة). قال جابر: واللهِ لكأني انظر إليه لاصقاً بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس”. (8السيرة، لابن هشام: 3/ 438)

قال الغضبان:

“وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين يوم بايعوا، وسجّل واقعُ هذا الصف مخالفةً واحدة للجد بن قيس الذي اختفى هارباً من البيعة، ومختبئاً في ظل بطن ناقته”. (9منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/ 953)

قال ابن سعد:

“أظهر “الجد بن قيس” الإسلام، وغزا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوات وكان منافقاً”. (10الطبقات، 3/ 175)

وقال ابن عبد البر “في ترجمة الجد بن قيس”:

“كان ممن يغمَصُ عليه النفاق من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وساق حديث جابر: بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية على ألا نفرّ كلنا. إلا الجد بن قيس؛ اختبأ تحت بطن ناقته”.

ثم قال ابن عبد البر:

“وفي حديث أبي قتادة عنه ما هو أسْمَج من هذا في الحديبية. ثم قال في آخر ترجمته: وقد قيل: إنه تاب فحسنت توبته، والله أعلم”. (11الاستيعاب ـ بهامش الإصابة 2/ 194، 195)

وأياً ما كان الأمر؛ فقد أشارت سورة (الفتح) إلى (تعذيب) المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، بعد سياق (فضله) على المؤمنين والمؤمنات، فقال تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [الفتح: 6 – 7].

قال القرطبي: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾:

“أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علوِّ كلمة المسلمين”.

ثم أورد الرواية التالية:

وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال “ابن أُبَيّ”: أيظن محمدٌ أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ؟ فأين فارس والروم؟ فبين الله عزّ وجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم. (12الجامع لأحكام القرآن 16/ 265)

إلا أن المنافقين شجى في حلوق المسلمين ـ في كل زمان ومكان ـ يغيظهم ما يسرُّ المؤمنين، ويُسَرون لمصاب المسلمين، ويبطئون إذا حزب الأمر، ويفرحون إذا انتصر الأعداء عليهم، قاتل الله المنافقين أنى يؤفكون، ألا فليُحذروا؛ فهم العدو كما أخبر الله، وإذا سُرَّ كلُّ أحد بنصر المسلمين على الكافرين بقي المنافقون وحدهم ـ داخل الصف الإسلامي ـ قلقين متحسرين ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ [آل عمران: 119].

مُعاهدة طائفة من المسلمين لا يلزم بها غيرهم

قال ابن القيم، رحمه الله:

“ومن فوائد صلح الحديبية أن المُعاهَدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم، وسواءٌ دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم.

وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى شيخ الإسلام في نصارى مَلَطْية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين. (13زاد المعاد 3/ 309)

المشورة وتثمين رأي المرأة

المسلمون أمرهم شورى بينهم، والسيرة النبوية وعاءٌ حافظ لمشورة النبي، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه، وفي الحديبية استشار النبي، صلى الله عليه وسلم، المسلمين أكثر من مرة، ولم تقف مشورته عند حدود الرجال، بل استشار النساء، وأخذ برأي (أمِّ سلمة) ـ رضي الله عنها ـ في المبادرة بحلْق نفسه حين أبطأ الناس عليه بالحلق؛ فلما رأوه فعل حلقوا وتحللوا، بل كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً. (14رواه البخاري في كتاب الشروط، 9252)

وفي رواية ابن إسحاق قالت أم سلمة:« يا رسول الله! لا تكلم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح».

وعلَّق ابن حجر على ذلك بقوله:

“فيه فضل المشورة.. وجواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة ووفور عقلها”. (15السيرة من فتح الباري 2/ 223)

كم نعتزّ بآرائنا ونقصر الأمور المهمة عن مشورة غيرنا. والمشورة تسديد للرأي واستفادة من عقول الآخرين، وفتح للمُغلق وتبصير للمتردد، وإذا شاور المؤيَّد من السماء فغيره بالمشورة أوْلى، وكذلك تستشار المرأة وتشير في عظائم الأمور في زمن النبوة.

خاتمة وخلاصة

وخلاصة القول أن الحديبية بوقفاتها وفقهها تُعلمنا أن النصر مع الصبر، وأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن عروش الظالمين تتهاوى، وحمية الجاهلية تبطل وتخيب وأن المستضعفين يتقوون ـ إذا صبروا واتقوا ـ وأن الأقوياء يضعفون إذا طغوا وتجبروا.

تعلمنا الحديبية كيف نبادر ونغتنم الفرص وننشر دين الله، وتؤكد لنا أن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة، وتعلمنا الحديبية أن على المسلمين أن يوحدوا صفهم ويتشاوروا بينهم، وأن لا تكون المعركة بينهم؛ فتلك هي المصيبة والحالقة، والمستفيد الوحيد أعداؤهم.

تُعلّمنا الحديبية ألا نيأس ونقنط، بل نتفاءل ونستبشر، وألا تحجبنا اللحظة الحاضرة عن المستقبل المشرق، وتُعلمنا كيف ننقاد للشرع ونتهم الرأي، كما ترشدنا إلى الثبات على الحق، وكيف يكون خوف الأخيار.

تُعلّمنا كيف نوازن بين المصالح والمفاسد، ومتى وكيف نتحمل وبأي ثمن ضِيم الأعداء، وكيف نُحيّدهم ونفرق جمعهم، ونستثمر الفرص، ونخطط ونحتاط ونستفيد من كل طاقة دون هدر واختراق.

………………………….

الهوامش:

  1. البخاري، كتاب المغازي، 5383.
  2. فتح الباري 7/ 441.
  3. انظر: المرويات 143.
  4. انظر عيون الأثر، لابن سيد الناس 2/ 125، وصحح إسناده الحكمي في المرويات ص144.
  5. منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/ 367.
  6. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، 1543.
  7. مسند الحميدي، 2/ 735.
  8. السيرة، لابن هشام: 3/ 438.
  9. منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/ 953.
  10. الطبقات، 3/ 175.
  11. الاستيعاب ـ بهامش الإصابة 2/ 194، 195.
  12. الجامع لأحكام القرآن 16/ 265.
  13. زاد المعاد 3/ 309.
  14. رواه البخاري في كتاب الشروط، 9252.
  15. السيرة من فتح الباري 2/ 223.

المصدر:

  • أ. د. سليمان بن حمد العودة، مجلة البيان، العدد: 206.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة