أمر الله بالعلم وجعله فريضة، وثمة علم محمود وآخر لم يدل على مدحه دليل، وثمة مزالق يقع فيها حامل العلم، وتحديد لما افترضه الله منه على كل مكلف بحسب حاله.

العلْم المحْمود

العلم الذي مدحه الشرع هو ما كان وسيلة للتعبد والعمل، من اعتقاد صحيح ومشاعر منضبطة وتصوّر رباني وقول مستقيم وعمل صالح نافع.

فإذا كان العلم مما لا يترتب عليه عمل فلا دليل على مدحه ولا مدح طلبه، وذلك كعلم الكلام والفلسفة اليونانية وغيرها التي لا تقدم سوى طريقة عرض لعلم حصل بطرق أخرى، فما صحّ منها بدهيات لم تضف شيئًا، وأكثر الناس يستعملها بدون قوانينهم التي وضعوها! وكثير منها سفسطة عقلية، وفيها من الخطأ في مقدماتها أو بعضها أو نتائجها ما يخالف العقل ويُجحد به من الحق، مع خطورة تحكيمها في النصوص الشرعية والعقائد؛ فقد تأول البعض بسببها نصوصًا لم يؤوّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وجحد آخرون قدْرا من الحق لتوافق مزاج هذه القوانين المعوجة أو غير المفيدة ولا المنتجة.

وأيضا ضرب النصوص بعضها ببعض، أو الدخول في حقائق أمور طُلب منا فيها التسليم والإيمان، كالقدَر، وميعاد وقوع ما أخبر الله تعالى به، وتفصيل أمور في الجنة أو النار لم يأت بها نص صريح ولا يترتب عليها عمل، وكذا ما كان من الاختلاف في فروع العلوم ولا يترتب عليه عمل.

مـزالقٌ تحْـذر

ويحذر السالك إلى ربه تعالى أن يطلب العلم ليماري به العلماء أو يجاري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه ويذيعَ صيته؛ فمثل هذا توعّده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار.

ويجب الحذر الشديد من شهوة الكلام، فبعض السلف كان يخاف هذا على نفسه ويخاف أن يتكلم في مسألة من مسائل العلم لغير الله تعالى أو بقصد يزاحم قصد الإخلاص والتجرد، يقول بعضهم: “فكانت المسئلة تجيء وأنا أشد شهوة للجواب فيها من العطشان إلى الماء فلا أجيب فيها”. (1صفة الصفوة، ج2، صـ 79) فكان يخاف فيها من شهوة الظهور ويجد غيره يكفيه فيسكت.

علْمٌ منْ أجْل العمل

كما ينبغي أن يعرف السالك أن المطلوب من وراء العلم العمل، قال رجل لـ «الشعبي» ليستفتيه: «أيّها العالم»، فقال «الشّعْبيّ»: «إنّما العالم منْ يخْشى الله». (2روى مثْله الخطيب البغْداديّ في «تاريخ بغْداد» (6/ 374) منْ قوْل سفْيان بْن عييْنة، وأوْرد مثْله أبو القاسم الجرْجانيّ في «تاريخ جرْجان» عنْ مجاهدٍ قوْله (947) (1/ 474))، يوميء إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28].

وكان الإمام «أحمد» يقول: «وهلْ العلْم إلّا ما عنْد داود؟»(3روى أبو نعيْم في «حلْية الأوْلياء وطبقات الأصْفياء». (7/ 336) قريبًا منْ قوْل الإمام أحْمد، فروى عنْ عبْد الله بْن الْمبارك، يقول: «وهل الْأمْر إلّا ما كان عليْه داود الطّائيّ؟»)، يقصد «داود الطائي»، وهو معروف بالتعبد والخوف والعمل..

وكان «داود» من تلاميذ «أبي حنيفة» ، وكان يحضر مجلسه، حتى كان يوما قال فيه «أبو حنيفة» لـ «داود»: «يا داود، هذا العلْم، وقدْ بقي العمل». (4روى أبو نعيْم في «حلْية الأوْلياء وطبقات الأصْفياء» (7/ 336) عنْ سفْيان بْن عييْنة، قال: «كان داود ممّنْ فقه, ثمّ علم, ثمّ عمل, وكان يجالس أبا حنيفة, فحذف يوْمًا إنْسانًا, فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليْمان طالتْ يدك, وطال لسانك، قال: ثمّ كان يخْتلف ولا يتكلّم, قال: فلمّا علم أنّه بصيرٌ عمد إلى كتبه ففرّقها في الْفرات, وأقْبل على الْعبادة, وتخلّى»)

فأثرت هذه الكلمة أثرًا عميقًا في نفس «داود»، فاهتم بالتعبد والعمل، وعرف بالخوف والخشية، وكان أنموذجًا للعبادة والتقوى والاستقامة والورع والزهد؛ فقال الإمام «أحمد» كلمته تلك: «وهلْ العلْم إلّا ما عنْد داود»؛ إذ إن العلم لا يُطلب إلا لتحقيق هذا الحال من الخشية والتقوى والزهد والعمل.

فيجب الحذر من حب الظهور وشهوة الإشارة إلى الشخص لعلمه أو لعبادته.. ولهذا فلا يتكلم العاقل إلا إن وجب عليه الكلام بحيث لا يوجد غيره يكفيه، ويرى أنه قد تعين عليه بيان الحق وإلا أثم، ولهذا كان «نوح» عليه السلام ينافح عن الحق حتى قال له قومه: ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود:32]، إذ قد تعين عليه أن يبلغ الحق لقومه.

وإن ثقل الكلام على النفس ودفع إليه الواجب الشرعي فهو أقرب لصفاء النية لله تعالى، وهي نية مباركة ولها أثر صالح في نفس القائل والمتلقي، ولو بعد حين.

العلم يُطلب به معرفة مواقع رضوان الله لاتباعها ومواقع سخطه لاجتنابها؛ وإلا يكون الواجب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار إلى لسانه: «أمْسكْ عليْك هذا». (5قال الهيْثميّ في «مجْمع الزّوائد ومنْبع الفوائد» (10/ 300): «رواه الْبزّار وقال: إسْناده حسنٌ، ومتْنه غريبٌ»)، وقال صلى الله عليه وسلم: «أمْسكْ عليْك لسانك، ولْيسعْك بيْتك وابْك على خطيئتك». (6رواه التّرْمذيّ في جامعه (2406) أبْواب الزّهْد- باب ما جاء في حفْظ اللّسان، منْ حديث عقْبة بْن عامرٍ ﭬ، بلفْظ: «أمْلِكْ عليْك لسانَك»، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ»، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (1392)، وقال: «صحيحٌ») وقال بعض السلف: «ما منْ شيْءٍ أحقّ بِطُولٍ سجْنٍ منْ اللّسان». (7رواه ابْن حبّان في «روْضة العقلاء ونزْهة الفضلاء» (ص48) بلفْظ: عنْ عيسى بْن عقْبة قال: سمعْت ابْن مسْعودٍ، رضي الله عنه، يقول: «والله الّذي لا إله غيْره ما شيْءٌ أحقّ بطول سجْنٍ منْ لسانٍ»)، يعني قلة الكلام، إلا أن يتوجب البيان فعندئذ يكون الكلام خيرًا من الصمت، بل يعاقَب على الصمت في محل البيان؛ فهو عندئذ كتمان للعلم، وعليه وعيد شديد.

ونذكّر هنا بما قال «سفيان بْن عييْنة» أن منْ انْحرف منْ عُبّادنا ـ فعبد بجهْلٍ ـ ففيه شبهٌ منْ النّصارى، ومنْ انْحرف منْ علمائنا ـ فخالف عمله علْمه ـ ففيه شبهٌ منْ اليهود. (8أوْرده ابْن تيْمية في غيْر موْضعٍ منْ مجْموع الفتاوى (22/ 307))

الفريضة الّتي يجب طلبها في العلْم

يتفاوت الناس في العلم، ولكن هناك قدْر من العلم يأثم الإنسان بجهله به، وتجب عليك معرفة هذا القدْر.

فطلب علم التوحيد ومعرفة حقوق الله الخالصة التي لو صرفت لغيره لكان شركا بالله العظيم، هو أول واجب على المكلَف أن يعلمه.

ويجب أن يعلم ما يحقق له للنجاة، من دحض شُبه وتلبيسات الوقت مما شاع من انحرافات وبدع عظام، حتى لا تستهويه ضلالة أو يخدعه مخادع.

ويتعلم عقيدة أهل السنة للنجاة من البدع، قال عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: «عملٌ قليلٌ في سنّةٍ خيْرٌ منْ اجْتهادٍ في بدْعةٍ». (9رواه ابْن بطّة في الإبانة الكبْرى (179) (1/ 329) موْقوفًا على ابْن مسْعودٍ رضي الله عنه)، وهو مروي عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم “أُبي بن كعب” و”أَبي الدرداء” وغيرهم، ونفس المعنى مروي عن التابعين (10روى ابْن بطّة في الإبانة الكبْرى (248) (1/ 358- 359))

ويجب أن يعلم ما يجب عليه بعينه، كأحكام الصلاة والصوم، وإن امتلك المال وجب عليه علم حكم زكاة هذا المال بحسب نوع المال؛ إن كان نقدين أو زروع أو أنعام أو غير ذلك، خاصة من الأنشطة المعاصرة وحكم الزكاة فيها..

وإن ملك المال والقدرة وجب الحج ووجب عليه علم المناسك ليؤديها فلو جهلها وهي واجبة عليه أثم..

كما يجب عليه علم حقوق من وجبت عليه حقوق نحوه، كالوالدين والزوجة والولد والجيران والمسلمين، وسائر الخلق.. فإن لم يكن له زوجة فلا يكون العلم بحقوقها واجبًا عليه إذ ذاك، وإن كان واجبًا على غيره، وعلى الكفاية في الأمة.. وكذا المرأة يختلف حال وجوب العلم بحقوق الزوج إن كانت مزوَّجة عن حال كونها غير مزوَّجة.

ويجب عليه علم واجبات قلبه وجوارحه ليقوم بها، وعلم محرمات قلبه وجوارحه ليجتنبها.

خاتمة

فالعلم بالحلال والحرام ليقف حيث أوقفه الله ويعمل بما وجب عليه فيمتثل، فيكون حافظًا للحدود قائمًا بالحقوق، واقفًا على قدم الخدمة لمولاه تعالى.. ومثل هذا هو شخصية فريدة ودرّ مُصان وخير لأهله وللمسلمين.. كثّر الله من أمثاله لهذه الأمة.

يقول الإمام “أحمد”: «لوْلا العلْم لكان النّاس كالبهائم». (11أوْرده ابْن عبْد البرّ في «جامع بيان العلْم وفضْله» (314) (2/ 258))

أنت لست كذلك، ولا ينبغي أن تنقضي الحياة بغير علم حقوق الإسلام وواجبات الشريعة؛ فهي المتمضنة تكاليف الرب ورسائل الإله، سبحانه، وبها نحقق غاية الوجود ومقصد الخلق، والله تعالى الموفق.

……………………………..

الهوامش:

  1. صفة الصفوة، ج2، صـ 79.
  2. روى مثْله الخطيب البغْداديّ في «تاريخ بغْداد» (6/ 374) منْ قوْل سفْيان بْن عييْنة، وأوْرد مثْله أبو القاسم الجرْجانيّ في «تاريخ جرْجان» عنْ مجاهدٍ قوْله (947) (1/ 474).
  3. روى أبو نعيْم في «حلْية الأوْلياء وطبقات الأصْفياء» (7/ 336) قريبًا منْ قوْل الإمام أحْمد، فروى عنْ عبْد الله بْن الْمبارك، يقول: «وهل الْأمْر إلّا ما كان عليْه داود الطّائيّ؟».
  4. روى أبو نعيْم في «حلْية الأوْلياء وطبقات الأصْفياء» (7/ 336) عنْ سفْيان بْن عييْنة، قال: «كان داود ممّنْ فقه, ثمّ علم, ثمّ عمل, وكان يجالس أبا حنيفة, فحذف يوْمًا إنْسانًا, فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليْمان طالتْ يدك, وطال لسانك، قال: ثمّ كان يخْتلف ولا يتكلّم, قال: فلمّا علم أنّه بصيرٌ عمد إلى كتبه ففرّقها في الْفرات, وأقْبل على الْعبادة, وتخلّى».
  5. قال الهيْثميّ في «مجْمع الزّوائد ومنْبع الفوائد» (10/ 300): «رواه الْبزّار وقال: إسْناده حسنٌ، ومتْنه غريبٌ».
  6. رواه التّرْمذيّ في جامعه (2406) أبْواب الزّهْد- باب ما جاء في حفْظ اللّسان، منْ حديث عقْبة بْن عامرٍ ﭬ، بلفْظ: «أمْلِكْ عليْك لسانَك»، وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ»، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (1392)، وقال: «صحيحٌ».
  7. رواه ابْن حبّان في «روْضة العقلاء ونزْهة الفضلاء» (ص48) بلفْظ: عنْ عيسى بْن عقْبة قال: سمعْت ابْن مسْعودٍ ﭬ يقول: «والله الّذي لا إله غيْره ما شيْءٌ أحقّ بطول سجْنٍ منْ لسانٍ».
  8. أوْرده ابْن تيْمية في غيْر موْضعٍ منْ مجْموع الفتاوى (22/ 307).
  9. رواه ابْن بطّة في الإبانة الكبْرى (179) (1/ 329) موْقوفًا على ابْن مسْعودٍ رضي الله عنه.
  10. روى ابْن بطّة في الإبانة الكبْرى (248) (1/ 358-359).
  11. أوْرده ابْن عبْد البرّ في «جامع بيان العلْم وفضْله» (314) (2/ 258).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة