الشرك بالله تعالى هو أعظم الظلم، وهو يتضمن الافتراء على الله، ولا يفلح مشرك، ولا ينفكّ عنه وصف الظلم؛ فمن أراد الفلاح ففي تفريد توجهه لرب العالمين.
مقدمة
تضمن كتاب الله تعالى بيانَ الحق، وبيان الطريق لرب العالمين، والتحذير من مزالق الطريق، وبيان خسارة من حاد عن الحق وافترى على ربه.
ومما بيّن تعالى في كتابه أنه أوضح للناس أعظم الحقوق عليهم، وأعظم المظالم التي يرتكبونها؛ وقد جاء ذلك غير آية، ومما جاء في ذلك قول تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [الأنعام: 21-22].
يقول السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية:
“أي: لا أعظم ظلمًا وعنادًا، ممن كان فيه أحد الوصفين، فكيف لو اجتمعا، افتراء الكذب على الله، أو التكذيب بآياته، التي جاءت بها المرسلون، فإن هذا أظلم الناس، والظالم لا يفلح أبدًا، ويدخل في هذا، كلُّ من كذب على الله، بادعاء الشريك له والعوين، أو زعم أنه ينبغي أن يعبد غيره، أو اتخذ له صاحبة أو ولدًا، وكل مَن رد الحق الذي جاءت به الرسل، أو مَنْ قام مقامهم”. (1«تفسير السعدي» (ص253))
ويقول سيد قطب عند هذه الآية:
“والظلم هنا كناية عن الشرك، في صورة التفظيع له والتقبيح، وهو التعبير الغالب في السياق القرآني عن الشرك، وذلك حين يريد أن يبشّع الشرك وينفر منه، ذلك أن الشرك ظلم للحق، وظلم للنفس، وظلم للناس، هو اعتداء على حق الله سبحانه في أن يوحَّد ويُعبَد بلا شريك، واعتداء على النفس بإيرادها موارد الخسارة والبوار، واعتداء على الناس بتعبيدهم لغير ربهم الحق، وإفساد حياتهم بالأحكام والأوضاع التي تقوم على أساس هذا الاعتدا؛ ومن ثَم فالشرك ظلم عظيم، كما يقول عنه رب العالمين، ولن يفلح الشرك ولا المشركون ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.
إن “الشرك” ألوان، و”الشركاء” ألوان، و”المشركين” ألوان.. وليست الصورة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة “الشرك” وكلمة “الشركاء” وكلمة “المشركين”: من أن هناك ناسًا كانوا يعبدون أصنامًا أو أحجارًا، أو أشجارًا، أو نجومًا، أو نارًا.. إلخ.. هي الصورة الوحيدة للشرك..!
إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله سبحانه بإحدى خصائص الألوهية.. سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات، أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها، أو كانت هي تلقّي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة.. كلها ألوان من الشرك، يزاولها ألوان من المشركين، يتخذون ألوانًا من الشركاء..!
ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعًا: كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله، لها مشاركة ـ عن طريق الشفاعة الملزمة عند الله ـ في تسيير الأحداث والأقدار”
“وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام؛ وتقديم القربان لها والنذور”
“وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم ـ عن طريق الكهان والشيوخ ـ شرائع وقيمًا وتقاليد، لم يأذن بها الله.. وكانوا يدّعون ما يدّعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله!..». (2«في ظلال القرآن» (2/ 1063، 1064))
الدروس المستفادة من الآية الكريمة
الدرس الأول: الشرك يستلزم الافتراء
لا أعظم ظلمًا ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته، وأول من يدخل في هذا الوصف “المشركون” الذين افتروا الكذب بادعائهم أن لله عز وجل شريكًا معه في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته؛ لأن الشرك بالله عز وجل ترفضه الفطرة والعقول السليمة، إذ كيف يُسوَّى بين فاطر السموات والأرض القاهر فوق عباده المدبِّر لأمر عباده في الأرض وفي السماء، كيف يساوَى بينه سبحانه وبين مخلوق ضعيف لا يخلق ولا يرزق ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عن أن يملِّكه لغيره..؟!
إن هذا والله الكذب الصراح والافتـراء العظـيم عـلى الله عز وجل ومثـله من كذّب بآيات الله المنظورة والمقروءة، والتي أقام الله عز وجل به الحـجة عـلى عبـاده.
إن هـؤلاء وأمثالهم لا أحد أظلم منهم.
الدرس الثاني: وصف المشرك بالظلم
ووصف المشرك بالظلم وتسميته “ظالمًا” لوقوعه في الظلم الأعظم، ألا وهو الشرك الأكبر، كما قال لقمان لابنه: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]. وقوله تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 254].
وذلك لوضعه العبادة في غير محلها ولغير مستحقها، ووُصف بالظلم أيضًا لأنه ظلَم نفسه ودسّاها وعرّضها لعذاب الله عز وجل والخلود في نار جهنم، كما وُصف بالظلم أيضًا لظلمه عباد الله عز وجل بتضليلهم وتعبيدهم لغير ربهم سبحانه.
الدرس الثالث: صور الظلم الأعظم
والشرك الأكبر الذي هو أعظم الظلم له صور كثيرة، ترجع في أكثرها إلى ثلاثة أنواع كبيرة:
( أ ) الشرك في النسك
كصرف أي نوع من أنواع “الشعائر التعبدية” لغير الله عز وجل؛ كالسجود والنذر والخوف والرجاء والذبح والاستغاثة وطلب الحوائج، التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
(ب) الشرك في الولاء والموالاة
وذلك بأن تكون المحبة والنصرة لغير الله عز وجل ولغير دينه وأوليائه؛ كمن يحب غير الله أكثر من حبه لله، وينصر أعداء الله على أوليائه، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّه﴾ [البقرة: 165].
وكما حذّر الله عز وجل عن تولي الكفار في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
(ج) الشرك في الحكم والطاعة والتحاكم
وهذا النوع من الشرك منه ما هو شرك في الربوبية؛ كمن جعل نفسه ندًّا لله عز وجل في التشريع والتحليل والتحريم، كما يفعله طواغيت هذا العصر سواءً كانوا أفرادًا أو مجالس برلمانية تشريعية، فهؤلاء أشركوا بالله عز وجل في ربوبيته.
ومنه ما هو شرك في توحيد العبادة والألوهية، ويقع في هذا الشرك أولئك الذين أطاعوا المشركين مع الله عز وجل فيما سنّوه من قوانين تستحل ما حرّم الله عز وجل وتحرّم ما أحله سبحانه، فيطيعونهم ويتبعونهم في هذه المحادة لشرع الله عز وجل عن علم واختيار منهم، فهؤلاء قد أشركوا في حكم الله عز وجل والتحاكم إليه، وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31].
ولما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم رضي الله عنه ـ وكان نصرانيًّا ثم أسلم ـ يا رسول الله: إنا لم نكن نعبدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه» قال: بلى، قال: «فتلك عبادتكم إياهم». (3الترمذي (3095)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3293))
يقول الله عز وجل عمن أطاع الطواغيت في تحليل ما حرم الله عز وجل : ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26].
الدرس الرابع: لا فلاح لمشرك
أن كل مشرك مهما كان نوع الشرك الذي وقع فيه، قد حكم الله عزّ وجل وقضى فيه بأنه لا يفلح لا في الدنيا ولا في الآخرة. والفلاح ضده الخسران والسقوط.
فأما “في الآخرة” فواضح وبيّن، فلا أفلح من دخل النار وعاش فيها خالدًا مخلدًّا، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
وأما “في البرزخ” وانتقاله من الدنيا إلى القبر، فقد صوّر الله عز وجل لنا عدم فلاحه وخسرانه بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ﴾ [الأنفال: 51- 52].
وأما عن حياتهم “في الدنيا”، وأنه لا فلاح لهم فيها؛ فتتمثل في حياة النكد والضيق والشقاء الذي يعيشها المشرك في الدنيا، وإن ظهر عليه ما ظهر من متاع الدنيا وفرحه بها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: 124].
خاتمة
لقد حكم الله عز وجل على أهل الشرك بعدم الفلاح في دورهم الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة.
فمن أراد الفلاح فهو في توحيد الله عز وجل، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم واتباعه، ومن طلبه في غير ذلك فهو الخسران المبين، كمن يطلب الماء من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.
……………………………………
الهوامش:
- «تفسير السعدي» (ص253).
- «في ظلال القرآن» (2/ 1063، 1064).
- الترمذي (3095)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3293).