أوضح القرآن معنى التوحيد وأركانه. وإفراد الله بالولاء أحد أركان التوحيد، وله صور يتحقق فيها، ونواقض معاصرة يجب الحذر منها.

بيان التوحيد

تضمنت سورة الأنعام تقرير التوحيد وبيان أركانه بيانا شافيا، وكرّر تعالى الآيات وصرّفها على أوْجهٍ شتى، وبيّن تعالى أصل الدين الذي يقبله تعالى ولا يقبل غيره، ليوضح للسالكين سبيل المحجة.

وزبدة القرآن ولُبّه هو توحيد الله تعالى إفراده بحقه الخالص. وسورة الأنعام دائرة على بيان هذا المعنى الكريم.

وهنا نوضح هذا المعنى، كما نوضح خصوصية ركن الولاء ومعناه.

بيان تناول سورة الأنعام لركن الولاء

عند قوله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 14].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“الرضا بالله ربًّا: ألا يتخذ ربًّا غير الله تعالى، يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه، قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 164]. قال ابن عباس رضي الله عنه: سيدًا وإلهًا، يعني: فكيف أطلب ربًّا غيره، وهو رب كل شئ؟!

وقال في أول السورة: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ﴾. يعني: معبودًا وناصرًا ومعينًا وملجأ، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

وقال في وسطها: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلً﴾ [الأنعام: 114]. أي: أفغير الله أبتغي مَن يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه، وقد أنزله مفصلًا مبينًا كافيًا شافيًا؟!

وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل؛ رأيتها هي نفس الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ رسولًا؛ ورأيت الحديث (1يقصد بذلك قوله ﷺ: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا»، أخرجه مسلم (34)) يترجم عنها، ومشتقًّا منها، فكثير من الناس يرضى بالله ربًّا، ولا يبغي ربًّا سواه، لكنه لا يرضى به وحده وليًّا وناصرًا؛ بل يوالي من دونه أولياء، ظنًّا منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك.

بل التوحيد؛ ألا يتخذ من دونه أولياء، والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.

وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله، وعباده المؤمنين فيه، فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته، فموالاة أوليائه لوْن، واتخاذ الوليّ من دونه لوْن، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه”. (2«مدارج السالكين» (2/181).)

[للمزيد: الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق (1-2)]

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“إن هذه القضية.. قضية اتخاذ الله وحده وليًّا، بكل معاني كلمة “الولي” ـ أي: اتخاذه وحده ربًّا ومَوْلىً معبودًا يدين له العبد بالعبودية، ممثَّلة في الخضوع لحاكميته وحده؛ ويدين له بالعبادة فيقدّم له شعائرها وحده، واتخاذه وحده ناصرًا يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمَّات..

إن هذه القضية هي قضية “العقيدة” في صميمها، فإما إخلاص الولاء ـ بهذه المعاني كلها ـ فهو الإسلام، وإما إشراك غيره معه في أيٍّ منها، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلبٍ واحد هو والإسلام!

وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

إنه منطق الفطرة القوي العميق؛ لمن يكون الولاء ولمن يتمحّض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السموات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السموات والأرض الذي يُطعم ولا يطلب طعامًا؟

﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. وهذه صفاته سبحانه؛ أيّ منطق يسمح بأن يتخذ غير الله وليًّا؟

إن كان يتولاه لينصره ويعينه، فالله هو فاطر السموات والأرض، فله السلطان في السموات والأرض.

وإن كان يتولاه ليرزقه ويُطعمه، فالله هو الرزاق المطعِم لمن في السموات ومن في الأرض، ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزّاق؟

ثم.. ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾؛ والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين: ألا أتخذ غير الله وليًّا، فاتخاذ غير الله وليًّا ـ بأي معنى ـ هو الشرك، ولن يكون الشرك إسلامًا.

قضيةٌ واحدة محددة، لا تقبل لِينًا ولا تميعًا.. إما إفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور، ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك.. إما هذا كله فهو الإسلام، وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك، الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.

فها هو رسول الله ﷺ يؤمر من ربه هذا الأمر.. ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله، ويدْعون رسول الله ﷺ أن يقرّهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه، والذي لا يزال يتصوره ناسٌ في هذا الزمان، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلمًا لله؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شئون الحياة، وبينما هو يخضع لغير الله، ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله..!”. (3«في ظلال القرآن» (2/1054، 1055) باختصار.)

الدروس المستفادة من هذه الآية

في هذه الآية الكريمة دروس وفوائد عظام في باب العقيدة؛ نوضح منها:

معنى “الوليّ” و”الولاية” بين الله وعبده

“الوليّ” من أسماء الله الحسنى. و”الوليّ” ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، والولاية المحبة والنصر.

وقال الزجاج: “الولي”” هو “فعيل” من الموالاة، و”الولي”: الناصر.

والولاية من الله لعباده نوعان:

أولًا: “ولاية عامة” يدخل فيها الكافر والمؤمن، بمعنى أنه سيد المخلوقات ومالكهم وخالقهم ورازقهم ومعبودهم الحق!

ثانيًا: “ولاية خاصة” وهي لعباده المؤمنين، وهي ولاية المحبة والتوفيق والنصرة.

أما ولاية العبد لربه، فهي ولاية افتقار وعبودية واستعانة؛ فلا يجوز اتخاذ غير الله وليًّا، أي معبودًا وحَكَمًا أو ناصرًا ومُعينًا. ومن اتخذ غير الله وليًّا بهذا المعنى فقد خُذل وخاب، وأشرك مع الله عز وجل غيره، لأن معنى الآية: قل أغير الله اتخذ معبودًا وحاكمًا ووليًّا أحب ما يحب ومن يحب، وأبغض ما يبغض ومن يبغض؟!

من صور اتخاذ غير الله وليًّا

1) عبادة غيره سبحانه بأن يتوجه في صلاته وركوعه وسجوده وخوفه ورجائه وذبحه ونذره واستغاثته إلى غير الله عز وجل، فيكون معنى “وليًا” هنا بمعنى (معبودًا وناصرًا ومعينًا).

2) التحاكم إلى غير شرع الله عزّ وجل في الحلال والحرام، والحكم أو التحاكم إلى ما يخالفه من أحكام الطاغوت، وهنا يكون “الولي” بمعنى (الحاكم والمشرع).

3) موالاة أعداء الله عز وجل من الكفرة والمنافقين، وذلك بمحبتهم أو محبة دينهم ومناصرتهم ومظاهرتهم على المؤمنين، وبغْض المؤمنين وعداوتهم.

ولهذه الألوان من الموالاة والمعاداة صور متعددة، يجب على المسلم أن يحْذرها، حتى لا يقع في شرك الولاء المخرج من الملة وهو لا يشعر؛ ومن هذه الصور:

  • محبة الكافر لدينه أو بغض المسلم لدينه، وعدم البراءة من الشرك والمشركين.
  • محبة نظام الكافر وشريعته المناقضة لشرع الله عز وجل، والإعراض عن حكم الله عز وجل.
  • مناصرة الكافر بالنفس أو المال أو المشورة في قتاله للمسلمين وعداوته لهم.
  • إحلال الروابط الجاهلية محلّ رابطة التوحيد والإيمان، فيوالي ويعادي من أجل “الوطن” و”الجنس” و”القوم”، وتقدَّم هذه الروابط ـ كرابطة الإنسانية، ورابطة القومية، ورابطة الوطنية ـ على رابطة “الدين”.

ونظرًا لخطورة هذه الروابط وأثرها في هدم عقيدة الولاء والبراء القائمة على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والبراءة والخلوص من الشرك وأهله، أرى ضرورة البسط في بيان خطورة هذه الروابط، ورد الشبهات الجاهلية التي تحسنها، ولاسيما رابطة (الوطنية).

[للمزيد: حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو]

غربة مقررات الإسلام في زماننا

إن من مظاهر غربة الدين في زماننا اليوم أن تصبح أصول الإيمان والتوحيد عُرضة للأخذ والرد بين أبناء المسلمين، ويصبح المتمسك بها غريبًا تُوجَّه إليه سهام النقد ويوصف بالتشدد والتطرف، وبثّ الفُرقة في الأمة، وابتغاء الفتنة بين طوائف المجتمع في الدولة الواحدة وأبناء الوطن الواحد!

ومن هذه الأصول العظيمة التي توجَّه لها سهام الهدم والاستهجان، عقيدة الولاء والبراء؛ الولاء لله عز وجل ولرسوله ﷺ وللمؤمنين الموحدين، والبراءة من الشرك والمشركين.

ومن أخطر المعاول التي تستخدم اليوم لهدم عقيدة الولاء والبراء، مِعْول “الوطنية” حيث يُراد بها إحلال رابطة “الوطن” محل رابطة “الإخاء الإسلامي”، وذلك يُفقد الولاء والبراء بين أبناء المجتمع المسلم على أساس الدين.

[للمزيد: من القومية إلي الوطنية]

إن حب “الوطن” ومكان المنشأ والحنين إليه طبعٌ جبلّي فطري مغروس في النفوس، ولشدة مفارقة الأوطان على النفوس رتّب الله عز وجل عليها الثواب العظيم للمهاجرين في سبيله المفارقين لأوطانهم من أجله.

فهذا الحب والحنين لا ضَيْر فيه ولا لَوْم، وليس نزاعنا مع دعاة الوطنية في هذه المسألة.

إنما اللوم والانحراف والنزاع في جعل الانتماء إلى الوطن الواحد هو معيار الولاء والمحبة والنصرة لكل من يعيش تحت مظلة الوطن الواحد، ولو كان مشركًا أو منافقًا، وجعله هو المقدَّم والمكرَّم على من ليس من أبناء الوطن، ولو كان مسلمًا صالحًا تقيًّا.

“والمواطنة ـ كمفردة من مفردات النظام السياسي الغربي الذي انتشر في أوربا، ومنها إلى أمريكا، ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك؛ ترتكز على مجموعة عناصر أساسية، أهمها:

  • إحلال تقديس الوطن وتقديمه على تعظيم الله وحده.
  • إعلاء وتقديم الولاء للوطن على أي ولاء آخر حتى ولو كان الدين.
  • إحلال الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية كأساس لتجانس الجماعة السياسية”. (4نقلا عن موقع “أنا مسلم” باختصار وتصرف يسير.)

هذه هي حقيقة الوطنية، وملابسات نشأتها، وخطرها العظيم على عقيدة التوحيد، والموالاة والمعاداة فيه.

إن هذا هو ما يدعو إليه العلمانيون والباطنيون، ومَن تأثر بهم من المخدوعين من أبناء المسلمين.

تقرير معنى التسليم

لقد رسّخ الإسلام الأساس العقدي للمسلم ليخلُص قلبه لله تعالى وحده، ويحقق معنى الإسلام ومقتضى التسليم، وليفوز بالتكريم الرباني اللائق به. ومن ثم وضع الإسلام للوطن محله اللائق به و”للقوم” مكانتهم غير الغالية ولا الجافية.

فمن تخلّى أو تباعد عن مقررات منهج الله تعالى اضطربت عليه الأمور وغالى فيما لا يستحق المغالاة، وجافى ما أمر الله.

نسأل الله عز وجل أن يحيينا ويميتنا على التوحيد، وأن يتوفانا طيبين، وأن يعيذنا من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.

……………………………………

الهوامش:

  1. يقصد بذلك قوله ﷺ: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا»، أخرجه مسلم (34).
  2. «مدارج السالكين» (2/181).
  3. «في ظلال القرآن» (2/1054، 1055) باختصار.
  4. نقلا عن موقع “أنا مسلم” باختصار وتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة