كم تتساءل النفوس عن سبب البلاء الذي أزعجها وأثار تفكيرها وغيّر ترتيبها للحياة، ورأت أمامه عجز “الكبار” أو من تظنهم كذلك، وتوقف أنشطة ظنوها أمرا بدهيا.
مقدمة
يسأل الناس حتى يتعجب بعضهم ـ وإنما العجب منه هو ـ لماذا يزعجنا البلاء وقد كنا في اطمئنان ونظام متراتب وخطوة نعرف الخطوة التالية لها..؟
والإجابة أن السؤال خطأ؛ فالبلاء جزء من سنة هذه الحياة البشرية..
تلمّس أنواعا من الحكمة
كم ترى من حكمة رب العالمين في وقْع البلاء على النفوس.. فتصحلها أو تؤدبها أو تعلمها أو تقيم الحجة عليها..
كم من رأس متكبر لا يرغم أنفه في التراب إلا البلاء. وكم من مزهوّ بقشرة صلبة كاذبة خاطئة لا يعرّيه إلا البلاء فيظهر “الإنسان” الضعيف البسيط المحتاج الفقير مرتعش اليد المتسائل في لهفة واستفهام وفزع: ما القادم؟ وما المصير؟ وقد كان من قبل يعطي الإجابات الجاهلة في ثقة وعجرفة وجحود..!
كم من صائح معافَى يظن الأمور تجري باشتهائه؛ فيضربه البلاء على رأسه: أن أفِق.
هذا الموظف المتكبر على الخلق والمؤذي للناس، وهذا الضابط المتعالي والمتعدي على الخلق، وهذا المخطِط الماكر، وهذا الكاذب الجريء، وهذا الحاقد المحتقن بالسواد، وهذا النصاب على أموال الناس، وهذا الغشاش وذاك المترف، وذاك الذي أمَّن مستقبله فيما يدّعي، ومستقبل أولاده فيما يزعم.. من الخير لهم وللناظرين اليهم أن يروا البلاء يطأطيء رؤوسهم، ويكسّر من هيئاتهم، ويعيدهم أشخاصا يطلبون الحَوْل من صاحبه سبحانه، والقوة من ربهم تعالى.
كم من سادرٍ في الدنيا تأتيه موجة إثر موجة من الغفلات والمشاريع والأماني، حتى لَينسى أن ثمة نهاية، وأن الأمر مؤقت الى حين، وأن الحين قد يأتي بغتة، وأنه على كل حال قد اقترب..! فيأتي البلاء فيخبره بهذه الحقائق ويذيقه طعم اقترابها ويشم روائح موكبها.
سُنن تظهر آثارها
كم من معلومة تقولها بلسانك وتعقلها بعقلك، ولكن لا تذوقها بقلبك وروحك إلا لما ترى البلاء.
وكم مما أخبر الله به تستأخر وقوعه وتستبطئه أو تستبعده..! ويأتي البلاء بإجابات كثيرة أن الوعد حق وأنه آتٍ لا ريب فيه.
كم من سُنة ربانية للأشخاص وللأمم، أخبرك الله عن وقوعها فتتساءل أين هي..؟ أوَ حقٌ هي..؟ فيأتي البلاء ليقول ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ (يونس: 53).
كم من موعود زاغت الأبصار عنه أو تساءلت أو ارتابت أو تشككت.. فجاء البلاء ليرفع كل هذا دفعة واحدة، ويجلي القلب والبصر فيرى ويُبصر ويتلو القرآن بل يهرع اليه من جديد فيقرؤه كأنه أول مرة يقرؤه، ويرى جدية الخبر وعِظم الأخبار ورهبة وقوعها.
كم يحتاج المؤمن للتطهر مما تلوث به مما تقتضيه آثار بشريته وضعفه ونقصه كإنسان، فيأتيه البلاء فيمحو عنه الأذى ويغسله من الذنوب التي لو بقيت لأضرّت وآذت وساءته عاقبتها؛ فيكون في البلاء عافية..! وفي البلاء ستر..! وفي البلاء تهيئة للقاء الله.
كم يختلط الناس بين مؤمن بربه محسن للظن به عالم باسمائه وصفاته واثق من حكمته ورحمتهن يراها ويطلبها في كل حال؛ وبين مرتابين ومجرمين وجاهلين بربهم وبنقائص نفوسهم وعيوبها؛ فيأتي البلاء فيميز هذا من ذاك، ويذكّر ويعلّم؛ فمن أراد الله به الخير لحق بالأولين علما وحسن ظن وثقة بربهم ويقين.
تصاغر مكر الكافرين
وكم من صَدْر رأى إتقان الكافرين والماكرين لمكرهم وأنهم بنوا بنيانا عميق القواعد، ويضيفون اليه كل يوم مكاسب لا تتوقف، ومآرب لا تنتهي، حتى انتهوا من الأرض وغزوا الفضاء، وبعدما انتهوا من قهر شعوب المسلمين إذا بهم يلتقمون القدس، ويهْدمون الشعوب نفسها ويعيدون صياغة العقائد.. يأتي البلاء ليقول: قد يُؤتَون من القواعد..!
وعليه؛ فكم ضاق صدرٌ فما فرَّج عنه إلا مثل هذا البلاء ليرفع ما ضاق من الصدور فلا يتزاحم مكر الناس على صدره، ولا تضيق الأنفاس؛ بل يرى طلاقة القدرة والمساحة الواسعة من الحياة ومن الغيب.
قد تظن حينا ـ أو تخاف ـ أن الحق قد تجاوزته الحياة وأنه شيء هامشيّ يمكن للحياة أن تمضي بدونه..! فتأتي المطارق لتقول لك إن الحق أصيل ولا حياة بدونه، وأنها إن تجاوزته اعوجّت وتكسرت جنَباتها وهوَت وانهارت.
تملأ القرود بلادك؛ فتتعدى على دينك وتتآمر على مساجدك وتكيد لشعائرك وتسخر من شرائع الله وتعادي أولياء الله.. فيأتي البلاء فتكون عاقبته أن ينطلق الأذان في “غرناطة” بعد خمسائة عام من صمته، ويصدح في “بروكسل”، ويبكي سامعوه في “برلين”، ويكبر المؤمنون منبهرين بما يفعل الله لهم وبما يُجريه من قدَره بهم.
كم ينغلق الناس بتصوراتهم وآمالهم وأمانيهم على دارٍ أركانها الأربعة مشاهَدة ومنظورة والتسابق فيها محموم..! فيرفع البلاء رؤوسهم ويأخذ بأنظارهم الى بعيد حيث الأفق الواسع والرحب؛ الى دار أخرى، قادمة هم عنها غافلون وهم فيها يزهدون..!
تذكير بالآخرة
يأتي الغيب بخطى واثقة وقوية ومتتابعة، يقترب كل يوم وكل لحظة، ونقترب نحن اليه كذلك، في نسيان وغفلة؛ فيلفت البلاء بألمه أنظارنا اليه أنِ انتبهوا. وكأنه يقول: “أنا لست بشيء فالقادم هول عظيم فاتقوا القادم”.
إذا جاء البلاء فأزعج الناس وقال لهم “هنا قيلولة في سفر، ونومة لاستكمال الطريق، والطريق ما زال أمامكم“؛ فهذا ضروري.
خاتمة
في سياق هذا قد ترى البلاء نعمة، وقد يكون من أجَلّ النعم، وقد يكون هو سبب لحفظ النعم، وقد يكون سببا لجلب النعم في الآخرة؛ فمن ساقك الى ربك والى دار لقياه فهو محمود العاقبة.
كما يأتي البلاء ليقول لك أن الحياة والدنيا تنتظرك لتبلغهم ذلك المنهج النفيس رباني المصدر وطوق النجاة للبشرية.. ولتنظر الدنيا في يدك وتقول إنه في يدك فلماذا تتأخر في تقديمه والتقدم به؟
فمن يتساءل: لماذا البلاء؟ فقل له لأن الدنيا والبشرية والنفوس في حاجة الى ذوق لفْحته وقراءة رسائله؛ فمن اعوجَّ أصلحه سوط عذاب.
……………………………