كم من مريد للطريق، يخفق ثم يدعي أن السبب في صعوبة طريق الهدى، بينما العيب قابع في نفسه، وثمة دلائل وطرق لعلاج العزم وجمعه على ربه.
مقدمة
كم يسلك الإنسان طريقًا للخير، ولكنه يتعثر؛ ليس العيب في الطريق ولكنّ العيب أنه لم يُجْمع العزم.
كثيرًا ما نتعثر، ولا يكون السبب هو صعوبة الطريق ولا ثقل التكاليف، بل السبب الحقيقي هو تشتت العزمات.
ومُشَتَّتُ العَزَمَاتِ يَقْضِي عُمُرَهُ .. حَيْرَانَ لَا ظَفَرٌ وَلَا إخْفَاقُ
موقفٌ في قصّةٍ
يُحكى أن واليًا أراد أن يختار أحد بنيه ليخلفه على سدة الحكم، فجاء بهم جميعًا أمام نهر جميل الشاطئ، تحوم النوارس حول حدائقه الجميلة، وتعود إلى الماء تقطف رزقها بكل عفوية وانسياب.
وضع الوالي هدفًا أمام أبنائه الثلاثة، وأعطى كل واحد كنانة وقوسًا، وقال للكبير: ماذا ترى أمامك؟ فقال: الهدف، قال: وماذا مع الهدف؟ قال: هذه الحدائق الغناء، فقال له أبوه انصرف.
ثم دعا الأوسط فسأله فأجاب: الهدف، فأردف: ثم ماذا مع الهدف؟ فأجاب: هذه الطيور الرائعة الجمال، فأمره بالانصراف.
وسأل الأصغر فأجاب: أرى الهدف فقال له: وماذا مع الهدف؟ فأجاب: الهدف، قال: ثم ماذا؟ قال الصغير: الهدف، فخلع تاجه ووضعه على رأسه”.
العزم يصدق صاحبه أو يكذّبه
والعزم في المواقف هو الدليل على صدق صاحبه أو كذبه، فقد قال تعالى عن قوم ادعوا إرادة الخروج الى الجهاد؛ لكن لم تكن ذمة دلائل على صدق العزم، فقال تعالى ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً..﴾ (التوبة: 46)، وذكر تعالى أن علامة الصدق هي جمع النفس على القيام بما أمر الله تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ (محمد: 21).
آيةٌ محوريّةٌ وحاسمةٌ
ومدار الأمر هنا هو آية التوبة: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التّوْبة:24).
العلاقات الأسرية والرحم والمصاهرة والقبائل وأسماء العائلات والألقاب، الأموال والمساكن والتجارة والأعمال والمناصب والأشغال، ومع هذه العلائق المختلفة، كل هذا في جانب..
وفي الجانب الآخر الله ورسوله والدار الآخرة.
هنا تسْأل نفْسك: ماذا تريد؟..
وبمقدار الصدق والوضوح في الإجابة على هذا السؤال تكون الراحة بعد ذلك بقية الطريق..
احذر؛ فالمداهنة والمجاملة لا تنفع ولا تصح في الإجابة على مثل هذا السؤال العظيم، وإلا ندمت واضطربت بعد ذلك..
ولهذا قدّمنا بالنظر إلى آفات الدنيا فلو ركنت إليها ومال قلبك وزاغ البصر أحيانا، تدبرت ورجعت إلى هذا التدبر فحصلت النفرة منها وسكن القلب للرغبة في الآخرة..
إن الذي يفرق إنسانا عن آخر هو تحديد هدفه وتركيز عزمه.
جمْع العزم .. والصّادقون
الإخلاص ألا تريد إلا الله، والصدق أن تريده بكافة نفسك، وفي الصادقين نزل القرآن؛ حتى مع خطئهم عذرهم الله وغفر لهم وتقبل منهم..
فإنه لما أخطأ بعض الصحابة في غزوة غزوها فقتلوا رجلًا في الشهر الحرام ظنًّا أنه يفلت منهم ويدخل أرض الحرم، وكانوا في آخر أيام الشهر الحرام، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بقتله فهاج عليهم المشركون ـ الذين عذبوهم وقتلوهم في الأشهر الحرم، وفي أرض الحرم، وأخرجوهم من الحرم!! ـ وقالوا أن المسلمين ينتهكون حرمة الشهر الحرام.!.
فدافع الله عنهم مع بيان خطأ ما وقعوا فيه، وأخبر برجحان انحراف المشركين، ثم قال بعدها لمّا خاف المسلمون من حبوط الأجر فطمأنهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (البقرة:218)..
إنهم ما أرادوا إلا هذا الطريق، وأرادوه بكل نفوسهم، ولما اجتهدوا في أمر أخطؤوا فيه غفر الله لهم وأوضح لهم تصحيح خطئهم، وأثبت لهم الأجر وأعلن صحة قصدهم ووجهة عزمهم، وأنَّ مقصودهم هو: “الله” سبحانه.
سَلْ نفسك وخُذْ وقتك وتفكر جيدًا ولا تتسرع بالإجابة، وراجع نفسك مرارًا: ماذا تريد؟ وكلما لاح لك أمر ينافي الآخرة، تدبر حاله وقلّب فيه نظرك واعلم حقيقته؛ فستجده فقاعة تنفثيء بسرعة..
ولا تخبّيء في نفسك هدفًا أو خبيئة فأنت لا تجيب على محقق لتتخفى منه أو تخادعه!! إنما تجيب على نفسك لتنقذها، فأخرِج ما فيها وتدبر ما تصبو هي إليه وتميل دون الآخرة، وضعْه على محك الاختبار والتدبر وانظر هل تدوم تلك الأهداف والشهوات؟ وهل تعقب بعدها خيرًا؟ وهل تصلح لك دنياك وأخراك؟ وهل ستكون بديلًا عما هو أعظم منها..؟
وانظر إلى هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (البقرة:208)، يعني في كافة السلم وبكافة نفوسكم، فلا تدعوا جزءا من نفوسكم بلا استسلام لله تعالى وإرادته، كما لا تتركوا جزءًا من الدين بلا استسلام.
صلاح الأمر في .. “أوْزِعني”
فإن حددت هدفك، وكان استقرار النفس على أنه «الله والدار الآخرة» فلا بد من جمع النفس والهمة والعزم على المضي في الطريق، ومعنى هذا ألا تترك جزءًا من نفسك لغير الله، فتجمع كل طاقاتك وإمكانياتك ومواهبك وحياتك وكدك وتعبك وعرقك وليلك ونهارك، من أجل الله ورسوله والدار الآخرة، وهذا معنى قول الله تعالى: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ (الأحْقاف:15).
فأن “يوزعك تعالى” على طريقه وطلبه معنى عظيم.
وأصل كلمة “يوزع” هو عندما يكون الجيش عظيما فيُحبَس أوله حتى يتضامّ عليه آخره، فيجتمع الجيش كله في قوة منتظمة ومتماسكة.
ولذلك فمعنى الكلمة عندما تُستعمل لـ “النفس” هو أن تجتمع النفس كلها، أولها وآخرها، على الله تعالى.
“﴿أَوْزِعْنِي﴾ اجمعني كلي، اجمع جوارحي ومشاعري ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي ، وكلماتي وعباراتي، وأعمالي وتوجهاتي، اجمعني كلي، اجمع طاقاتي كلها؛ أولها على آخرها وآخرها على أولها ـ وهو المدلول اللغوي لكلمة أوزعني ـ لتكون كلها في شكر نعمتك عليّ وعلى والديّ”. (1في ظلال القرْآن لسيّد قطْب (5/ 2636-2637) [النّمْل:19])
خاتمة
وأما مكانة الأهداف الأخرى؛ فعندما تحدد هذا المقصد بإجابة حاسمة وصادقة فهذا يعني أن تلغي أن تكون هناك غاية أخرى “تقارن” أو “تقارب” هذه الغاية العظيمة.
فالدراسة، والنجاح والتفوق، أو العمل المحترم بأجر مغرٍ، أو الزيجة التي يشتاق إليها صاحبها بشغف، أو الإنجاب، أو تربية الولد، أو النجاح في العمل الاجتماعي أو الصِلات المختلفة.. كل هذه ليس أهدافًا نهائية للمسلم الذي يريد أن يتربى على هذا الدين، بل هذه محض ظروف.
لا مانع أبدًا من استهدافها بما يليق بها وبمكانتها من كونها أمورا صغيرة أثناء الطريق، يضعها حيث وضعها الله، ويتناولها كما أمر الله تعالى.
أما الهدف الحقيقي فهو تحقيق “الإسلام” في النفس بأعلى مستوى لبلوغ رضوان الله والنجاة من أعظم المصائب على الإطلاق وهي النار.. نجانا الله وإياك.
…………………………….
الهوامش:
- في ظلال القرْآن لسيّد قطْب (5/ 2636-2637) [النّمْل:19].