يطلب الطغاة من الخطباء اليوم قول الباطل وإشاعته في الأمة لترسيخ منهجٍ لمحو الإسلام وولاء الكافرين وتبديل الدين ونشر الإباحية. لِمنبر رسول الله شرف، ومسؤولية؛ فلو قال حقا رُفع، ولو قال باطلا فهلاكٌ وخزي.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فمن وصايا نبينا العظيم الرؤوف الرحيم بأمته قوله صلى الله عليه وسلم «إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ». (1صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 4263) وقوله صلى الله عليه وسلم: «تَعَوَّذُوا باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ، ما ظَهَرَ منها وَما بَطَنَ». (2صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم:2867)
ورغم كثرة الفتن التي مرت على المسلمين وشدتها فإنه لم تمر على المسلمين فتن كما هي اليوم في زماننا؛ ولا سيما فتنة الكلمة المسموعة أو المقروءة أو المشاهَدة، والتي يتولى كِبْرَها شياطينُ الإعلام الذي لم يمر على البشرية مثله.. فنحن نعيش حربا إعلامية بامتياز.
لذا وجب على المسلم الذي يحب لنفسه النجاة من الفتن والنجاة من عذاب الله يوم القيامة، أن يحاسب نفسه في الكلمة التي يقولها أو يكتبها ويتذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36] ويتصور موقفه العظيم بين يدي ربه يوم القيامة حين يُسأل عن كل كلمة قالها، والشهادة التي أدلى بها، ويطالَب بالبرهان عليها لأنها قد سُجلت عليه وكُتبت؛ فما عساه قائل حين يُسأل ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 19].
خصوصية نصحٍ للخطباء
وأخص بهذه النصيحة إخواني خطباء الجوامع لأقول لهم:
أولا: اعلموا أنكم اليوم في ابتلاء عظيم فيما تقولونه للأمة من حق أو باطل، وستأتون ربكم فرادى؛ فانظروا بما تَخرجون من سؤال الله عز وجل عما تقولون وبرهانَكم على ذلك.. ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾.
ثانيا: إن لم تستطيعوا قول الحق لسبب أو آخر فإياكم وإياكم أن تقولوا الباطل أو أن تشهدوا زورا.. ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ [الفرقان: 72].
ثالثا: حين تريدون الكلام عن أمر يتعلق بأشخاص أو طوائف أو جماعات تأكدوا قبل أن تتفوّهوا بشيء من ذلك أن لديكم الدليل القاطع والبرهان الساطع الذي ينجيكم يوم القيامة حين يسألكم ربكم عن ذلك.. ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾.
رابعا: عليك أيها الخطيب أن تسأل نفسك، وأنت ما زلت في دار الدنيا وقبل أن تنطق، هل أنا مستعد على إثبات ما أقول من شهادة أو حكم على الآخرين بين يدي الله عز وجل وكيف أنجو في مشهد يوم القيامة العظيم..؟
خامسا: اعلموا أنه في أزمنة الفتن تطيش الألباب والعقول؛ فترى أن الفتن قد سَلبت عقول كثير من الناس فأتَوْا بما يتنافى مع الحكمة والعقل والشرع، وتراهم يسارعون في الفتن بألسنتهم فأوبقوا أنفسهم وسعَوا في خسارتها؛ نعوذ بالله من كل كلمة نقولها وليس عندنا فيها برهان ينقذنا من سؤال ربنا حين نقوم لرب العلمين.. ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾.
سادسا: اعلموا أننا نعيش اليوم معركة محتدمة بين الحق والباطل، فدوروا مع الحق حيث دار، واحذروا أن تقولوا الباطل أو تنصروه وأنتم تشعرون أو لا تشعرون. إن خطر الكلمة اليوم ليس كأي وقت مضى إنها لَتبلغُ من الخطورة أن تتجاوز كونها معصية من المعاصي التي يُرجى لصاحبها التوبة والمغفرة إلى أن تمس محكمات هذا الدين وأصوله وعقائده، وأعني بذلك عقيدة الولاء والبراء، وذلك حين يملَى على الخطيب أن يقول في بعض إخوانه الدعاة ما لم يعرفوه فيوظَف ذلك في محاربة الدين وأهله بعامة؛ وحينئذ يجد الخطيب نفسه في خندق الظَلَمة وجها لوجه أمام إخوانه الدعاة والمصلحين وفي هذا ابتلاء عظيم.
فيا أخي الخطيب حدد موقفك، وانظر أين تصف قدميك مع الظالمين أم مع المصلحين.. “والمرء مع من أحب ووالى”.
سابعا: إن من الفقه بقواعد الشريعة ومقاصدها أن نوازن بين المصالح والمفاسد، وأن نعتني بفقه المآلات والأولويات؛ حيث أن إغفال ذلك يوقع المسلم ـ ولا سيما الخطيب الذي يتكلم في شأن الناس والحكم عليهم ـ في اضطراب وآثام لا يعلم عاقبتها إلا الله عز وجل..
فمثلا حينما يقارن الخطيب بين بعض الدعاة الذين لديهم بعض الأخطاء، وبين الظلمة المفسدين الذين يُفسدون في الأرض ولا يصلحون؛ ففي أي الفريقين يضع نفسه..؟ وكذلك إذا نظرنا إلى المعركة المحتدمة بين الحق والباطل فهل معركتنا اليوم مع الطوائف التي تدعوا إلى الله وعندهم بعض الأخطاء..؟ أم مع الذين يريدون طمس الهوية الإسلامية وسحق الإسلام وتبديل الدين..؟
ثامنا: قد يتعلل بعض الخطباء في قول ما لا يعتقد أنه حقا؛ بـ “المحافظة على المنبر وأن لا يُترك لمن يقول الباطل كله أو ينافق ولا ينتفع منه المسلمون”.
وهنا نذكّر بما سبق قوله من أن الخطيب قد يسوغ له كتم الحق لمصلحة بينما لا يجوز له أن يقول باطلا يضلل به الناس وهو يعتقد أنه باطل. إلا تحت الإكراه الملجئ. وإذا لم يمكن المحافظة على المنبر وأثره في توجيه الناس إلا بأن نقول الباطل؛ فليذهب المنبر ولتذهب المناصب ولتذهب الدنيا جمعيا، ويبقى الدين والإيمان محفوظا، لا سيما إذا كان مآل قول الباطل النفاق وموالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله وتضليل الناس. وما أحسن ما قاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «لأن أموت مؤمنا مهزولا أحب إلي من أن أموت منافقا سمينا». قال الحسن رحمه الله معلقا على هذا القول “علم أن التراب يأكل اللحم والسمن دون الإيمان”. (3إحياء علوم الدين، (1/ 69))
وأخيرا: تدبروا قول الله عز وجل: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 95]؛ فانظر هذا اليوم الذي تأتي بمفردك فيه إلى الله ليس معك وزير ولا أمير ممن أمرك بقول الباطل؛ بل سترى وتظهر حينئذ الحسرات يوم لا تنفع الحسرات.
تاسعا: إن أمامكم أيها الخطباء أيام عصيبة ستُمتحنون فيها في قول الحق أو الباطل؛ فالتطبيع مع اليهود ينتظركم، ومزيدٌ من شرعنة الفساد ينتظركم.. فانظروا ماذا تقولون.
وأذكّركم في نهاية هذه الوصايا بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: 10] وقوله صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالا، يرفعه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالا، يهوي بها في نار جهنم». (4رواه الإمام البخاري)
وفي الختام
آمل من إخواني الخطباء أن يوصّلوا هذه الوصايا لمن يعرفون من الخطباء إبراء للذمة ونصحا للأمة.. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
- صحيح أبي داود، الصفحة أو الرقم: 4263.
- صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم:2867.
- إحياء علوم الدين، (1/ 69).
- رواه الإمام البخاري.