العلم شرط أساسي لنجاح الحوار وتحقيق غايته، وبدونه لا ينجح حوار، فيجب على المحاور ألا يتناقش في موضوع لا يعرفه، ولا يدافع عن فكرة لم يقتنع بها، فإنه بذلك يسيء إلى الفكرة والقضية التي يؤمن بها ويدافع عنها، ويعرض نفسه للإحراج وعدم التقدير والاحترام.

ثلاثة أصول للحوار

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: 46].

تعتبر هذه الآية وما يتعلق بها منهجا قويما لمن أراد الوصول إلى الحق ، ولأن المقصود من الحوار الوصول إلى الحق ؛ فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي:

الأصل الأول : الإخلاص لله عز وجل ، والتجرد الكامل قبل الحوار وأثنائه وبعده : ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ .

الأصل الثاني : العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية : ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ .

الأصل الثالث : اعتبار مراعاة ظروف الحــوار والمحاورة : ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾  .

وفي مقال سابق تحدثنا عن الأصل الأول -الإخلاص- وفي هذا المقال نتحدث عن الأصل الثاني وهو العلم.

الأصل الثاني العلم… ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾

ويدخل تحته التفصيلات التالية 

1- الاتفاق على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية

لأن النقاش والمنهج مختلف عن الآخر سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة ، وسوف لا يسلم أي طرف لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط، وحتى تتضح هذه المسألة أكثر ، نضرب لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في (الاعتصام، الباب الرابع) تحت عنوان: مآخذ أهل البدع في الاستدلال ، فنذكر منها (باختصار وتصرف) ما يلي:

أ- إن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة – أو الموضوعة أحيانا – في العقائد والأحكام ، وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة ؛ لأنهم لا يرضون الاستدلال بالضعيف- فضلا عن الموضوع- في باب العقائد والأحكام، فإذا لم يتفق مع الطرف المحاور على خطأ هذا المنهج ، فلن يفلح الحوار في الوصول إلى أي نتيجة ؛ لأن الأدلة التي سیستدل بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده .

ب – ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة ؛ حيث يرفض الاستدلال بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ، ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر ، وهذا المنهج مرفوض أيضا عند أهل السنة ؛ حيث إن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحا للاستدلال ولو كان آحادا ، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداء فلن يفلح الحوار في الوصول إلى أي نتيجة . إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات ، وقبل طرح الأدلة ودلالتها على المقصود، لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد الصحيحة .

ج- كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه والتعصب لها ، ونبذ أي دليل يخالف ذلك ، بل إن أهل بعض الملل المبتدعة يرون أن أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته ، وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من أقوالهم ، بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال . فإذا لم يتفق على ضلال هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع هو الأصل ، وأن كل ما خالف ذلك فهو مرفوض مهما كان قائله ، فإنه لا فائدة من النقاش .

د. ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات ، فيصحح بهما الضعيف ، ويضعف الصحيح ، ويحلل ، ويحرم ، ويشرع بهما ما لم يأذن به الله ، فإذا لم يتفق ابتداء على ضلال وخطأ هذا الاستدلال ، فلن يفلح الحوار ، ولن تتحقق أهدافه أبدا .

وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جدا.

2- مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافتهم

فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب ، والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية ، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم في الحوار ؛ لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشویش للطرف الآخر ، ينعكس أثره على إيجابية الحوار .

3- البيان وحسن العرض

إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل المهمة في إيضاح الفكرة وأدلتها ؛ مما يكون له أكبر الأثر في قبول الطرف الآخر للفكرة ، وسهولة إقناعه بحسن الاستدلال عليها ، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم ، أو الألفاظ المجملة التي تحتمل عدة معان من غیر توضيح للمعنى المراد منها .

4- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة

إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين ، کالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ، ويحس كل منهما أن هوة الخلاف قليلة ، وهذا له مردوده النفسي في الحوار . وبالعكس؛ فإن البدء بنقاط الخلاف يوسع فجوة الخلاف، ولو من الناحية النفسية ، ولذلك يحرص المحاور الناجح أن يلقي على الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها «بنعم»، ويتجنب ما يكون جوابه النفي ؛ لأن كلمة «لا» عقبة كؤود يصعب التراجع عنها .

والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة ؛ فمثلا في سورة المؤمنون ، يقول تعالى: ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: 84 – 89].

فهنا نجد أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم الأسئلة التي يعلم أن جوابهم عليها بالموافقة ، وذلك لإقامة الحجة عليهم في تقرير توحيد الألوهية ؛ لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.

5-التوثيق

ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية ، فلا يستدل بشيء إلا مسندا لقائله ، ومصدره الذي أخذه منه ، وأن يستعان بذکر الإحصاءات التي تخدم الفكرة ، والمراجع التي رجع إليها ؛ لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر والإحصائيات الموثقة ، أعمق أثرا في النفوس من ذكرها مجردة ، كما ينبغي في مثل هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة ، والحجج الواهية .

6-عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تمام

والتفكير العميق في أدلته ثبوتا ودلالة ، وألا يقدم على تصحيح فكرة ما أو تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماما .

7- الإحاطة بمواطن الخلاف في القضية المطروحة للحوار

ويضاف إلى ذلك: الإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه وما لا يجوز ؛ لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف ، فيحصل الاختلاف والفرقة حول مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد ، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

وبهذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف ، وأنواعها ، ومن هو المحمود فيها ، ومن هو المذموم؟ ، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف ، والمسائل التي لا يسعها؟ إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف ، فنقول وبالله التوفيق:

إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين:

1- قسم يحمد فيه أحد الطرفين، ويذم الطرف الآخر ؛ مثل الاختلاف الواقع بين المؤمنين والكافرين ، أو بين أهل السنة و أرباب البدع.

وهذا القسم من الاختلاف هو المذكور في قوله تعالى: ﴿وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ﴾ [البقرة: 253]، فكل ما يتصل بقضايا العقيدة وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة ، وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم ، فهو داخل تحت هذا القسم.

2- قسم يذم فيه الطرفان المختلفان، إذا سبب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة ، ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سببا في الفرقة والمفاصلة .

وهذا النوع من الاختلاف هو الذي وسع السلف – رحمهم الله تعالی – ولم يحصل بينهم بسببه افتراق ولا بغضاء؛ فكل ما وسع السلف الصالح رحمهم الله تعالى فيما اختلفوا فيه ، فيجب أن يسعنا .

8- الإمهال والتأني

أن يعطى كل طرف في الحوار فرصته في التعبير عن فكرته والإحاطة بها من جميع الوجوه ؛ لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل الأفكار وترابطها .

9- الشجاعة والإخلاص

يجب أن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله عز وجل بأن يقول أحدهم: لا أعلم ، عند السؤال عن مسألة لا يعلمها ، أو لم يبحثها بحثا كافيا ، وألا يستحي من ذلك ، وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن وجد جوابا .

10- التفريق بين الفكرة وصاحبها

وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية ، بعيدا عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات الأشخاص ونواياهم ، ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم بالجرح والتعدیل حسب مقاييس أهل السنة ، وذلك عندما نخشى ضلالاتهم أو تأثر الناس بأفكارهم ، ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف .

11- إقفال المناقشة

عندما تتسع شقة الحوار ، أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أمورا أساسية برزت لم يتم التحضير لها ، أو لا يكفي الوقت لمناقشتها ، فيحسن في مثل هذه الأحوال إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له ، كما ينبغي قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد، أو مستهتر ، أو كان دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار .

اقرأ أيضا

أصول الحوار… الإخلاص أولا

العـلْم والـتّزْكية

فضل التفكر والحث عليه

 

التعليقات غير متاحة