إن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم  على ديارهم وإذلالهم لهم.

الاستعداد للجهاد وحتمية الصراع مع الباطل وأهله

إن الحملة الصليبية على الأمة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن هذا يوجب على المسلمين – ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم – أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم. وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم.

ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «… فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم … وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو»1(1) «مجموع الفتاوی»: (28/ 358، 359)..

وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قیام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار. ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولا، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «.. وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»2(2) «مجموع الفتاوی»: (259/28)..

– في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرا حتميا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضا ولا مناص منه ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة. کما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار .

– ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرا مفروضا – سواء ما كان من هذه البلاد محتلا أو ما كان مهددا بالاحتلال والغزو – فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟.

والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:

الوقفة الأولى: الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف

إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فجهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد – وهو الممهد لجهاد الكفار – والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم.

بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان – وذلك حسب القدرة والاستطاعة – وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان. والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.

أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية3(3) هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار .، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة: 41]، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13-15].

أي: ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))4(4) «زاد المعاد»: (3/ 72)..

وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار. والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك. بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها.

أهمية جهاد النفس والشيطان

وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]. علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه)5(5) «الفوائد»: (ص 59)..

الوقفة الثانية: الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع حتى يكتمل هذا الإعداد

إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني. إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس.

إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده»6(6) «الاختيارات الفقهية»: (ص 309، 310)..

ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منها مع الاهتمام بها أثناء القتال والسعي لتقويتها قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانیا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم. وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من دیار المسلمين.

ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيا وتربية وزهدا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات.

الوقفة الثالثة: مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع

يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:

1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:

(أ) القدرة في العدة والعتاد.

(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة.

(ح) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه.

(د) إذا كان العدو منافقا أو مرتدا قد التبس أمره على المسلمين فلابد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يعرف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا کما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية.

أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم کما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في العراق أو سوريا أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين.

كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في ترکه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط.

2- کما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة.

أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضأ إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو.

أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونها لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى.

الهوامش

(1) «مجموع الفتاوی»: (28/ 358، 359).

(2) «مجموع الفتاوی»: (259/28).

(3) هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار .

(4) «زاد المعاد»: (3/ 72).

(5) «الفوائد»: (ص 59).

(6) «الاختيارات الفقهية»: (ص 309، 310).

اقرأ أيضا

مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله

التخذيل عن الجهاد..من صفات المنافقين

الجهاد في الإسلام: شبهة وجوابها

 

التعليقات غير متاحة