إنَّ العقائد لا تستقرُّ في النفوس تحت وطْأة السَّيف والقهر على الإطلاق، وإنَّما تستقرُّ بالإقْناع وبالحجَّة الواضحة، ولو كانت الشُّعوب قد دخلت في الإسلام مُجْبرة فسرعان ما كانت تمرَّدتْ عليه ولفظته، ولكنَّ الحقيقة التي يشْهَد لها التَّاريخ والواقع أنَّ الشُّعوب الإسلاميَّة هي أكثر الشعوب تمسُّكًا بدينها، رغم ما تُعانيه من اضطِهادات وحروب في كثير من أنحاء العالم حتَّى في عصرنا هذا.

الجهاد في الإسلام: شبهة وجوابها

يثير بعض المهزومين روحيا وعقليا من أبناء المسلمين – وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر – قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على دیار غير المسلمين بالقوة. ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل – ويا للأسف – من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل

أما المجمل: فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا

فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مکانا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه.

فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب. وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد.

وأما الجواب المفصل: مبررات و بواعث الجهاد الإسلامي

فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سید قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة کما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله.

وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين:

يقول رحمه الله تعالى: «إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة… فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام. والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال:38- 40].

إقرار مبدأ: السلطان كله لله وإعلان عام لربوبية الله للعالمين

إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي.. مع تقرير مبدأ: (لا إكراه في الدين) .. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار.

التحرير العام للإنسان في الأرض وتحريره من العبودية لغير الله

إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. وهذه وحدها تكفي.. ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!

لقد كانوا يقولون كما قال ربعی بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، رضوان الله عليهم جميعا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه. ومن أبي قاتلناه حتى نفضى إلى الجنة أو الظفر….

دفاع المجتمع المسلم عن وجوده أمام الهجمات البربرية التي تريد سحقه

حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، ومیلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده.. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا.

هذا كله حق.. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا.. .

طبيعة الإسلام التمددية ورفضه الحدود الإقليمية أو العنصرية

ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة.. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ «الإنسان» في الأرض من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركا «الإنسان».. نوع الإنسان.. في «الأرض».. كل الأرض.. للشر والفساد والعبودية لغير الله.

إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام!.. ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.

هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!

وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!

الإسلام منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس

إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!.. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة.. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد.. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي!.. والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان. إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس. والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام. وهذا – كما قلنا من قبل – معنی أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!

المهزومون وتلمس المبررات الدفاعية

إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة.. ومن ثم يقوم المنافحون – المهزومون – عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في «تحرير الإنسان» ابتداء.

الجهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام وليس لفرض العقيدة

وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين – المهزومين – ذلك التصور الغربي لطبيعة «الدين».. وأنه مجرد «عقيدة» في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة .. ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادا لفرض العقيدة على الضمير!

ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية – متمثلة في الحاكمية – وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادُ لتقرير المنهج وإقامة النظام. أما العقيدة فأمرها موکول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات.. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة.

وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان.. فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة»1(1) «في ظلال القرآن»: (3/ 1440-1444) باختصار.

المهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام

ويقول في موطن آخر: «والمهزومون روحيا وعقليا ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام» ليدفعوا عن الإسلام هذا الاتهام ! .. يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيها.. ومن أجل هذا التخليط – وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! – يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: «الحرب الدفاعية».. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في «طبيعة الإسلام» ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات..

طبيعة الإسلام: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها

إن هذا الدين إعلان عام «لتحرير الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعباد – ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد – وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه – وربوبيته للعالمين .. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله .. ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان و قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!

إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن «تحرير الإنسان».. نوع الإنسان.. في «الأرض».. كل الأرض.. ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان!.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا: (لا إكراه في الدين .. ) أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!»2(2) «في ظلال القرآن»: (3/ 1933–1939) باختصار..

الهوامش

(1) «في ظلال القرآن»: (3/ 1440-1444) باختصار

(2) «في ظلال القرآن»: (3/ 1933–1939) باختصار.

اقرأ أيضا

غاية الجهاد في سبيل الله تعالى

الجهاد في الإسلام: أحکام وآداب

المعنى العام للجهاد ومراتبه

تفصيل القول في جهاد المنافقين وضوابطه

 

التعليقات غير متاحة