كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله، فلا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً.

البلاء بالبأساء والضراء والغفلة عن أسباب الوقاية

ما منا أحد اليوم إلا وهو يسمع ويجالس ويرى ويستشعر في كل حين هذه الأحداث، التي تمر بأمة الإسلام في كل البلاد، وفي هذا البلد خاصة، الذي كان أهله يحسبون أنهم سيظلون في منأى عن الفتن والأحداث، حتى جاءتهم.

مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يجامل في سنته ولا يحابي أحداً، فله سنن ثابتة لا تتخلف، وقد ابتلانا قبل ذلك بالنعماء وبالسراء، ثم ها هي قد بدأت طلائع البأساء والضراء -ونسأل الله العفو العافية- وليست المشكلة في أن البلايا تقع، أو أن العذاب يقترب، أو أن الفتن والمحن تموج، فهذا تاريخنا الإسلامي حافل به.

ولكن المصيبة والمشكلة في غفلتنا عن أسباب الوقاية، وفي بعدنا عن الرجوع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والأخذ بموجب التقوى والإيمان، الذي يدفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به العذاب، ويكشف عنا به البلاء، والله عز وجل رحيم وكريم وهو الغني الحميد، ومن رحمته بهذه الأمة -وهو الذي أنزل إليها الكتاب رحمة وبعث إليها نبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن بين لها كيف تتقي عذابه؟ وكيف تتجنب سخطه؟ وكيف تأخذ بأسباب النجاة في أمر ديننا ودنيانا؟.

 النجاة من عقوبة الله تكون بالدعاء والتضرع

وإن مما شرعه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعله سبباً -بل هو من أعظم الأسباب- لاتقاء عذابه وسخطه، دعائه والتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والتوبة والاستغفار والإنابة، فنحن في هذه الأيام أحوج ما نكون إليها، وإن كنا محتاجين إليها في كل وقت وفي كل حين؛ لكن مع هذه الفتن ومع هذه الأحداث فنحن أحوج ما نكون إلى أن لا ننسى ذلك.

إن الله تبارك وتعالى جعل التضرع غاية كما في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94] وفي الآية الأخرى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].

إذاً: فالأخذ بالبأساء وهي: الحروب والضراء، وهي تعم الفتن والجدب والقحط وكل ما من شأنه أن يضر الناس، الغاية منها لعلهم يضرعون -أي: كي يضرعوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الناس إن لم يعرفوا الله تبارك وتعالى في الرخاء فلا بد أن يتعرفوا إليه في الشدة، وإن من أعظم وأكثر الناس قسوة وأعظمهم غفلة الذين لا يتضرعون إلى الله لا في الرخاء ولا في الشدة، ولهذا قال عز وجل في الأنعام: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:43-46].

فانظروا إلى إمهال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للأمم السابقة ففي أول الأمر أخذهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلما لم يتضرعوا وقست قلوبهم حلت ووقعت عليهم العقوبة، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، استدراجاً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم.

ومن هنا قال لنبيه وللمؤمنين: (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران:196] لأن هذا فتح من الله؛ يفتح الله عليهم أبواب كل شيء ثم في النهاية (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102] فيأخذهم بغتة؛ لأنه قد أنذرهم وقد خلت من قبلهم المثُلات وقد جاءتهم النذر، ولكنهم أعرضوا ونسوا ما ذكروا به، فعند ذلك يقطع دابرهم بأليم عقابه، نسأل الله العفو والعافية.

 حال من تضرع ومن أبى التضرع

(فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام:43] فلو أنهم تضرعوا إلى الله لكشف عنهم السوء، ولهذا استثنى الله تبارك وتعالى من الأمم قوم يونس يقول الله تعالى: )فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ( [يونس:98].

فذكر المفسرون من السلف رحمهم الله في هذه الآية أن قوم يونس خرجوا إلى الصعدات، وجأروا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخرجوا بأطفالهم ونسائهم ودوابهم، وقيل: إنهم ظلوا على هذه الحالة أربعين ليلة وهم يستغيثون ويتضرعون ويدعون ويبكون ويستغفرون فكشف الله تبارك وتعالى عنهم العذاب في هذه الحياة الدنيا، وهذا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن سعة رحمته.

أما الذين يصرون ويعاندون ويستكبرون على الله ولا يتضرعون إليه ولا ينيبون؛ فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا ما بينه في سورة الأنعام وكما بينه أيضاً في آيات الأعراف السابقة، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96]، فهناك ذكر أنهم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:44] وقال هنا : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96] وليس أبواب كل شيء؛ ولكن بركات، والبركة في أي أمر حلت فهي خير، أما الذي لا بركة فيه فلا خير فيه. وإن كان كثيراً (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

عقوبة الأمن من مكر الله عز وجل

ثم قال عز وجل: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف:97-98] أي: ما المانع وما الموجب وما المقتضي للغفلة والإعراض وقسوة القلب وعدم اللجوء إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتضرع إليه، أهو الأمن؟! فكيف يأمنون والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر! والله تبارك وتعالى قوي! والله تعالى عزيز ذو انتقام! كيف يأمنون أن يأتيهم بأس الله بياتاً وهم نائمون!

وكم من أمةٍ جاءها ذلك البأس فأخذهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مصبحين، كما أخذ الله قوم لوط (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود:81] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) [الحجر:83] أو (مُشْرِقِينَ) هكذا أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كثيراً من الأمم، أخذهم بياتاً أو مع الإشراق (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف:98].

وقد أخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً أمماً أخرى وأهلكها، وعذبها وهي ترى العذاب، ومن ذلك ما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [الأحقاف:24] -نعوذ بالله من القسوة ومن الغفلة- حتى لما رأوا العذاب قالوا: هذا عارض ممطرنا، فما ظنوه إلا استمراراً لهم في الخير واستمراراً للعطاء والنعمة، وما ظنوه إلا سيستمر، وهم لا يحسبونه استدراجاً (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف:25] فكانوا بعد ذلك (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر:20].

وهكذا كل أمة يجب عليها ألا تأمن من مكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأعراف:100] لا يصح ولا يجوز لأي أحد أن ينسى، أو يغفل، أو يكف عن التضرع إلى الله والتوبة إليه، والأخذ بالأسباب الواقية من عذابه، والمؤدية إلى النجاة من انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهكذا يجب على الناس أمماً وأفراداً.

دفع المصائب بالضراعة إلى الله

أما من كان حاله غير ذلك، فإنما مثله مثل الذي قال: (وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً) [مريم:77] فرد الله عليه: (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) [مريم:78].

ألم نقل في هذه الأيام بصريح الحال أو المقال: إننا في رخاء مستمر، وإن الأمان مستمر، وإن الأموال متنامية، وكل شيء في نمو (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) [مريم:78] هل اطلعنا على الغيب فوثقنا أن حالنا سيظل كذلك؟! لا والله ولم نطلع عليه، (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل:65] وكذلك هل أعطانا الله تبارك وتعالى عهداً وميثاقاً أن يعذب الأمم ويبتليها ولا يبتلينا؟ لا والله، ومن أين لنا ذلك؟! فقد رأينا عِبَرَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورأينا أيام الله التي فعلها بالأمم التي قبلنا، ورأينا ما حدث في أوروبا في الحرب العالمية الثانية، وسمع الناس بذلك.

ثم جاءتنا مصيبة تستوجب أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في كل حين أن يرفع هذه المصائب عن الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عاقبتها خيراً، ولن تدفع هذه المصائب، ولا ما هو أعظم منها -إذ لا ندري ما يخفي لنا القدر- إلا بضراعةٍ إلى الله، وبإخلاصٍ لله وتوبةٍ وأوبةٍ ورجوعٍ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإن الله عز وجل يريد منا قلوباً مؤمنةً (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) [الحج:37]، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم } فيريد الله منا قلوباً مؤمنة خاشعة مخبتة منيبة، وإن كانت العبادة قليلة، لكن هذه الأمور في ذاتها أعظم عبادة.

قسوة القلوب تحجب الاعتبار والاتعاظ

وأساس كل عبادة أن يكون هذا القلب متصلاً بالله، وأن يرى آثار الأمم السابقة فيعتبر بها، وأن يرى آثار نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحمد الله ويشكره عليها، ويدعو الله أن يديمها عليه.

وقد ضرب سبحانه تعالى لنا الأمثلة الكثيرة، وعامة القرآن في قصصه إنما هو من أجل ذلك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * وكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:42-46] فنعوذ بالله من عمى القلوب، ومن قسوتها.

ففي مثل هذه المواضع ذكر الله سبحانه تعالى قسوة القلب كما في سورة الأنعام، وعمى القلب كما في سورة الحج، فالقلوب إذا قست، وإذا عميت، لم تعتبر بما ترى، وأما المؤمنون فإنهم يعتبرون ويتعظون، فإذا اعتبروا واتعظوا؛ كان التضرع، والدعاء، والاعتبار، والاتعاظ خيراً لهم، حتى إن تلك المصيبة مهما عظمت تكون خيراً، ويفرح المؤمنون بما نزل في قلوبهم من إيمان، ويعلمون أن تلك المصيبة كانت خيراً، إذ ردتهم إلى الله وأرجعتهم إلى الإيمان به، وذكرتهم بأيامه، فتنقلب المصيبة والضراء والبأساء إلى نعماء وخير وبركة؛ لأنهم تابوا إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتضرعوا إليه.

التضرع سبب عظيم من أسباب الخير

والدعاء والتضرع سبب عظيم من أسباب الخير، في كل أمر وفي كل وقت، كما يجب علينا أن نعلم أننا لا نستغني عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من دعائه: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين” ولهذا قال المفسرون والعلماء: ”إن خير الدعاء وخير الضراعة والتضرع، هو ما ذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة:6-7].

وقالوا: إن الصحيح في تفسيرها أنه ليس مجرد مزيد الهداية، أو الاستمرار في الهداية، بل الحكمة من تكرارها في كل ركعة، أن الإنسان يحتاج بعد أن هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هداية عامة ومجملة، وهي: معرفة الحق والإيمان به، والتمسك بالدين والإيمان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحتاج مع ذلك إلى الإيمان التفصيلي، والمعرفة التفصيلية، فهو في كل يوم وفي كل لحظة تعرض له مشاكل وأمور وأحداث يحتاج أن يهديه الله تبارك وتعالى فيها الصراط المستقيم” .

فهو أعظم دعاءٍ، وناسب أن يكن في كل ركعة، وفي أعظم سورة، وأفضل سورة أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذلك نحن في كل يوم، وفي كل وقت، وفي كل طرفة عين، نحتاج أن ندعوا الله وأن نتضرع إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلم أنه كما قال عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر:15-17] فنحن الذين نحتاج إلى أن نتضرع إليه، وأن ندعوه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تعبَّدَنا بذلك، كما في الحديث -الذي هو حسن بشواهده- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{من لا يسأل الله يغضب عليه } وقد نظم هذا بعض الشعراء فقال:

الله يغضب إن تركت سؤاله … وبُني آدم حين يُسأل يغضب

فالله يغضب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إن تركنا سؤاله، ويحب أن نتضرع إليه وندعوه ونرجوه ونطلبه.

قد ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا أمثلة ممن دعوه فاستجاب لهم كما بين الله لنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قصص أنبيائه.

أعظم أنواع الدعاء ما قاله يونس عليه السلام

في قصة يونس عليه السلام لما دعى الله تعالى بدعاء عظيم، وهو في ظلمات البحر وفي بطن الحوت، دعا الله ونادى في الظلمات (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].

وهذا من أعظم أنواع الدعاء، لاشتماله أولاً: على توحيد الله (لا إله إلا أنت) وهو أعظم وسيلة إلى الله تعالى، وأعظم طاعة وأعظم وقربة.

ثم ثنى بالتنزيه (سبحانك) تنزيه الله عما لا يليق به عز وجل، فكل ما يفعل، وكل ما يقدر فله فيه الحكمة البالغة، فهو منزه عما لا يليق بجلاله وكماله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعظيم شأنه.

ثم ثلث ببيان عجزه وضعفه وفقره وظلمه لنفسه، وهكذا كل عبد بالنسبة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينبغي له أن يكون كذلك (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].

 دعاء أيوب عليه السلام

وكذلك في دعاء أيوب عليه السلام: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء:83] فما ألطف هذا الدعاء، وما أرقه، وما أخشعه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مع أن الجمل قليلة!!

ولكن القلوب إذا دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صدق، وإخلاص، وإن قلت العبارات، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستجيب لأولئك: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) [الأنبياء:84] وهكذا غيرهم.

وقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه يغيث الكفار إذا تضرعوا إليه، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله كما في كتاب الفوائد : ”التوحيد مفزع أوليائه، ومفزع أعدائه” أي: التوحيد يلجأ إليه أولياؤه، ويفزعون إليه، وكذلك يلجأ إليه أعداء الله، فهو حصن منيع ومعتصم النجاة.

 رحمة الله بالكفار

كما أن الذين يوحدون الله ويدعونه، يتوسلون إليه بالتوحيد لينجيهم، فكذلك المشركون إذا ركبوا في الفلك، وجاءهم الموج من كل مكان، وأحاطت بهم الشدائد دعوا الله مخلصين له الدين، ولهذا يقول عز وجل: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل:62] هل أحد غيره؟ هل إله غير الله يفعل ذلك؟ لا والله.

التوبة إلى الله عز وجل من الذنوب

وإنه لجدير بكل مؤمن مع هذه الأحداث والفتن والمحن والبلايا، أن يراجع نفسه مع كتاب الله، وأن ينظر فيما ابتلى الله تبارك وتعالى به الأمم من قبل، والشعوب من حولنا، وأن نعلم جميعاً أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفزع من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا إليه، فلنكن صادقين في قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]، ولنكن صادقين في توكلنا على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في اعتصامنا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنكن صادقين في دعوى أننا نسير على عقيدة السلف ، وعلى منهج السلف الصالح ، وأننا متمسكون بعقيدة الحق وشريعة الحق، ولنصدق الله؛ يصدقنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنتب إلى الله ولنجعل ما جاء أو استشرف أو استجد من الفتن سبباً لأن نكف عما حرم الله، وأن نتوب عما أجرمنا، وعما أسلفنا دولاً وأفراداً وجماعات، فهذا واجبنا جميعاً أن نعلم أن هذه المصائب والفتن والمحن، نذير من الله تعالى، فإن تبنا واستغفرنا وأصلحنا، دفعه الله تبارك وتعالى عنا بما يشاء.

الحذر من الركون إلى الأسباب والتعلق بها

وإن اعتمدنا على الأسباب المادية، وركنا إلى خلق من خلق الله مثلنا، بل ربما كانوا أقل منا، فلربما سلط علينا من غير أهل ملتنا، وهم غير أهل لأن ينصرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكنه يبتلي البعض بالبعض ويولي بعض الظالمين بعضاً بذنوبهم جميعاً، فيقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام:129].

فنقول: إذا اعتمدنا على هؤلاء الكفار، واعتمدنا على نصرتهم ومعونتهم، ولم نوثق الصلة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتوكل عليه وحده، ونعتمد عليه وحده، فإن العاقبة ستكون وخيمة، ونكون كمن أراد أن يفر من عقوبة الذنب، فوقع في ذنب أكبر وأعظم -نسأل الله العفو والعافية-

فالأمة قد تحتاج، وقد تضطر إلى أي سبب من الأسباب، والأخذ بالأسباب واجب، وهو من الدين، وهو من التوكل ولا ينافيه، لكن فرق بين أن نأخذ بالأسباب، ونحن على إيمان ويقين وإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى توبة صادقة مع الله، وبين أن نركن إلى الأسباب، ونغفل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونعلق آمالنا بهذه الأسباب، نسأل الله العفو والعافية.

وإن هذه الأحداث ليس فيها جديد بالنسبة إلى سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكلها تجري وفق سنن دائمة، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولكننا نغفل، ولا ننظر إلى مرادها، ولا نتأمل كتاب الله، ثم ننظر إلى واقعنا، فلا ندري أيكون الابتلاء بهذا أو بذاك، لمن نراه صديقاً أو نحسبه عدواً، فيجب أن نتوقع الابتلاء والعذاب والمصيبة، ما دمنا في هذه الذنوب والمعاصي، التي لا أرى حاجة لأن أعددها وأذكرها فهي ملء السمع والبصر ولا تخفى على أحد منا، فذنوبنا هي السبب، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، كما أن أسباب النجاة بين أيدينا، وأن رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين -ولله الحمد- غير غائبة عنا، ولكن علينا أن نأخذ بهذه الأسباب، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المصدر

المكتبة الشاملة، محاضرة لفضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي ، بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

الالتفات إلى غير الله تعالى والتعلق به

المخالفات القلبية الباطنة

من أسباب حياة القلوب

التعليقات غير متاحة