الجهاد في سبيل الله جزء أساسي من رسالة الإسلام، وسمة بارزة للأمة الإسلامية، ومن غاياته الدفاع عن ديار الإسلام، وإزالة العوائق التي تقف في سبيل وصول الدعوة الإسلامية إلى شعوب الأرض، وغزو ديار الحرب لتحويلها إلى جزء من ديار الإسلام، أو إلى دار عهد يدفع أهلها الجزية للمسلمين11- د. محمد عبد الحميد الرفاعي: الطابع الإسلامي للدولة الأموية “ص213”..
الأهداف السامية والغايات العالية للجهاد في سبيل الله
ويجب التنبيه هنا إلى أن أصل الجهاد في سبيل الله ليس لحمل الناس على اعتناق الإسلام كرها، فـ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256] ، وإنما لإزالة الحواجز والعقبات المانعة من سماع دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولدفع الظلم عن المستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان. وكانت الدعوة إلى الإسلام وطرحه بأسلوب الحوار والمفاوضة الهادئة تسير جنبا إلى جنب مع الانتصارات العسكرية الباهرة التي حققتها الجيوش الإسلامية الفاتحة. وطريقة الحوار هذه كانت وسيلة من وسائل المسلمين المبتكرة في إقناع الشعوب بالتي هي أحسن كما تدعونا إلى ذلك أبواب الحوار والدعوة السلمية، ويكون أسلوب السيف هذا مؤقتا لإزالة العقبات التي تقف حائلا أمام تعريف الشعوب بعقيدة الإسلام.
وبهذه الأهداف السامية والغايات العالية انطلقت حركة الفتوحات الإسلامية منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم، وتابعت مسيرتها في عصر الخلفاء الراشدين، “وظلت عجلتها تدور وتلف البلاد من حول ديار الإسلام، لا تترك بلدا لفقره وجذبه، إلى آخر لغناه وخصبه، وإنما كانت تبدأ بها أولا بأول، تحاول في دأب وصبر واجتهاد أن تنقله من الشرك والوثنية إلى الإسلام وعقيدة التوحيد الخالصة”22- د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين “ص219” ط دار الفرقان، عمان، الأردن، 1999م..
الخلافات الداخلية عاملا مهددا لوجود ومكانة الدولة
ولم يوقف حركة الفتوحات الإسلامية في زمن الراشدين إلا أحداث الفتنة التي شهدتها المراحل الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه، وما تلاها من حروب داخلية بين الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه، وبين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الوالي على الشام حينئذ. ولقد أدت هذه الفتنة إلى انشغال المسلمين بأنفسهم عن مواصلة الفتح وتثبيت أقدامهم في البلاد التي فتحوها، وعن نشر الدعوة الإسلامية، “مما يعكس الأثر السلبي للخلافات الداخلية على وضع الدولة الإسلامية الناشئة. وهذه السلبية سوف تصبح نمطا يتكرر مرات عديدة في التاريخ الإسلامي، حيث أضحت الخلافات الداخلية عاملا مهددا لوجود ومكانة الدولة، خاصة في فترات الضعف”33- د. نادية محمود مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص7-8”..
عام الجماعة وطي صفحة النزاع والخلاف
وبعد خمس سنوات من الفتنة “35-40هـ” -تعثرت خلالها حركة الفتوحات الإسلامية وظلت تتردد في الضعف- اجتمع المسلمون على معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- سنة “41هـ” -وهو العام المعروف بعام الجماعة- وطوت الأمة الإسلامية هذه الصفحة الحزينة من النزاع والخلاف، واستعادت قوتها من جديد، وانطلقت الحركة من عقالها، منتشرة -كالعادة- في جميع الجهات، ومكتسحة العالم القديم شرقه وغربه.
ولقد نجح معاوية -رضي الله عنه- في جمع شمل الأمة قبل أن تتفتت تماما، وبعد أن كاد الأمل يضيع في إمكانية الحفاظ على الوعاء الذي يوحد الأمة، ويحفظ الشريعة، فأقام دولة قوية استطاع أن يبدأ بها مرحلة نشطة في العلاقات الدولية والتي كان قطباها حينئذ هما: الدولة الأموية، والدولة البيزنطية44- نادية مصطفى: المرجع السابق ص (8) ..
الفتوحات الكبرى في ظل الدولة الأموية
وفي ظل الدولة الأموية استأنف المسلمون اكتساحهم لقارات العالم القديم “آسيا -إفريقيا- أوروبا” فأحيوا حركة الفتوحات الكبرى، متوغلين في أقطار الدولة البيزنطية حتى مياه “البوسفور” واستولوا على معظم الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط وغربيه وجنوبيه وواصلوا ضغطهم على مدينة “القسطنطينية” عاصمة الدولة البيزنطية، وحاصروها أكثر من مرة. كما أنهم فتحوا شرق العالم حتى اقتربوا من حدود الصين، واستكملوا فتح الشمال الإفريقي كله، من حدود مصر الغربية إلى المحيط الأطلسي، ثم عبروا المضيق الذي عرف بـ “جبل طارق” إلى القارة الأوروبية ففتحوا إسبانيا، ووصلوا إلى نهر “اللورين” جنوبي فرنسا.
ويعتبر النشاط الحربي خلال العصر الأموي من الصفحات المشرقة في تاريخ الأمويين، وعملا من أعمال البطولة والمجد تحسب لدولتهم، وتعطي لها أهمية بالغة، ومكانة مرموقة في التاريخ الإسلامي، بل نكاد نقول: إن الأعمال الحربية التي خاضها القادة العظام في عصر الخلافة الأموية -سواء أكانوا من البيت الأموي “كمحمد بن مروان، وابنه مروان، ومسلمة بن عبد الملك” أم من غير الأمويين “كعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، ومولاه طارق بن زياد، وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم، وغيرهم”- تعد علامة بارزة في الفن العسكري العالمي، فلقد حقق هؤلاء القادة المجاهدون ما يشبه الخوارق بمقياس عصرهم، إذ تمكنوا -من خلال زمن وجيز- من الانتشار في أرجاء العالم المعروف آنذاك55- د. محمد محمد عامر: عصر الخلافة الأموية بداية التغييرات في التاريخ الإسلامي “ص162”..
الفتوحات في عهد الدولة الأموية
وقد توزعت فتوحات الدولة الأموية على ثلاث جبهات كبرى في وقت واحد، مما يدلل على أن السياسة الحربية الفتحية كانت هي نشاط الأمويين الأساسي:
وأول هذه الجبهات: “بيزنطة” باعتبارها مركز القوة الرئيسية التي كانت ولا تزال في موقف التهديد المباشر لبلاد الإسلام في المجالين البري والبحري على السواء.
وثانيهما: في اتجاه الشمال الإفريقي “بلاد المغرب”، وهو ميدان بيزنطي أيضا في صبغته الرسمية، وإن تجرد من القدرة على التهديد المباشر للنفوذ الإسلامي، وتميز بوجود عامل جديد مؤثر، هو العامل المحلي المتمثل في “البربر” سكان البلاد الأصليين.. وانطلاقا من هذا الميدان امتدت جهود الفاتحين إلى “شبه جزيرة إيبيريا” “إسبانيا” وجنوب فرنسا.
أما الميدان الثالث: فكان في اتجاه الشرق: الشمالي والجنوبي، حيث مواطن الأتراك والهنود وبقايا الفرس.
وفي السطور الآتية حديث موجز عن هذه الميادين الحربية، دون التعرض للتفصيلات التي تحفل بها المراجع المختلفة، مكتفين بما يساعد على توضيح اتجاهات الفتوح، ويربط بينها وبين الأحداث التي جرت في مركز الدولة الإسلامية أو قريبا منها.
ونبدأ أولا بالحديث عن الفتوحات في الجبهة الشرقية، ثم في الجانب البيزنطي ثم الشمال الإفريقي، وشبه الجزيرة الإيبيرية “إسبانيا” وجنوب فرنسا.
أولًا: الفتوحات في الشرق
مدخل
تشمل الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية المناطق الواقعة شرق العراق. وقد اتسمت الأمم التي كانت تقطن تلك المناطق بالتعدد جنسا وحضارة، وإن اتفقت جميعها في الوثنية.
وكان المسلمون حتى خلافة عثمان -رضي الله عنه- قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر “جيحون” “وهو نهر آموداريا الذي يقع -الآن- على الحدود بين تركمانستان وأزبكستان” أي كل أقاليم دولة إيران الساسانية، وتضم منطقة الجبال و””الري”، و”جرجان” و”طبرستان” و”وقوهستان” و”خراسان” و”فارس” و”كرمان” و”مكران” و”سجستان”. فلما استشهد عثمان -رضي الله عنه- ووقعت الفتنة تعثرت الفتوح، وخرج أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا التأمت جماعة المسلمين أخذت الدولة الأموية تبذل جهودا بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة، وكانت مهمة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- العاجلة في الشرق فور توليه الخلافة هي تدعيم القوة الإسلامية، وإعادة توطيد أقدام المسلمين هناك، وقد نجحت الدولة الإسلامية في عهده في فتح معظم “خراسان” على يد أميرها عبيد الله بن زياد، وكان معاوية قد ولاه على البصرة والكوفة “53-59هـ”، وعمل هذا الأمير على مد حركة الفتح إلى بلاد ما وراء النهر، وغزا “بيكند” و”بخارى” من بلاد الصغد، واضطرهما إلى دفع الجزية، ثم قف راجعا إلى البصرة. ويبدو أنه أقم على عبور نهر “جيحون” إلى ما ورائه من البلاد بعد أن أسلمت خراسان قيادها للمسلمين وعز فيها الإسلام.
وقد كانت هذه الفتوحات في المنطقة الشرقية تسير في خطين:
أحدهما: شمالي إلى بلاد ما وراء النهر.
والآخر: جنوبي إلى بلاد السند.
1- بلاد ما وراء النهر:
أطلق المسلمون اسم “بلاد ما وراء النهر” على البلاد التي يفصلها نهر “جيحون” عن “خراسان” وهي التي تقع وراءه من جهة الشرق والشمال. وتعرف الآن باسم “آسيا الوسطى” الإسلامية، وتضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، ثم من الله عليهم فاستقلوا بعد انهياره. وهذا الجمهوريات هي الآن “أوزبكستان” و”طاجيسكتان” و”قازاخستان” و”تركمانستان” و”قرغيزيا”.
وتقع بلاد “ما وراء النهر” بين نهر “جيحون” “أموداريا” جنوبا، ونهر “سيحون” “سرداريا -يقع الآن في كازاخستان” شمالا. ويطلق عليها -أحيانا- بلاد “الهياطلة” وكان أهلها وثنيين من أصول تركية، حلوا بها منذ القرن السادس الميلادي66- راجع “معجم البلدان” لياقوت الحموي -مادة “هيطل”.. وتتميز بوفرة المياه، لوجود نهري “جيحون” و”سيحون” وروافقدهما الكثيرة، مما ساعد على خصوبة المنطقة وكثرة الزراعة والعمارة فيها، واجتذاب السكان إليها.
ويمكن تقسيمها -عند الفتح الإسلامي- إلى عدة أقاليم أو ممالك مستقلة، هي77- راجع: مسالك الممالك، للاصطخري ص”295″.:
1- إقليم “طخارستان”، ويقع على صفتي نهر “جيحون”. وعاصمة “بلخ”.
2- إقليم “الصغد” ومن أشهر مدنه: “بخارى” وسمرقند”.
3- إقليم “خوارزم”. ويشمل على دلتا نهر “جيحون”. وعاصمته: مدينة “الجرجانية”.
4- إقليم “الختل” في أعالي نهر “جيحون”. وعاصمته مدينة “هلبك”. ومن مدنه: “أشجرد” و”الصغانيان”.
وكانت هذه الممالك الأربعة تسمى بالممالك “الجيحونية”.
5- إقليم “فرغانة”، على نهر “سيحون”. وتعرف اليوم باسم “خوقند”.
6- “إقليم الشاش” على نهر سيحون أيضا، وتعرف اليوم باسم “طشقند” “عاصمة كازاخستان الآن”.
ومن مدة هذين الإقليمين الأخيرين: “خجندة” و”إيلاق” و”إسبيجاب”.
ومن الجدير بالذكر أن الترك الذين واجههم المسلمون في هذه البلاد -بلاد ما وراء النهر الواقعة بين بلاد إيراه وبلاد المغول- كانوا أجناسا، وكان أول جنس قابلوه هو جنس “الهياطلة” ، وكانوا قسمين كبيرين:
1- قبائل الشمال، وهي التي تسمى في الغالب باسم “الهياطلة”، ويلقب ملكهم بـ “الزونبيل”، وهذا اللقب يقرأ أحيانا “الرتبيل” خطأ.
2- قبائل الجنوب، وهي التي تسمى بالزابليين، وقد استقروا في إقليم، “زابلستان” “راجع الخريطة”، وأعطوه اسمهم.
ولم يكن “الهياطلة” هم الجنس التركي الوحيد الذي دخل المسلمون في صراع معه في هذه المرحلة من مراحل بنائهم للدولة الإسلامية، بل كان هناك الترك “البختيون”، ويسمون في غير العربية باسم “البكتريين” نسبة إلى إقليم “باكتريا” الذي سكنوه. وعندما دخل المسلمون في صراع مع الترك قاتلوا “البختيين” في نفس الوقت الذي قاتلوا فيه الهياطلة، وكلا الفريقين ينتمي إلى الأتراك “الغزية”88- أطلس التاريخ الإسلامي للدكتور حسين مؤنس ص “130-131”..
وقد طرق المسلمون هذه البلاد عدة مرات منذ خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- “23-35هـ”، وغزاها -في خلافة بني أمية- عدد من القادة المسلمين إلى سنة “86هـ” منهم: عبيد الله بن زياد، وسعيد بن عثمان بن عفان، والمهلب بن أبي صفرة، وولديه: يزيد والمفضل، ولم تسفر حملات هؤلاء القادة عن فتح وقد انعكست الخلافات والانقسامات التي أعقبت موت معاوية بن أبي سفيان من “سنة 60هـ” إلى سنة “72هـ” على الفتوح في هذه المنقطة، وأصبح المسلمون في موقف دفاعي، حيث اغتنم الترك انشغال المسلمين بهذا الخلاف، فكانوا يغيرون على ديار الإسلام، ويحرضون أهل الصلح من البلاد على الثورة، وبلغوا في بعض هجومهم إلى قرب “نيسابور” في خراسان، وفقد المسلمون كثيرا من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها99- راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص”222، 224″، وفتح البلدان للبلاذري، ص”507، 509″..
“فما أن تمكن عبد الملك بن مروان “65-86هـ” من القضاء على مناوئيه حتى بدأ يولي الفتح الاهتمام الواجب، وكان ولادته على إقليم العراق هم مفتاح النجاح على الجبهة الشرقية، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ولي على العرق والمشرق “سنة 75هـ” ذا فضل كبير بسبب شدته وصرامته في تحقيق قدر كبير من الاستقرار في العراق -ولو ظاهريا- مكن من خروج الحملات العسكرية نحو الأقاليم الشرقية”1010- الدولة الأموية دولة الفتوحات، نادية محمود مصطفى “ص48”.. وقد اضطلع بعبء هذه الفتوح ثلاثة من قادة الحجاج المشهورين، وهم: المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد ابن القاسم الثقفي.
أما المهلب بن أبي صفرة فقد ولاه الحجاج على خراسان سنة “78هـ”، وقام بفتوح واسعة فيما وراء النهر، وغزى مغازي كثيرة، ففتح مدينة “كش” في مملكة “الصغد”، ووجه منها حملة بقيادة ابنه “يزيد” إلى ملك “الختل” واضطره إلى دفع الجزية. كما فتح يزيد قلعة “نيزك” بإقليم “بادغيس” بين “مرو” و”هرات”، وغزا “خوارزم”، واستطاع المهلب وأبناؤه في مدة عامين تقريبا -أن يعيد هيبة المسلمين في المنطقة، وإن كان لم يوفق في إقامة قواعد ثابتة هناك1111- تاريخ خليفة بن خياط “ص279″، تاريخ اليعقوبي “2/ 273″، فتوح البلدان ص”511-514″، تاريخ الطبري “6/ 320، 325”..
فتوحات قتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر:
أما المرحلة الحاسمة في الفتح والاستقرار فقد بدأت مع تسلم “قتيبة بن مسلم الباهلي” قيادة جيوش الفتح وولاية إقليم خراسان وبلاد الشرق “سنة 85هـ” وظل واليا عليها إلى سنة “99هـ”، وقد كانت الظروف مواتية له تماما، فالدولة الأموية كانت عندئذ في أحسن حالاتها استقرارا وهدوءا وثراء عريضا، فاجتمع لقتيبة مهارة القائد وعزم الوالي “الحجاج بن يوسف الثقفي” وتشجيعه، وقوة الدولة وهيبتها، فكانت فتوحاته العظيمة في بلاد “ما وراء النهر”.
ولم يكن “قتيبة” قائدا عسكريا فحسب، بل كان إلى جانب ذلك رجل دولة، وصانع سياسة، وواضع نظم وإدارة، فعمل بعد تسلمه أمور الولاية على القضاء على الخلافات العصبية التي كانت تعصف بالقبائل العربية في “خراسان”، من جراء التنافس على الولايات، وجمع زعماءهم على كلمة واحدة تحت الجهاد، كما أنه عمل على كسب ثقة أهل “خراسان” الأصليين، فأحسن إليهم، وقربهم، وعهد إليهم بالوظائف، فاطمأن الجميع إليه، ووثقوا به وبقيادته1212- د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي- ص30-31”..
سار قتيبة على نفس الخطة التي سار عليها آل المهلب، وهي خطة الضربات السريعة المتلاحقة على الأعداء، فلا يترك لهم وقت للتجميع، غير أنه امتاز على المهالبة بأنه كان يضع لكل حملة خطة ثابتة، ويحدد لها وجهة معينة، ويجتهد في الوصول إلى ما يقصده، غير عابئ بالمصاعب، معتمدا على الله عز وجل، ثم على بسالته النادرة، وروح القيادة التي امتاز بها، وإيمانه العميق بالإسلام.
ولقد مرت خطوات “قتيبة” في فتح تلك البلاد -على مدى عشر سنوات “86-96هـ”- عبر مراحل أربع، حقق في كل منها فتح ناحية واسعة فتحا نهائيا، وثبت أقدام المسلمين والإسلام فيها. وهذه المراحل هي1313- راجع: د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “موسوعة سفير 2/ 31”. أطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس “ص131”.:
المرحلة الأولى “86-87هـ”: وفيها أخضع “قتيبة بن مسلم” إقليم “طخارستان” الواقع على ضفتي نهر “جيحون”. ويبدو أن أوضاعه لم تكن قد استقرت للمسلمين تماما منذ أن فتحه “الأحنف ابن قيس” في خلافة عثمان بن عفان. وكانت تلك بداية ناجحة من “قتيبة”؛ فبدون توكيد أقدامه في “طخارستان” لم يكن ممكنا أن يمضي لفتح “ما وراء النهر”. وقد أصبح يتمتع بهيبة كبيرة في تلك البلاد، فما إن يسمع الملوك بمسيره إليهم حتى يسرعوا إلى لقائه وطلب الصلح.
المرحلة الثانية “87-90هـ”: وفيها فتح “قتيبة” إقليم “بخارى” كله بعد حروب طاحنة وانتظام حملاته عليها.
المرحلة الثالثة “91-93هـ”: وفيها أكمل فتح حوض جيحون” كله وأتم فتح “سجستان” “92هـ”، وإقليم “خوارزم” “93هـ”. وتوج عمله بالاستيلاء على “سمرقند” أعظم مدن ما وراء النهر كلها.
ومن جميل ما يروى في فتح سمرقند أن المسلمين حينما دخلوها أخرجوا ما فيها من الأصنام وأحرقوها، وكان أهل سمرقند يعتقدون أن من استخف بها هلك، فلما أحرقها المسلمون ولم يصابوا بأذى أسلم من أهلها خلق كثير.
المرحلة الرابعة “94-96هـ”: وفيها عبر قتيبة “نهر سيحون”، وفتح الممالك السيحونية الثلاث: “الشاش” و”أشروسنة” و”فرغانة” ثم دخل أرض الصين، وأوغل في مقاطة “سنكيانج”، ووصل إلى إقليم “كاشغر” وجعلها قاعدة إسلامية، وتهيأ لفتح الصين لولا أن وفاة “الحجاج بن يوسف الثقفي” “95هـ”، والخليفة “الوليد بن عبد الملك” “96هـ” جعلته يتوقف عند هذا الحد، لكنه أجبر ملك الصين على دفع الجزية1414- راجع: تفاصيل الحروب والمعارك التي خاضها قتيبة في بلاد ما وراء النهر: تاريخ الطبري “6/ 425، 432، 436-437، 455، 463، 470، 473، 480، 503، 504” فتوح البلدان للبلاذري “ص516، 518، 521، 522”. تاريخ اليعقوبي “2/ 287”..
ونذكر هنا ثلاث ملاحظات جديرة بالتسجيل وهي:
1- لقد كان أهل هذه البلاد جاهلين بحقيقة الإسلام، وتصوروا أن المسلمين إنما جاءوا للاستيلاء على خيرات بلادهم، الأمر الذي جعلهم يقاومون بشراسة، لكنهم لما عرفوا أن المسلمين ليسوا غزاة، وإنما هداة يحملون إليهم الإسلام أقبلوا على اعتناقه والإيمان بمبادئه. يقول المستشرق المجري “أرمينوس فامبري”: “إن بخارى التي قاومت العرب في البداية مقاومة عنيفة قد فتحت لهم أبوابها لتستقبلهم ومعهم تعاليم نبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم، تلك التعاليم التي قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم عليها بعد ذلك في غيرة شديدة حتى لنري الإسلام -الذي أخذ شأنه يضعف اليوم في جهات آسيا الأخرى- وقد غدا في بخارى اليوم “1873م” على الصورة التي كان عليها أيام الخلفاء الراشدين1515- د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي -ص31”..
2- كان السكان في هذه المناطق يرضون بالصلح أو يعتنقون الإسلام ظاهريا في بداية الأمر كما أسلفنا، وما إن ينصرف الجند المسلمون حتى ينقضوا العهد أو يرتدوا عن الإسلام. وهذا يظهر بوضوح مدى منطقية مفهوم “عقبة بن نافع” -فاتح “إفريقية” ومؤسس مدينة “القيروان” فيها -بضرورة أن يكون الفتح معنويا، وليس عسكريا، فالفتح المعنوي يحتاج إلى وجود مسلمين مقيمين في المنطقة بعد فتحها يفتحون القلوب بالإيمان والعلم. أما الفتح العسكري فيتم بواسطة الجند الذين يرتحلون بعد نجاح المهمة العسكرية فلا يحققون شيئا في الواقع إلا فتح الأرض التي تنقض عليهم فور انسحابهم1616- نادية محمود مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات، ص”50″..
3- لا شك أن قيادة “قتيبة بن مسلم” الفذة وخططه العسكرية المحكمة، ودعم القيادة العليا له -ممثلة بالحجاج في العراق، والخليفة عبد الملك، ثم ابنه الوليد في الشام- إضافة إلى ما كان من طاقات إيمانية عند الجند: جعل النصر حليف المسلمين في هذا الميدان، وقد ساعد ذلك -مع المعاملة الطيبة لأهل البلاد- على تحويل المنطقة إلى دار إسلام1717- د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين ص”227″..
وبوفاة “قتيبة بن مسلم” توقفت فتوحات المسلمين على هذه الجبهة عند الحد الذي تركها هو عليه، ذلك أنه لما تولى “يزيد بن المهلب بن أبي صفرة” على خراسان -ولاه عليها الخليفة سليمان بن عبد الملك سنة “97هـ”- وجه همه إلى فتح “جرجان” و”طبرستان”، ولم يكن المسلمون قد وطأوا أيهما من قبل، وذلك حتى يحقق فتحا يغبط سليمان كما كانت نجاحات “قتيبة” تغبط الوليد. ولقد استطاع “يزيد” أن يفتح “جرجان” بالفعل صلحا، ثم توجه إلى “طبرستان”، ولكن نقض أهل “جرجان” عهدهم، فعاد وحاربهم وفتحها هذه المرة عنوة1818- تفاصيل الأحداث في تاريخ الطبري “6/ 541-544”..
ولقد ظل الجهاد والاستعداد للغزو قائما في هذا الجانب من العالم إلى نهاية حكم بني أمية، ومما يلاحظ في هذا الميدان أن الترك الذين ظلوا ينزلون خارج دائرة سلطان المسلمين من بلاد ما وراء النهر كانوا -بعد فتوحات قتيبة بن مسلم- لا ينفكون يهجمون على المناطق التي دخلت في سلطان المسلمين، ويحرضون أهلها على الثورة والعصيان، فكان المسلمون يقومون بإخضاعهم وإعادة البلاد إلى الطاعة1919- راجع تفاصيل معارك ما بعد قتيبة بن مسلم إلى أواخر عصر بني أمية في ميدان “ما وراء النهر”: تاريخ الطبري “6/ 605، 607، 7/ 8، 14، 65، 71، 113، 114، 176، 192” وفتوح البلدان للبلاذري، ص “301، 519، 525، 527”. تاريخ اليعقوبي “2/ 302، 524”..
ولا شك أن هذا الميدان كان من أشد الميادين قتالا، ولم يكن دار حرب أشد من بلاد الترك، ولكنها تحولت بعد الجهود المتوالية إلى دار إسلام، وأصبحت في فترة تالية كعبة العلم والعلماء، ونشأت فيها مراكز علمية وحضارية مثل: بخارى، وبلخ، وسمرقند، ونيسابور، وهراة، ومرو، والري، وجرجان، وسرخس، وطبرستان، وغيرها. وخرجت هذه المدن عددا هائلا من العلماء استضاءت بهم الأمة، وملأت أسماؤهم سمع الدنيا وبصرها. واليوم تتوزع هذه البلاد بين إيران وأفغانستان. أما الجزء الأكبر منها فيقع في الجمهوريات الإسلامية الخمسة في آسيا الوسطى فازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجكستان، وقيرغيزيا2020- انظر: كتاب “حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة” للدكتور جميل عبد الله محمد المصري “ط مكتبة العبيكان -الرياض 1996م”..
الهوامش
1- د. محمد عبد الحميد الرفاعي: الطابع الإسلامي للدولة الأموية “ص213”.
2- د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين “ص219” ط دار الفرقان، عمان، الأردن، 1999م.
3- د. نادية محمود مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات “ص7-8”.
4- نادية مصطفى: المرجع السابق ص (8) .
5- د. محمد محمد عامر: عصر الخلافة الأموية بداية التغييرات في التاريخ الإسلامي “ص162”.
6- راجع “معجم البلدان” لياقوت الحموي -مادة “هيطل”.
7- راجع: مسالك الممالك، للاصطخري ص”295″.
8- أطلس التاريخ الإسلامي للدكتور حسين مؤنس ص “130-131″.
9- راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص”222، 224″، وفتح البلدان للبلاذري، ص”507، 509”.
10- الدولة الأموية دولة الفتوحات، نادية محمود مصطفى “ص48”.
11- تاريخ خليفة بن خياط “ص279″، تاريخ اليعقوبي “2/ 273″، فتوح البلدان ص”511-514″، تاريخ الطبري “6/ 320، 325”.
12- د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي- ص30-31”.
13- راجع: د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “موسوعة سفير 2/ 31”. أطلس تاريخ الإسلام للدكتور حسين مؤنس “ص131”.
14- راجع: تفاصيل الحروب والمعارك التي خاضها قتيبة في بلاد ما وراء النهر: تاريخ الطبري “6/ 425، 432، 436-437، 455، 463، 470، 473، 480، 503، 504” فتوح البلدان للبلاذري “ص516، 518، 521، 522”. تاريخ اليعقوبي “2/ 287”.
15- د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: العصر الأموي “الجزء الثاني من موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي -ص31″.
16- نادية محمود مصطفى: الدولة الأموية دولة الفتوحات، ص”50″.
17- د. محمد ضيف الله بطاينة: دراسات في تاريخ الخلفاء الأمويين ص”227”.
18- تفاصيل الأحداث في تاريخ الطبري “6/ 541-544”.
19- راجع تفاصيل معارك ما بعد قتيبة بن مسلم إلى أواخر عصر بني أمية في ميدان “ما وراء النهر”: تاريخ الطبري “6/ 605، 607، 7/ 8، 14، 65، 71، 113، 114، 176، 192” وفتوح البلدان للبلاذري، ص “301، 519، 525، 527”. تاريخ اليعقوبي “2/ 302، 524”.
20- انظر: كتاب “حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة” للدكتور جميل عبد الله محمد المصري “ط مكتبة العبيكان -الرياض 1996م”.
المصدر
كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د. طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ1-17.