عموم ربوبية الله والخضوع لحكمه القدَري دلالة على وجوب الخضوع لحكمه الشرعي، من القلوب من يهتدي لهذا ومنها من يضل عنه. الآفة للقلب؛ أما الحقيقة ففي مكانها.

مقدمة

أنزل الله تعالى آياته الكريمة تعرف الناس بما يحتاجون اليه في أمر دينهم وآخرتهم، واستقامة دنياهم على منهج قويم.

وأعظم ما يحتاج اليه الخلق هو معرفتهم بربهم سبحانه. وقد بيّن هذا الكتاب العزيز ما يحتاج اليه الخلق، وعرّفهم بربهم تعالى من طريق يقيني بالوحي الكريم.

وقد رتّب عليه تعالى وجوب الخضوع العملي للمنهج المنزل والدين القيم.

لكن القلوب منها ما يخضع لربه ويستجيب له ومنها ما يتناقض. ومنها من يتعرف الى ربه ومنهم من يضل عنه. وهنا نقف على آية كريمة لبيان بعض ما فيها من المعرفة بالله تعالى وما تستوجبه على العبيد.

﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾

عند قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ (الأنعام: 3).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“تأمل كيف أتت السموات مجموعة في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ (الأنعام: 3)؛ فإنها أتت مجموعة هنا لحكمة ظاهرة، وهي تعلّق الظرف بما في اسمه تبارك وتعالى من معنى “الإلهية”.

فالمعنى: “وهو الإله، وهو المعبود في كل واحدة واحدة من السموات، ففي كل واحدة من هذا الجنس، هو المألوه المعبود”.

فذِكر الجمع هنا أبلغ وأحسن من الاقتصار على لفظ الجنس والواحد.

ولما عزب هذا المعنى عن فهم بعض المتسنّنة؛ فسر الآية بما لا يليق بها، فقال: الوقف التام على السموات، ثم يبتدئ بقوله: ﴿وَفِي الْأَرْضِ﴾ (الأنعام: 3)، وغلط في فهم الآية، وأن معناها ما أخبرتك، وهو قول محققي أهل التفسير”. (1بدائع الفوائد: ج1 صـ 117)

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:

“أي: وهو المألوه المعبود في السموات وفي الأرض، فأهل السماء والأرض متعبَّدون لربهم، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجلاله، الملائكة المقربون، والأنبياء والمرسلون والصِدِّيقون والشهداء والصالحون.

وهو تعالى يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون فاحذروا معاصيَهُ، وارغبوا في الأعمال التي تقربكم منه، وتُدْنيكم من رحمته، واحذروا من كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته”. (2تفسير السعدي، سورة الأنعام، الاية 3)

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية:

“إن الذي خلق السموات والأرض هو الله في السموات وفي الأرض، هو المتفرد بالألوهية فيهما على السواء، وكل مقتضيات الألوهية متحققة عليهما، من خضوع للناموس الذي سنه الله لهما، وائتمار بأمره وحده.

وكذلك ينبغي أن يكون الشأن في حياة الإنسان، فلقد خلقه الله كما خلق السموات والأرض؛ وهو في تكوينه الأول من طين هذه الأرض، وما رزقه من خصائص جعلت منه إنسانًا رزقه إياه الله، وهو خاضع من ناحية كيانه الجسمي للناموس الذي سنه الله ـ رضي أم كره ـ يعطَي وجوده وخلقه ابتداء بمشيئة الله، لا بمشيئته هو ولا بمشيئة أبيه وأم؛: فهما يلتقيان، ولكن لا يملكان أن يعطيا جنينًا وجوده..!

وهو يولَد وفق الناموس الذي وضعه الله لمدة الحمل وظروف الولادة..!

وهو يتنفس هذا الهواء الذي أوجده الله بمقاديره هذه، ويتنفسه بالقدر وبالكيفية التي أرادها الله له، وهو يحسّ ويتألم، ويجوع ويعطش، ويأكل ويشرب.. وبالجملة يعيش.. وفق ناموس الله، على غير إرادة منه ولا اختيار؛ شأنه في هذا شأن السموات والأرض سواء.

والله سبحانه يعلم سره وجهره، ويعلم ما يكسب في حياته في سره وجهره.

والأليق به أن يتبع ـ إذن ـ ناموس الله في حياته الاختيارية ـ فيما يتخذه من تصورات اعتقادية، وقيم اعتبارية، وأوضاع حيوية ـ لتستقيم حياته الفطرية المحكومة بناموس الله، مع حياته الكسبية حين تحكمها شريعة الله، ولكيلا يناقض بعضه بعضًا، ولا يصادم بعضه بعضًا، ولا يتمزق مزقًا.. بين ناموسين وشرعين: أحدهما إلهي، والآخر بشري، وما هما بسواء”. (3في ظلال القرآن، ج2 صـ 1030 ـ 1031)

الدروس المستنبطة من هذه الآية

عموم ألوهية الله تعالى

هذه الآية كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ (الزخرف: 8)

وفي هاتين الآيتين دليل على شمول عبوديته سبحانه لكل مخلوق في السموات والأرض؛ فكلهم عبيده، وكلهم خاضعون لربوبيته، والصالحون من عباده خاضعون لألوهيته، خاضعون لحكمه القدَري والشرعي.

وفي هاتين الآيتين رد على الأفّاكين المخذولين من عباد الله عز وجل، المنادين بفصل الدين عن حياة الناس في الأرض؛ حيث زعموا أن ألوهية الله عز وجل وعبادته وحده تكون بين العبد وربه، ولا دخل لدين الله عز وجل وشرعه في حياة الناس على هذه الأرض! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ (الكهف: 5).

والله الذي ألوهيته في السماء يخضع لها سكان السماء هو سبحانه الذي في الأرض إله، الألوهية التي يجب أن يخضع لها سكان الأرض، فلا يشركون بعبادته أحدًا ولا يشركون في حكمه أحدًا، لأن هذا هو مقتضى كونه إله من في السماء وإله من في الأرض.

نفي تصور القلوب المريضة

زعمت الجهمية وأهل الحلول أن معنى هذه الآية أن الله تعالى كائن في السموات والأرض، وقالوا: إن الله في كل مكان.

وهذا زعم باطل، وهو سبحانه أعلى وأجَلّ، وتنزّه سبحانه عن قولهم، فهو سبحانه بائن من خلقه، مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه، غير حالٍّ ولا متحد بشيء من خلقه، وليس في الآية شيء مما يتعلق به المبتدعة في تقوية مذهبهم، وإنما تدل الآية ـ كما ذكر سابقًا ـ على شمول وعموم ألوهيته سبحانه لكل من السموات والأرض، وعُلوّه على خلقه، غير مشابهٍ لهم، ولا حالّ ولا متحد بهم.

ازدجار القلوب السليمة

في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أقوى رادع لمن كان له قلب سليم في الانزجار عن كل ما حرّمه الله عز وجل من المعاصي الباطنة والظاهرة، وفيها أقوى دافع للمسارعة إلى ما يحبه الله عز وجل من الطاعات الباطنة والظاهرة، لأنه سبحانه المطلع على السرائر وأعمال القلوب وعلى أعمال الجوارح والظواهر، فهو سبحانه كما قال عنه نفسه: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر: 19)

وقال تعالى: ﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 29).

خاتمة

الآية الواحدة يتكلم بها الله تعالى الى خلقه؛ فيتلقاها قلب سليم فيزداد إيمانا ويقينا ورؤية وشفافية، ويستقيم عمله وينزجر عما حرَّمه ربه، ويسارع الى مرضاته.

ويتلقى قلب مريض الآية نفسها؛ فإذا به لانحراف طبعه يفهم منها ما لم تدل عليه، ويزداد مرضا وانحرافا ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾. (الآية: 44)

…………………………………

هوامش:

  1. بدائع الفوائد: ج1 صـ 117.
  2. تفسير السعدي، سورة الأنعام، الاية 3.
  3. في ظلال القرآن، ج2 صـ 1030 ـ 1031.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة