مع الجهل لا يصل الانسان الى الخير، والعلم حجة على صاحبه، ولا ينفعه إلا إذا ترافق معه التزكية والتطهير بالعمل الصالح وترك ما حرم الله.

مقدمة

إذا ذكر العلْم جاءتْ التّزْكية؛ فثمة من يعي الحق ويحفظ علومه، لكن لم يستجب قلبه له بعد. وعندئذ فالخير متوقف على استجابة قلبه ولين فؤاده وانقياد نفسه لما أنزل الله ولما علم من الحق.

هلك هنا إمامهم إبليس لما عاند الحق، ثم تلاه أمثاله من قادة وأمم، فهلك هرقل وأبو جهل وأمية بن أبي الصلت، وقادة اليهود والنصارى الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كل منهم قاد خلفه أمم، ثم تبعهم أشباه وأجيال.

وكل علم لا يؤتي لصاحبه أُكُله إلا ذا زَكى، فمن يريد التربية على الطريق فلا بد من زادَي العلم والتزكي بالعمل.

أوْعى؟ قال: نعمْ. أزْكى؟ قال: لا

والمقصود أن التزكية قرينة للعلم ومترتبة عليه ولهذا قرنها تعالى بها؛ فدعا «إبراهيم» و«إسماعيل»عليهما السلام برسولٍ يبعث في ذريتهما ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة:129]، وامتن تعالى على العرب فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمْران:164].

والتزكية: هي التطهر من المحرمات وأدناس النفوس وأرجاسها، والتحلي بالخير والفضائل.

المعنى الاصطلاحي لتزكية النفوس، يشمل أمرين:

أ‌. تطهيرها من الأدران والأوساخ، قال في الظلال: التزكي التطهر من كل رجس ودنس.

ب‌. تنميتها بزيادتها بالأوصاف الحميدة، من علم ولم يعمل لم تزك نفسه، ومن لم تَزْكُ نفسه حرم ثمرة العلم.

أمْـثلةٌ زاجــرةٌ

إبْليس علم.. لكنّه لمْ يزْكُ

فأوضحها وأعظمها بيانًا هو إبليس الذي كان في شرف وحال يفخر بها، ولكنه أظهر الحسد والعصيان الذي كان يضمره؛ فأخرج وهبط، ولعن وقبح، وصار رمزًا للشر ومغويًا مفسدًا، يهلك الخلق ويوردهم النار ويقودهم لحتفهم، ويدفعهم لمعصية الرب وجحوده والشرك به.

«أميّة بْن أبي الصّلْت» وعى.. لكنّه لمْ يزْكُ

وانظر إلى أمثلة دون إبليس فهذا «أمية بن أبي الصلت» كان في الجاهلية قبيل مبعث رسول الله ﷺ، وقد علم الحق والتوحيد، وعلم بطلان ما عليه العرب، وعلم بقرب زمان نبي يبعث..

وكان يرجو أن يكون هو نبيًا، ثم أخذ يبحث في قريش عن النبي المنتظر، فلما أرسل رسول الله ﷺ وتبين له الأمر استكبر عن اتباعه.. وأذكر لك هذه الرواية للحافظ «ابن كثير» في سيرته.

فقد ذكر رواية الطبراني:

«عنْ عرْوة بْن الزّبيْر، عنْ معاوية بْن أبي سفْيان ﭬ، عنْ أبي سفْيان بْن حرْبٍ، أنّ أميّة بْن أبي الصّلْت كان بغزّة ـ أوْ قال: بإيليّا ـ فلمّا قفلْنا، قال لي أميّة: يا أبا سفْيان، إنْ نتقدّمْ عن الرّفْقة، فنتحدّثْ؟ قلْت: نعمْ.

قال: ففعلْنا فقال لي: يا أبا سفْيان، أيّهنّ عنْ عتْبة بْن ربيعة؟ قلْت: أيّهنّ عنْ عتْبة بْن ربيعة؟ قال: كريم الطّرفيْن، ويجْتنب الْمظالم والْمحارم؟ قلْت: نعمْ. قال: وشريفٌ مسنٌّ؟ قلْت: وشريفٌ مسنٌّ. قال: السّنّ والشّرف أزْريا به، فقلْت له: كذبْت، ما ازْداد سنًّا إلّا ازْداد شرفًا، قال: يا أبا سفْيان، إنّها لكلمةٌ ما سمعْت أحدًا يقولها لي منْذ تنصّرْت؛ لا تعْجلْ عليّ حتّى أخْبرك.

قال: هات، قال: إنّي كنْت أجد في كتبي نبيًّا يبْعث منْ حرّتنا هذه فكنْت أظنّ، بلْ كنْت لا أشكّ أنّي هو، فلمّا دارسْت أهْل الْعلْم إذا هو منْ بني عبْد منافٍ فنظرْت في بني عبْد منافٍ، فلمْ أجدْ أحدًا يصْلح لهذا الْأمْر غيْر عتْبة بْن ربيعة، فلمّا أخْبرْتني بسنّه عرفْت أنّه ليْس به حين جاوز الْأرْبعين، ولمْ يوح إليْه.

قال أبو سفْيان: فضرب الدّهْر منْ ضربه، وأوحي إلى رسول الله ﷺ، وخرجْت في ركْبٍ منْ قريْشٍ أريد الْيمن في تجارةٍ، فمررْت بأميّة بْن أبي الصّلْت، فقلْت له كالْمسْتهْزئ به: يا أميّة، قدْ خرج النّبيّ الّذي كنْت تنْتظر، قال: أما إنّه حقٌّ فاتّبعْه.

قلْت: ما يمْنعك من اتّباعه؟ قال: ما يمْنعني من اتّباعه إلّا الاسْتحْياء منْ نسيات ثقيفٍ، إنّي كنْت أحدّثهنّ أنّي هو، ثمّ يَرَيَنَّنِي تابعًا لغلامٍ منْ بني عبْد منافٍ.

ثمّ قال أميّة: وكأنّي يا أبا سفْيان إنْ خالفْته قدْ رُبِطْتَ كما يُرْبَطُ الْجَدْيُ حتّى يُؤْتَى بك إليْه فيحْكم فيك ما يريد». (1رواه الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (7262))

ولم يصرف عن «أمية» الخير إلا لأنه لم يزك قلبه بما علم، بينما سبق «أبو بكر» الدنيا كلها؛ فكان خير مخلوق بعد النبيين بزكاته واتباعه وعدم نفاسته لأحد في اختيار ربه تعالى.

طريدًا غريبًا وحيدًا

«أبو عامر الفاسق» .. وكان يُسَمَّى قبل هجرة رسول الله ﷺ إلى المدينة بـ «أبي عامر الراهب»، لتعبّده وترهّبه، لكنه أيضًا طمع في النبوة وشرق بها أن أكرم بها رسول الله ﷺ، واستكبر عن اتباعه، ودعا قومه للكفر والمخالفة! وحفر الحفائر يوم أحد؛ تلك التي وقع رسول الله ﷺ في أحدها، وكلم رسول الله ﷺ يومًا فكان هذا الحوار.

فبعد “أُحُد” لم يجد سبيلًا لهزيمة المسلمين، وأهانه قومه من الأنصار بعد إسلامهم وكفره، فخرج إلى الشام يستعين بـ «هرقل» ويستفزه على المسلمين فمنّاه هرقل ووعده.

وراسل «أبو عامر» المنافقين أن يبنوا بناءً ليكون مكانًا للمراسلات بينهم وبينه ورسل الروم، وليكون عينًا على المسلمين؛ فبنوا مسجد الضرار، ولكن كف الله شر الروم، وأحرق رسول الله ﷺ المسجد بأمر الله، وفضح الله المنافقين وتراجع «هرقل» بعد مؤتة وتبوك.

ومات «أبو عامر الفاسق» فاسقًا بعد أن كان راهبًا عابدًا، طريدًا غريبًا.. ووحيدًا بعيدًا.. فلم ينفعه علمه إذ لم يزك قلبه ولم تتطهر نفسه، فاحذر يا سالك الطريق.

«أبو جهْلٍ» يعْلم الحقّ ويصدّق «محمّدًا» ﷺ..!

العجيب أن «أبا جهل» كان يعلم الحق تمامًا، ويعلم صدق رسول الله ﷺ لكنه حسد أن يكون لبني هاشم نبي، دون قومه، وجاء في هذا آثار كثيرة، ولكن نذكر هذه الرواية للإمام «الطبري»:

“لمّا كان يوْم بدْرٍ قال الْأخْنس بْن شريقٍ لبني زهْرة: يا بني زهْرة، إنّ محمّدًا ابْن أخْتكمْ، فأنْتمْ أحقّ منْ كفّ عنْه، فإنّه إنْ كان نبيًّا لم تقاتلونه الْيوْم؟ وإنْ كان كاذبًا كنْتمْ أحقّ منْ كفّ عن ابْن أخْته، قفوا ههنا حتّى ألْقى أبا الْحكم، فإنْ غلب محمّدٌ ﷺ رجعْتمْ سالمين، وإنْ غلب محمّدٌ فإنّ قوْمكمْ لا يصْنعون بكمْ شيْئًا، فيوْمئذٍ سمّي الْأخْنس، وكان اسْمه أبيًّا.

فالْتقى الْأخْنس وأبو جهْلٍ، فخلا الْأخْنس بأبي جهْلٍ، فقال: يا أبا الْحكم، أخْبرْني عنْ محمّدٍ أصادقٌ هو أمْ كاذبٌ؟ فإنّه ليْس ههنا منْ قريْشٍ أحدٌ غيْري وغيْرك يسْمع كلامنا. فقال أبو جهْلٍ: ويْحك، والله إنّ محمّدًا لصادقٌ، وما كذب محمّدٌ قطّ، ولكنْ إذا ذهب بنو قصيٍّ باللّواء والْحجابة والسّقاية والنّبوّة، فماذا يكون لسائر قريْشٍ؟”. (2تفْسير الطّبريّ (9/221-222) [الأنْعام:33])

قوم اختيروا ثم نكصوا

وأما اليهود فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنْعام:20]..

 روى «الطبري» في تفسيرها هذه الرواية: «عنْ ابْن جريْجٍ قوْله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ ، يعْني النّبيّ ﷺ. قال: زعم أهْل الْمدينة عنْ أهْل الْكتاب ممّنْ أسْلم أنّهمْ قالوا: والله لنحْن أعْرف به منْ أبْنائنا منْ أجْل الصّفة والنّعْت الّذي نجده في الْكتاب، وأمّا أبْناؤنا فلا ندْري ما أحْدث النّساء (3تفْسير الطّبريّ (9/187) [الأنْعام:20]).

ولكن منعهم حقدهم أنْ كان النبي المبشر به من العرب من أبناء «إسماعيل» وليس أبناء «إسحاق» عليهم السلام! وكأن لهم الاختيار؟! فكان التعصب للجنس الإسرائيلي مهلكًا في الدنيا والآخرة ومذلا لهم.

وأسوق إليك هذه الرواية عن السيدة «صفية بنت حيي بن أخطب» رضي الله عنها زوج رسول الله ﷺ تحكي عن أبيها وعمها، روى «ابن كثير»:

“عنْ صفيّة بنْت حييٍّ، قالتْ: «..فسمعْت عمّي أبا ياسرٍ يقول لأبي: أهْو هو؟ قال: نعمْ والله. قال تعْرفه بعيْنه وصفته؟ قال: نعمْ والله. قال: فماذا في نفْسك منْه؟ قال: عداوته والله ما بقيت»”. (4البداية والنّهاية (4/524-525))

لقد هلك الهالكون على علم، فالحامل على الاختلاف والكفر كان البغي عن علم وقصد، لا عن جهل وخطأ.

طمع مهلك

وفي شأن رؤساء النصارى جاء أيضًا من هذا خبر عجيب؛ فقد أرسلت «نجران» وفدًا من النصارى بها إلى رسول الله ﷺ، وكان كبراؤهم ثلاثة «العاقب» و «السيد» و «الأيهم»، وفي شأن أحدهم جاء هذا الخبر عن شقيق أحدهم.

يقول «ابن كثير»:

“قدم وفْد نصارى نجْران ستّون راكبًا، منْهمْ أرْبعةٌ وعشْرون رجلًا منْ أشْرافهمْ، والْأرْبعة والْعشْرون منْهمْ ثلاثة نفرٍ إليْهمْ يئول أمْرهمْ; الْعاقب والسّيّد وأبو حارثة أحد بني بكْر بْن وائلٍ، أسْقفّهمْ وصاحب مدْراسهمْ، وكانوا قدْ شرّفوه فيهمْ، وموّلوه وأخْدموه وبسطوا عليْه الْكرامات، وبنوْا له الْكنائس؛ لما بلغهمْ عنْه منْ علْمه واجْتهاده في دينهمْ.

فلمّا توجّهوا منْ نجْران جلس أبو حارثة على بغْلةٍ له، وإلى جنْبه أخٌ له يقال له: كرْز بْن علْقمة. يسايره إذْ عثرتْ بغْلة أبي حارثة فقال كرْزٌ: تعس الْأبْعد. يريد رسول الله ﷺ فقال له أبو حارثة: بلْ أنْت تعسْت.

فقال له كرْزٌ: ولم يا أخي؟ فقال: والله إنّه للنّبيّ الّذي كنّا ننْتظره.

فقال له كرْزٌ: وما يمْنعك وأنْت تعْلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء الْقوْم ؛ شرّفونا وموّلونا وأخْدمونا، وقدْ أبوْا إلّا خلافه، ولوْ فعلْت نزعوا منّا كلّ ما ترى.

قال: فأضْمر عليْها منْه أخوه كرْزٌ حتّى أسْلم بعْد ذلك”. (5البداية والنّهاية (7/270-271))

وسائل تزكية النفوس

التوحيد

فلا شيء أنجس من الشرك، ولا أعظم طهارة من التوحيد، ولشرك يتلف النفوس ويفسد القلوب، ولا يصلح معه عمل وتزكية.

يقول ابن القيم:

“التوحيد ألطفُ شيء، وأنزهُهُ، وأنظفه، وأصفاه، فأدنى شيء يخدِشُه ويدنِّسه ويؤثِّرُ فيه، فهو كأبيض ثوبٍ يكون؛ يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تُشوِّشُه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقَلعَ ذلك الأثر بضده، وإلا استحكم وصارَ طبعاً يتعسر عليه قلعه”. (6الفوائد، 184)

الصلاة

وهي كما مثّلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كنهر بباب أحدنا يغتسل فيه خمس مرات كل يوم، فكذلك الصلاة.

الصدقة

وقد نص الله تعالى على أنها مطهّرة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ..﴾ (التوبة: 103).

ترك المحرمات

يقول ابن تيمية «والنفس والأعمال لا تزكوان حتى يُزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكيا إلا مع ترك الشرّ فإنه يدنس النفس ويدسّيها». (7مجموع الفتاوى 10/ 629)

محاسبة النفس

يقول ابن القيم «وزكاة النفس وطهارتها  موقوفة على محاسبتها، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح أبتة إلا بمحاسبتها». (8مدارج السالكين 2/ 510) (9راجع: معالم في السلوك وتزكية النفوس، الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف، من 59 الى 66)

خاتمة

لم تزل تلك العبَر قائمة، والسعيد من وُعظ بغيره؛ فقد هلكت أمم وأجيال، وقادة ورموز في هذا المهلك المُردي، سلم من اتعظ، وهلك من تغافل.

…………………………………….

الهوامش:

  1. رواه الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (7262).
  2. تفْسير الطّبريّ (9/221-222) [الأنْعام:33].
  3. تفْسير الطّبريّ (9/187) [الأنْعام:20].
  4. البداية والنّهاية (4/524-525).
  5. البداية والنّهاية (7/270-271).
  6. الفوائد، 184.
  7. مجموع الفتاوى 10/ 629.
  8. مدارج السالكين 2/ 510.  
  9. راجع: معالم في السلوك وتزكية النفوس، الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف، من 59 الى 66.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة