أبومحذورة

بقي أبو محذورة على العهد والإيمان وقضى عمره مؤذنًا للمسجد الحرام، وكان اللقاء الأول الذي كرهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- البداية لسعادته-..

قصة من عهد النبوة: إشراف الرسول المربي

قصة طريفة لكنها تحمل معان عظيمة، وموقف ساخر في البداية، لكنه يتحول إلى هداية واستقامة.

أجل .. بالتربية والتوجيه وحسن الأدب ولطيف العبارة تحول شاب من ساخر بالآذان إلى مؤذن ندي الصوت يتوارث الآذان من بعده ولده، وولد ولده في المسجد الحرام ..

لست أدري أأحدثكم في هذه القصة عن الآذان وفضله وطول أعناق المؤذنين يوم القيامة .. أم أحدثكم عن الشباب ومراهقته أم يكون الحديث عن آثار التربية ولطف المعاملة وحاجتنا إليها أم أكتفي بسياق القصة ليستفاد منها هذه المعالم وغيرها؟ لكني أبادر بالقول أن قصة اليوم: قصة من عهد النبوة .. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المشرف والموجه فيها .. أما صاحب القصة فهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤذن المسجد الحرام أوس بن مِعْير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح .. ولئن اختلف في اسمه فهو مشهور بكنيته (أبي محذورة الجمحي) رضي الله عنه وأرضاه.

أبو محذورة: مؤذن المسجد الحرام الذي بدأ ساخرًا

والقصة وردت بسياقين بينهما بعض الاختلاف، ولعل بعضهما يكمل بعضًا.

– السياق الأول: أورده ابن عبد البر رحمه الله – في الاستيعاب- بسنده إلى أبي محذورة قال: خرجت في نفرٍ عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من (حنين) فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عنده، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه (ونستهزئ به) فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إلي – وصدقوا – فأرسلهم وحبسني، ثم قال قم فأذن بالصلاة، فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر .. فذكر الآذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصيتي ثم من بين ثديي، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرتي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة؟ قال: أمرتك به، وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من (كراهة) وعاد ذلك كله (محبة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مت على عتاب بن أسيد (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة) فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم 1(1) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 136/ 138)..

– السياق الثاني للقصة فقد أورده الذهبي في سيره .. وبسند صحيح أيضًا – عن أبي محذورة قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من (حنين) خرجت عاشر عشرة من (مكة) نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن (نستهزئ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا رجلًا رجلًا فكنت آخرهم، فقال حين أذنت، تعال، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام، قلت كيف يا رسول الله؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح (الصلاة خير من النوم) وعلمني الإقامة مرتين مرتين2(2) الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة، والنسائي وأحمد بهذا الإسناد، وأخرجه غيرهم (سير أعلام النبلاء 3/ 118)..

معالم التربية النبوية: كيف نتعامل مع الخطأ والمخطئ؟

ماذا نستفيد من هذه القصة .. وما هي معالم التربية في سيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نتعامل من الخطأ والمخطئ؟

إن القصة لمن تأمل لا تبدأ بالعنف والتوبيخ، وإن كان الخطأ واضحًا، والسخرية يعترف بها أصحابها .. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالتثبت لمن وقع منه الفعل، فلا يؤخذ المتهم بجريرة المخطئ وإذا علم المخطئ كان التعامل مع الخطأ بطريقة تربوية حكيمة يعود المخطئ من كره النبي إلى محبته، ومن كره الآذان والاستهزاء به إلى محبة له تتعمق فيه وفي نسله من بعده.

إن الشباب له نزواته ولكن سهل قريب للخير إذا وجد من يأخذ بيده ويشجعه .. وكذلك صنع الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي محذورة، فهو يأمره بالآذان ويعلمه كيف يؤذن، ثم لا يبخل عليه بهدية تفتح نفسه وتحببه لمن أهدى إليه، بل يزيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمسح بيده الشريفة من ناصيته حتى بلغت يده سرة أبي محذورة .. ثم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالدعاء والتبريك لأبي محذورة .. ثم يختم الموقف النبوي بإعطاء الثقة واستثمار الموهبة لهذا الشاب ليكون مؤذن المسجد الحرام؟ ما أروعها من أساليب في التربية، وما أحوجنا إلى هذه القيم الرفيعة في المعاملة والدعوة، وكم هي كنوز التربية في السيرة النبوية.

إنها معالم في التربية ما أحوج الآباء والمربين والدعاة والمتحدثين إلى فهمها وممارستها ..

وإذا تحدث المتخصصون في التربية كان لهم في رحاب السيرة النبوية متسع في الحديث، وكان لهم في رسول الله أسوة حسنة.

كن مبشرًا لا منفرًا: الدرس الأكبر للدعاة والمربين

أيها المسلمون إنما أنتم مبشرون لا منفرون، ولن تسعوا الناس بأرزاقكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم .. ولكم في رسول الله قدوة في تحويل الأخطاء إلى سلوكيات منضبطة .. وفي تحويل المستهزئين الطائشين إلى أحلاس مساجد تتجاوب جبال مكة مع تكبيرهم وندائهم بالآذان، ويشهد الناس لأبي محذورة بنداوة الصوت وحسن النغمات حتى قال الشاعر:

أما ورب الكعبة المستورة … وما تلا محمد من سورة

والنغمات من أبي محذورة … لأفعلن فعلة منكورة3(3) (سير أعلام النبلاء 3/ 118).

زار عمر رضي الله عنه مكة، وأبو محذورة مؤذن المسجد الحرام، فأذن أبو محذورة ثم جاء يسلم على عمر فقال له عمر: ما أندى صوتك .. قال علمت أنك قدمت فأحببت أن أسمعك صوتي.

أثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أبي محذورة وذريته

وبقي أبو محذورة على العهد والإيمان وقضى عمره مؤذنًا للمسجد الحرام، وكان اللقاء الأول الذي كرهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- البداية لسعادته-، ألا ما أروعك يا نبي الله في حربك وسلمك، وفي تعاملك مع أصحابك وأعدائك ولا غرابة فقد أدبك ربك فأحسن أدبك وشهد لك بحسن الخلق والرأفة والرحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ويهديه للإسلام وقد أراد الله لأبي محذورة خيرًا، أما أخوه (أنيس) فقد قتل ببدر كافرًا4(4) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 133)..

أما أبو محذورة فهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومؤذن المسجد الحرام أسلم في قصة طلب النبي صلى الله عليه وسلم له حين كان يحاكي الآذان استهزاء، فأسلم يومئذ، كما قال ابن عبد البر 5(5) (السابق 12/ 134). أما ابن سعد فقال: أسلم أبو محذورة يوم فتح مكة، وأقام بمكة ولم يهاجر 6(6) (الطبقات 5/ 450)..

وقال الواقدي: كان أبو محذورة يؤذن بمكة إلى أن توفي سنة تسع وخمسين، فبقي الآذان في ولده وولد ولده إلى اليوم بمكة7(7) (الطبقات/ 450)..

فضل الأذان والمؤذنين: أطول الناس أعناقًا يوم القيامة

وهذا يعني أن أبا محذورة بقي مؤذنًا قرابة نصف قرن .. وبقي الآذان في ولده قرابة قرنين من الزمان إلى زمن الرشيد العباسي8(8) (جمهرة أنساب العرب/ 163) كم في الآذان من فضائل .. وكم للمؤذنين من فضل، فهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة، والشجر والحجر والإنس والجن، والرطب واليابس يشهد لهم يوم القيامة9(9) (الفتح 2/ 88)..

وبشراكم معاشر المؤذنين بهذا الحديث: «من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة10(10) (رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهم بسند صحيح (صحيح الجامع 5/ 236)..

وهنيئًا لكم- معاشر المؤذنين- وأنتم أول داخل للمسجد، تذكرون الغافل بالآذان، وتوقظون النائم مع انشقاق الفجر، ثم تمكثون في المسجد .. تصلون من النوافل ما كتب الله لكم، وتقرأون من كتاب الله أو تذكرون الله وتسبحونه بما لا يتوفر لغيركم- إلا لمن شارككم التبكير للمسجد وفضل الله يؤتيه من يشاء ..

وهنا لفتةٌ فكم تشكو المساجد من قلة التبكير إليها، وقد مرت أزمان كان المؤذن يسبق إلى المسجد .. فأين المرابطون في المسجد قبل أو مع الآذان .. وأين الباقون في المساجد بعد الصلاة يتلون كتاب الله أو يصلون أو يسبحون ويهللون ويحمدون؟ أولئك رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ..

لقد ضعف وردنا اليومي للقرآن، ولو عودنا أنفسنا التبكير للمسجد، أو المكوث فيه بعد الصلاة، لسهل علينا وردنا من القرآن ولعمرت المساجد أكثر، وإذا كانت هذه الظاهرة تستحق العناية والتذكير، فمن التحدث بنعمة الله أن نذكر أن هناك مساجد عامرة بالمرابطين فيها قبل وبعد الصلاة، وهناك مصلون أخذوا على أنفسهم أن يجلسوا في المسجد أدبار الصلاة ليتفرغوا لتلاوة القرآن- أولئك مجاهدون ومرابطون-، ولهم من المشاغل والارتباطات ما لغيرهم، لكنهم محتسبون، وواثقون بأن كل نفس لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ..

فهل يا ترى يتشجع جماعة كل مسجد ويؤنس بعضهم بعضًا في الجلوس في المسجد ولو لوقت قليل، ولو بعض الأوقات .. ولو بعض الأيام .. و {من عمل صالحًا فلنفسه} وبذكر الله تطمئن القلوب، ومنقبة للرجل أن يعرف ملزوم المسجد، وأن يكون من سواريه.

وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة، صفة للأذان رواها (مسلم) في صحيحه (379) وعن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة .. فذكرها11(11) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح سنن أبي داود 1/ 100)..

أيها المؤمنون نداء الآذان شعار للمسلمين في سلمهم وحربهم وفي سفرهم وحضرهم، وحري بهذا النداء أن يقدر، وأن يجاب المنادي للصلاة .. بل وحري بالمسلم أن يسمع الآذان ويردد بعده ما ورد وأن يقول بعد الآذان هذا الدعاء «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمود الذي وعدته» فمن قال ذلك حلت له شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة12(12) (رواه البخاري ح 614 الفتح 2/ 94)..

كم نستهين أو نتغافل عن هذا الدعاء وهذا فضله، وكم نزهد في الآذان وتلك مرتبة المؤذنين وفضلهم.

اللهم لا تحرمنا فضلك .. واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

الهوامش

(1) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 136/ 138).

(2) الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة، والنسائي وأحمد بهذا الإسناد، وأخرجه غيرهم (سير أعلام النبلاء 3/ 118).

(3) (سير أعلام النبلاء 3/ 118).

(4) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 133).

(5) (السابق 12/ 134).

(6) (الطبقات 5/ 450).

(7) (الطبقات/ 450).

(8) (جمهرة أنساب العرب/ 163)

(9) (الفتح 2/ 88).

(10) (رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهم بسند صحيح (صحيح الجامع 5/ 236).

(11) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح سنن أبي داود 1/ 100).

(12) (رواه البخاري ح 614 الفتح 2/ 94).

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” د. سليمان بن حمد العودة (ص123-130/12).

اقرأ أيضا

الاستهزاء بالدين من نواقض الإسلام

المنافقون.. الاستهزاء والطعن في أحكام الشريعة

التربية الإسلامية الشاملة

التعليقات غير متاحة