من أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ، ويعبدوه حق عبادته ، ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا له سبحانه ويدعونه بها.
من أسماء الله الحسنى: [القدوس]
جاء ذكر اسمه سبحانه (القدوس) مرتين في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) [الحشر: 23].
وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجمعة: 1].
وجاء في السنة دعاؤه صلى الله عليه وسلم به في ركوعه وسجوده في الصلاة؛ فعن عائشة- رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)1(1) مسلم (487)..
المعنى اللغوي لهذا الاسم الكريم
القدوس له معنيان في اللغة:
الأول: أن (القدوس) فعول من القدس وهو الطهارة. والقدس بالتحريك: السطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتقدس منه أي: يتطهر منه. وجاء في لسان العرب: ولهذا قيل: بيت المقدس أي: البيت المطهر.
والمعنى الثاني: أن القدس: البركة، والأرض المقدسة أي: المباركة والقدوس: على وزن (فعُول) بالضم من أبنية المبالغة2(2) انظر النهاية لابن الأثير 5/23، اللسان 5/3549..
المعنى في حق الله عز وجل
فقد قال ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى – عند قوله تعالى: «(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة: 30]، أي: «ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك، ونقدس لك، ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك»3(3) تفسير الطبري 1/167..
وقال البيهقي: «هو (الطاهر) من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد. وهذه صفة يستحقها بذاته»4(4) الاعتقاد للبيهقي ص 54..
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: « (القدوس): المنزه من كل شر ونقص وعيب كما قال أهل التفسير: هو (الطاهر) من كل عيب المنزه عما لا يليق به وهذا قول أهل اللغة. وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة»5(5) شفاء العليل 2/510..
وقد ذكر – رحمه الله تعالى – هذا الاسم الكريم في نونيته حيث قال:
هـذا ومن أوصــافه القـدوس ذو التنزيه بالتعظيم للرحمن6(6) نونية ابن القيم البيت (3322)..
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: «ومن أسمائه (القدوس) (السلام) أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها، وعن أن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه، أو يماثله أحـد في شيء مـن الكمــال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 4]، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)[مريم: 65]، (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا) [البقرة: 22]، فـ (القدوس) كـ(السلام) ينفيان كل نقص من جميع الوجوه، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه، لأن النقص إذا انتفى ثبت الكمال كله»7(7) تفسر السعدي 5/487..
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القدوس)
محبة الله عز وجل
1- محبته سبحانه وتعظيمه وإجلاله، لأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال والجلال، والمنزه عن النقائص والعيوب؛ ومن كان هذا وصفه فإن النفوس مجبولة على حبه وتعظيمه، وهذه المحبة تورث حلاوة في القلب، ونورًا في الصدر، وهذا هو النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم.
تنزيه الله عز وجل عن النقائص والعيوب
2- تنزيهه سبحانه في أقواله وأفعاله وأسمائه وصفاته عن كل نقص وعيب، والتعبد له سبحانه بذلك. ولهذا التنزيه صور كثيرة منها:
تنزيهه سبحانه عن مشابهة مخلوقاته
أ- إثبات ما أثبته الله سبحانه لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وتنزيهه – سبحانه وتعالى – عن مشابهة أحد من خلقه في ذلك.
قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، وليس من التنزيه والتعظيم والتقديس لله تعالى أن تنفي عن الله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال.
ففي الآية الكريمة ينفي سبحانه عن نفسه الشبيه والمثيل، ويثبت لنفسه السمع والبصر من غير تمثيل ولا تشبيه.
تنزيهه سبحانه عن الشريك والصاحبة والولد
ب- تنزيه الله – عز وجل – عن الشريك، والأنداد، والصاحبة، والولد فهو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وحده لا شريك له تعالى الله عما يقول الظالمون المشركون علوًا كبيرًا.
قال الله – عز وجل -: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) [الأنبياء: 26]، وقال سبحانه: (سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [النساء: 171]، وقال تبارك وتعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) [الإسراء: 111].
وقال – عز وجل -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ) [النحل: 57]، وقال تبارك وتعالى: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31].
تنزيهه سبحانه عن الشريك في الحكم والتشريع
جـ- التحاكم إلى شرعه سبحانه والحكم به، والرضى به، والتسليم له إذ أن من رفض التحاكم إلى شرع الله – عز وجل – أو رأى أن المصلحة في غيره فإنه لم يقدس الله – عز وجل – ولم ينزهه عن النقص. ولذا نزه سبحانه نفسه عن شرك من أطاع المخلوقين في تحليل ما حرم الله – عز وجل – أو تحريم ما أحله.
قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة: 31].
تنزيهه سبحانه عن كل ظن لا يليق به
د- البعد عن ظن السوء برب العالمين لأن ظن السوء بالله تعالى يقدح في تنزيهه سبحانه والذي هو موجب اسمه سبحانه (القدوس)، وقد فضح الله سبحانه أقوامًا من الكفار والمنافقين، بقوله – عز وجل -: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [آل عمران: 154]، وقال عنهم أيضًا: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)…..الآية [الفتح: 6].
فكل ظن لا يليق بحمده وحكمته ورحمته وعلمه فهو سوء ظن بالله تعالى، وبالتالي فهو قدح في موجب اسمه سبحانه (القدوس). ويعلق الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – على آية الفتح الآنفة الذكر مستعرضًا بعض صور سوء الظن بالله تعالى المنافية لتنزيهه سبحانه فيقول: «وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِه العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، وخلاف ما يليقُ بحكمته وحمده، وتفرُّده بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذي لا يُخلفُهُ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.
بعض صور سوء الظن بالله تعالى المنافية لتنزيهه سبحانه
فمن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلُّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءٍ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرة المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله.
- وكذلك من أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمته.
- وكذلك من أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة – يستحقُّ الحمدَ عليها – وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة وغايةٍ مطلوبة هي أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديُرها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلاً: (ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27].
- وأكثر النَّاسِ يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا سَلِمَ من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاتِهِ، وعرفَ موجب حمده وحكمته، فمن قَنِطَ من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظنَّ السوءِ.
- ومن جوَّز عليه أن يعذّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَ به ظنَّ السوءِ.
- ومن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهي، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظن السوء.
- ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسنَ فيها بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السوءِ.
- ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عملَه خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يُعاقِبُه بما لا صُنعَ له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرةَ، ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به.
- أو ظنَّ به أنه يجوزُ عليه أن يؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزاتِ التي يُؤيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجرِيها على أيديهم يضلُّونَ بها عباده.
- وأنه يحسُن منه كُلُّ شيء حتى تعذيبُ من أفنى عمره في طاعته، فيخلدُه في الجحيم أسفلَ السافلينَ، ويُنعِمُ من استنفد عُمُرَه في عداوته، وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يعرف امتناعُ أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر، فقد ظَنَّ به ظن السوء.
أسوأ الظن بالله: الذين يقولون أن الهُدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه، والتمثيل
- ومن ظن به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ، لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشارات مُلْغِزةً لم يُصرح به، وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم، وقُواهم، وأفكارَهم في تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائِه وصفاتِه على عقولهم وآرائهم، لا على كتابِه، بل أراد منهم ألا يحمِلوا كلامَه على ما يعرِفُون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظنّ به ظنَّ السَّوْءِ، فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقُدرته العجز، وقال: إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّنْ، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله، فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.
- ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يَقْدِرُ على إيجاده وتكوينه، فقد ظنَّ به ظن السوء.
- ومن ظن به أنه كان مُعَطَّلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا، فقد ظن به ظن السوء.
- ومن ظنَّ به أنه لا يَسمع ولا يُبصِرُ، ولا يعلم الموجودات، ولا عَدد السماواتِ والأرضِ، ولا النجوم، ولا بني آدمَ وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوء.
- ومن ظنَّ أنه لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا عِلم له، ولا إرادة، ولا كلامَ يقولُ به، وأنه لم يُكلِّم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمرٌ ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.
- ومن ظنَّ أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنِسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يُرغب عن ذكرها، وأنه أسفلُ، كما أنه أعلى ، فقد ظنَّ به أقبح الظنِّ وأسوأه.
- ومن ظنَّ به أنه يحب الكفر، والفسوق، والعصيانَ، ويحبُّ الفساد كما يحب الإيمان،والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظنَّ به ظن السَّوء.
- ومن ظنَّ به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يُعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القُرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
- ومن ظنَّ أنه يُسوي بين المتضادَّيْن، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحبط طاعاتِ العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة، ويُحبطُ بها جميع طاعاته ويُخَلِّدُه في العذاب، كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعاتِ عمره في مساخِطة ومعاداة رسله ودينه، فقد ظنَّ به ظن السوء.
وبالجملة، فمن ظنَّ به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوء.
- ومن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا أو أن أحدًا يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء من دونه يتقرّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبح َ الظن وأسوأه.
- ومن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.
- ومن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يُعوِّضه خيرًا منه، أو من فعل لأجله شيئًا لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ.
- ومن ظنَّ به أنه يغضبُ على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظنَّ به ظن السوء.
- ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السَّوء، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.
- ومن ظنَّ به أنه يثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله.
- ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًا، ودعا من دونه مَلَكًا أو بشرًا حَيًا أو ميتًا، يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه من عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السوء، وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه.
من أقبحَ الظن وأسوأه ما يعتقده الروافض
- ومن ظنَّ به أنه يُسلِّطُ على رسولهِ محمّد صلى الله عليه وسلم أعداءَهُ تسليطًا مستَقِرَّاً دائمًا في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يُفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وصية، وظلمُوا أهلَ بيتِهِ، وسلبوهم حقهم، وأذلُّوهم، وكانت العزةُ، والغلبةُ، والقهرُ لأعدائِه وأعدائِهم دائمًا من غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرَهم لهم، وغصبهم إياهم حقَّهم، وتبديلَهم ديْنَ نبيهم، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصُرُهم ولا يُديلهم، بل يُديل أعداءهم عليهم أبدًا، أو أنَّه لا يقدِرُ على ذلِكَ، بل حصل هذا بغير قٍُدرته ولا مشيئته، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته، تُسَلِّمُ أمتُه عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضةُ، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه، سواءً قالوا: إنه قادرٌ على أن ينصرهم، ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غيرُ قادر على ذلك، فهم قادحون في قدرته، أو في حكمته وحمده، وذلك من ظنِّ السَّوء به، ولا ريب أن (الربَّ) الذي فعل هذا بغيضٌ إلى من ظنَّ به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجبُ أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسِدَ بخرق أعظمَ منه، واستجاروا من الرَّمضاءِ بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يَقْدِرُ على أفعال عباده، ولا هي داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظَنَّ إخوانهم المجوس والثَّنَوِيةِ بربهم، وكل مبطل، وكافر، ومبتدِع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه.
المسارعة بالتوبة لمن ظن بربه ظن سوء
فأكثر الخلق، بل كلهم – إلا من شاء الله – يظنون بالله غير الحق ظنَّ السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ الله، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّي، ومنعني ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره، ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنَاً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت من فتشته، لرأيت عنده تعتُّبًا على القدر وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌّ ومستكثر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم من ذلك:
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عظيمةٍ وإلا فإني لا إخَــــالُكَ نَاجِـــيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظنَّ السوءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوءِ من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين»8(8) زاد المعاد 3/90..
اقتران اسمه سبحانه (القدوس) باسمه – عز وجل – (الملك)
جاء هذا الاقتران في قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجمعة: 1]، وقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) [الحشر: 23]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الوتر: (سبحان الملك القدوس «ثلاثًا»)9(9) أبو داود في الصلاة باب الدعاء بعد الوتر (1430)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1267)..
ولعل السر في هذا الاقتران – والله أعلم – أن وصف الله – عز وجل – لنفسه بأنه (الملك) وأن من صفات هذا الملك أنه قدوس إشارة إلى أنه سبحانه مع كونه ملكًا مدبرًا متصرفًا في كل شيء، فهو قدوس منزه عما يعتري الملوك من النقائص التي أشهرها الاستبداد، والظلم، والاسترسال مع الهوى، والشهوات، والمحاباة10(10) انظر التحرير والتنوير 28/120..
الهوامش
(1) مسلم (487).
(2) انظر النهاية لابن الأثير 5/23، اللسان 5/3549.
(3) تفسير الطبري 1/167.
(4) الاعتقاد للبيهقي ص 54.
(5) شفاء العليل 2/510.
(6) نونية ابن القيم البيت (3322).
(7) تفسر السعدي 5/487.
(8) زاد المعاد 3/90.
(9) أبو داود في الصلاة باب الدعاء بعد الوتر (1430)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1267).
(10) انظر التحرير والتنوير 28/120.
اقرأ أيضا
شرح أسماء الله الحسنى (1) [الله جل جلاله]
أسماء الله الحسنى: (6،5) [الرحمن، الرحيم]
كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات