لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها؛ ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه..

اكتساح المغول للقوى الإسلامية

في منتصف عام 758هـ (1260م) بعث هولاكو من الشام برسله يحملون رسالته المشهورة إلى سلطان مصر المملوكي سيف الدين قطز..

كان هولاكو في قمة انتصاراته.. وكان المغول قد اكتسحوا القوى الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غربًا.. ما من قيادة إسلامية من أواسط آسيا وحتى أطراف سيناء، إلا وأذعنت لهم طوعًا أو كرهًا.. وكان السيف الوثني المغولي يعلو على السيوف، وكان الرأس الذي لا ينحني له يُطاح به في التوّ واللحظة.. وحتى أولئك الذين اختاروا السلامة ولووا رءوسهم عجزًا عن المجابهة وهروبًا من الموت.. وقعوا في مصيدة الموت التي كان المغول يتفننون في نصبها، وفي تعذيب خصومهم وهم يتقلبون في شباكها.

المصير المفجع للخوارزميين والعباسيين

والذي حدث في بغداد معروف.. ومعروف أيضًا المصير المفجع الذي آلت إليه أكبر قوتين إسلاميتين في المشرق: الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق..

سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي.. وصراع الحياة والموت يعرض مشاهده الدامية في مساحات واسعة من الأرض، شهدت جهات ما وراء النهر وشمالي الهند وبحر قزوين وشمالي العراق والجزيرة الفراتية والأناضول بعضًا منها..

وعبثًا حاول السلطان أن يتصل بالأمراء المحليين من إخوانه المسلمين في سبيل تشكيل جبهة إسلامية موحَّدة لمقاومة السيل الزاحف؛ لأنه -هو- عبر سنوات حكمه الطويلة قد مارس خطيئة التمزيق والتفتيت وإشعال نار الخصومة والعداء بين القيادات الإسلامية بعضها ضد بعض.. وأخيرًا استسلم لليأس وتخلف عنه كثير من أنصاره، ووجد نفسه في قلة من أصحابه وحيدًا غريبًا، مطارَدًا في جبال ديار بكر.. ويذكر معاصروه كيف أن البكاء كان يغلب عليه في الليل والنهار، وكيف أنه هرب إلى الخمر يختبئ وراء غيبوبتها من شبح النهاية القريب.. وما لبث أحد سكان المنطقة أن طعنه بسكين وقضى عليه.

وأما العباسيون فأمرهم معروف.. وما شهدته بغداد حاضرة المسلمين الكبرى، غدا مثلاً يضرب على مداولة الأيام بين الناس.

ولكن ما شأن الإمارات المحلية؟

لم يكن مصيرها -بطبيعة الحال- بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى.. بعضها هادن ونافق ودعا إلى السلم وهو في مواقع الضعف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وقف الوقفة التي تقتضيها كرامة المسلم، ولقي من صنوف الأذى ما يشير إلى بشاعة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرعب في قلوب الخصوم..

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرّ قتلة، إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعًا ويدفعون بها إلى فمه حتى مات! ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في بلاد الشام. وكان يتقدم الموكب مغنون وطبالون، وأخيرًا علِّق في شبكة بسور أحد أبواب دمشق، ويقال إنه بقي هناك حتى تحرير المدينة من قبضة الغزاة.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد وألقي في الشمس حتى تحول الدهن إلى ديدان بعد أسبوع، فشرعت الديدان تأكل جسده حتى مات على تلك الصورة البشعة بعد شهر.. أما ابنه الذي كان طفلاً في الثالثة من عمره فشقوه نصفين على ساحل نهر دجلة على مرأى من الناس.. وغير هؤلاء كثيرون لقوا مصارع لا تقل شناعة وبؤسًا، وما جرى في مدن الجزيرة الفراتية وشمالي الشام يعد واحدًا مما شهدته الكثير من المدن والإمارات على مدى المشرق الإسلامي كله.

الانكسار من الداخل

كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحًا نفسيًّا خطيرًا: الرعب الذي كان ينقض على خصومهم من الداخل فيهزمهم قبل أن تلتمع السيوف أمام عيونهم.. إنه السيف الأكثر حدة، والذي كان يذبح فيه القدرة على الحركة.. لقد كان المسلمون يومها يعانون من شلل تام أو نصفي أفقدهم الأرجل التي يسيرون عليها والأيدي التي يضربون بها..

رسالة هولاكو لسيف الدين قطز

في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دمًا وأصداء المعارك التي أثار نقعها سيل لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة، بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي سيف الدين قطز.. وكان الطاغية يعرف جيدًا خلفية الرعب والانهزام التي رسمتها العقود الأخيرة على مدى خارطة عالم الإسلام وفي أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلماتها..

قال: “مِن ملك الملوك شرقًا وغربًا، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ومن الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلّطنا على من حلّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟! وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص؛ فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا ولا كافيًا ولا حرزًا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم”.

فمن اختار الجهاد يصحبني!

كانت الرسالة بمنزلة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.

كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..

ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام؛ لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..

وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته، فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.

قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.

قطز: ماذا ترتئون؟

ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيز خان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرءوس، وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعددًا من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!

قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خرابًا يبابًا، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خرابًا تامًّا كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحدًا من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر؛ ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفرًّا إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة.

قيمري: وليس هناك مصلحة أيضًا في مصالحتهم؛ إذ إنه لا يوثق بعهودهم!

عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..

قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعًا إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلاَّ فلن نكون ملومين أمام الخلق.

الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا -قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.

أيّد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رءوسهم على باب زويلة أيامًا.. ورفع رأسه متحديًا بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال “جهادًا في سبيل الله، ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم”..

وإذ رأى ترددًا وجبنًا ونكوصًا من عدد من الأمراء، ألقى كلمته المؤثرة: “يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته؛ فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين”.

وما كان للأمراء جميعًا، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!

اليوم الفصل

انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غربًا، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.

كان كتبغا في بعلبك، فتجهز على الفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني، ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.

عين جالوت مصيدة المغول

عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازًا الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول/ سبتمبر عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريبًا منه. وكان قطز يعرف جيدًا تفوق جيشه في العدد على العدو؛ ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيرًا. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيدًا بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!

تحرير بلاد الشام وفلسطين

توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال، وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عددًا كبيرًا، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة، وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يومًا أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقامًا لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.

لقطات من المعركة

تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر، ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!

أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين، رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!

أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.

عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: “واإسلاماه”!! وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره.

مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانيًا أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديدًا، فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: “واإسلاماه! (ثلاث مرات) يا الله انصر عبدك قطز على التتار!”. فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!

كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سُرّ الناس به سرورًا كثيرًا وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مرارًا بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!

لما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا عَظُم عليه؛ فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..

وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:

هلك الكفرُ في الشآم جميعًا *** واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ

بالمليك المظفر الملـك الأو *** رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ

ملك جاءنا بعزم وحـزم *** فاعتززنـا بسحـره وببيضـهِ

أوجب الله شكر ذاك علينا *** دائمًا مثـل واجبات فروضِـهِ

الأرقام التي يريدها الله ورسوله

فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عمومًا..

ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسمًا بين قوتين متقابلتين: الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصار الإسلام على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..

ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات، والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.

وها هنا -أيضًا- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفًا من الشواهد على هذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..

نظرة المستشرقين لمعركة عين جالوت

وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه (الحروب الصليبية) يقول: “تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له، فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب. ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى، ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً؛ إذ إن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية؛ لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائيًّا من أعداء الدين”.

ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.

ومهما يكن من أمر، فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الدرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن -في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي، ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.

وليس ثمة غير الوحدة من طريق

إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الإذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاءوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك.

وهناك البعد الحضاري

وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.

هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء، وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها.

آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ

لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها؛ ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت على القوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلّمت الناس عمومًا والناس خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديرًا على تحقيق المعجزات.

واليوم وقُوَى الضلال المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للإطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..

فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسبٍ تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ.

المصدر

” عين جالوت .. الواقعة والمغزى” د: عماد الدين خليل، باختصار يسير، موقع مجلة الفسطاط التاريخية، نقلاً عن مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401هـ.

اقرأ أيضا

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك

تيمور لنك .. انهيار الحضارة وتأخير الثورة الصناعية للمسلمين

 

التعليقات غير متاحة