للإسلام تصوره الحق للدنيا والآخرة، وهو تصور تمتد معه الحياة وتتسع، وبه تكون إيجابية المؤمن ضد الانحراف والظلم، وطمأنينة نفسه برجاء لقاء الله.

مقدمة

في كتاب الله بيان الحقائق التي يبحث عنها “الإنسان” ليعرف طريقَه وغاية وجوده. ومن أهم ذلك معرفة بقية الرحلة ونهاية الطريق. وفي الآيات المختارة هنا حديث عن الآخرة وأنها الجزء الأكبر من الحياة..! مهما أنكرها منكِر وتعامى عنها من أغفل الله قلبه عن ذكره.

قال تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: 29- 32].

محورية الآخرة في العقيدة الإسلامية

قال سيد قطب، رحمه الله تعالى، عند هذه الآيات كلامًا بديعًا أقتطف منه قوله:

“وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية، التي جاء بها الإسلام؛ والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية.. والتي لا يقوم هذا الدين ـ عقيدة وتصوّرًا، وخُلقًا وسلوكًا، وشريعة ونظامًا ـ إلا عليها، وبها.

إن الحياة ـ في التصور الإسلامي ـ تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة ـ فترة الحياة الدنيا ـ وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!

وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ دارًا أخرى: جنة عرضها كعرض السموات والأرض؛ ونارًا تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين!

بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجُحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا..!

ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النُظم.. ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصورًا واعتقادًا، وخلقًا وسلوكًا، وشريعة ونظامًا.

فالدنيا ـ في التصور الإسلامي ـ هي مزرعة الآخرة، والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير جميعًا.. كل أولئك هو زاد الآخرة، وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوّضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى.

فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدَع أهلها الحياة الدنيا تركُد وتأسَن، أو تفسد وتختل، أو يشيع فيها الظلم والطغيان، أو تتخلف في الصلاح والعمران.. وهم يرجون الآخرة، وينتظرون فيها الجزاء من الله؟” (1«في ظلال القرآن» (1608-1072) باختصار)

السلبية انحراف عن عقيدة الآخرة

“إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين، ويدَعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا ـ مع ادعائهم الإسلام ـ فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة، فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيًّا، أو متخلفًا، أو راضيًا بالشر والفساد والطغيان.

والنماذج الكبيرة التي تمثل التصور الإسلامي في أكمل صورة، لم تكن سلبية ولا انعزالية؛ فهذا جيل الصحابة كله؛ الذين قهروا الشيطان في نفوسهم، كما قهروه في الأنظمة الجاهلية السائدة من حولهم في الأرض؛ حيث كانت الحاكمية للعباد في الإمبراطوريات.. هذا الجيل الذي كان يدرك قيمة الحياة الدنيا كما هي في ميزان الله، هو الذي عمل للآخرة بتلك الآثار الإيجابية الضخمة في واقع الحياة، وهو الذي زاول الحياة بحيوية ضخمة، وطاقة فائضة، في كل جانب من جوانبها الحية الكثيرة». (2المصدر السابق)

الدروس المستفادة من هذه الآيات

بيان حقيقة الدنيا والآخرة في ميزان الله

الدرس الأول في هذه الآيات بيان حقيقة الدنيا والآخرة في ميزان الله عز وجل ، وذلك أن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع والآخرة هي دار القرار، وأن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن أكثر الناس يلهون، ويلعبون في هذه الدنيا، ويركنون إليها، وقد أنستهم الدارَ الآخرة التي هي دار القرار وهي الحيوان، وفيها الحياة الدائمة السرمدية.

لا يستوي غافل ومنيب

الدرس الثاني أنه لا يستوي من غفل عن الآخرة أو لم يؤمن بها؛ كمن آمن بها وأناب إليها واستعد للقاء الله عز وجل فيها، إنهم لا يستوون في إدراكهم وتفكيرهم ولا في موازينهم ولا في أحكامهم واهتماماتهم.

ثمار يجدها صاحب اليقين

الدرس الثالث إن اليقين باليوم الآخر والخوف من المقام بين يدي الله عز وجل يوم القيامة يثمر في قلب المؤمن وفي سلوكه ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة، ولا يجد طعم هذه الثمار من كان في غفلة عن الآخرة والدنيا أكبر همه، ومن هذه الثمار العظيمة:

المبادرة الى العمل الصالح

المبادرة في هذه الدنيا الفانية والعمر المحدود الذي يمر كلمح البصر إلى عمل الصالحات واجتناب المنهيات كما يريد عز وجل ، والتزود من نوافل الطاعات، ما دام في الوقت مهلة قبل حلول الأجل وانقطاع العمل، والمبادرة بالتوبة من المعاصي عند ملابستها وبذل الجهد في كون الأعمال كلها والتُّروك خالصة لوجه الله عز وجل وتابعة لما شرع الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى تكون نافعة ومقبولة عند الله عز وجل.

الطمأنينة بسبب مجافاة الدنيا

الحذر من الركون إلى الدنيا وأهلها، وما يترتب على ذلك من الخوف والحزن والهلع عند فقدها وإدبارها، أو الفرح والبطر عند إقبالها، ومثل هذا الحذر يثمر في قلب المؤمن القناعة والطمأنينة وسلامة القلب من الحرص والحسد والشحناء، هذه الأخلاق الذميمة التي مصدرها الركون إلى الدنيا والتنافس والتكاثر فيها.

الصبر على مكاره الدنيا

الصبر على المصائب والمكاره في هذه الدنيا، وذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من تكفير الذنوب والثواب والأجر للصابرين يوم القيامة بخلاف مَن لا يؤمن بالآخرة أو يكون في غفلة عنها؛ فإن الجزع والتعاسة والغم والهم يخيّم عليه، وذلك لأن نظره مقصور على هذه الدنيا فحسب، ومَن كانت هذه حاله فإنه يعيش في عذاب نفسي، لا أمل له ولا رجاء.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

“وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يَقوى الإنسان على مواجهتها، إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن، وعقابها للمسيء، وإلا ابتغاء وجه الله، والتطلع إلى رضاه في ذلك والعالم الآخر”. (3في ظلال القرآن» (5/ 2895))

الدعوة الى الله والجهاد في سبيله

بذل الجهد في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله سبحانه. وهذه الثمرة وإن كانت تدخل في الثمرة الأولى؛ لأن الدعوة والجهاد من الأعمال الصالحة، ولكن يحسُن إفرادها هنا كثمرة مستقلة؛ لأن الدعوة والجهاد لهما أثر متعدٍّ في إنقاذ الناس بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور، فهما من أحب الأعمال إلى الله عز وجل ولكون الجهاد ذروة سنام الإسلام.

وكذلك في إبراز هذه الثمرة من القيام بالدعوة والجهاد عند من يوقن باليوم الآخر، ردٌ على من يرى أن الزهد في الدنيا والإنابة إلى الآخرة يعنى اعتزال الناس وترك الدنيا لأهل الفساد يفسدون في الأرض، كما هي نظرة بعض المتصوفة والمتزهدة.

إن الدنيا مزرعة الآخرة. ونظرة فاحصة في سيرة سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وهم أزهد الناس في الدنيا؛ ومع ذلك فهم أكثر الناس بلاءً في جهاد الفساد والمفسدين رحمة بالناس، ورغبة فيما عند الله من الأجر والثواب.

اجتناب المظالم

باجتناب الظلم لعباد الله عز وجل. والظلم معصية متعدية، ولا يمنع من الوقوع فيها من ظلم العباد في نفس أو عرض أو مال إلا اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يوم التلاقِ يوم الفصل بين العباد، فإذا أيقن العبد بهذا حجزه ذلك عن ظلم العباد، وتحلَّل منهم قبل موافاة الأجل.

حصول الأمن والاستقرار والألفة من الناس

فحينما يهيمن على المجتمع اليقين باليوم الآخر والرجوع إلى الله عز وجل فلا شحناء ولا حقد ولا عدوان؛ لأن مجتمعًا كهذا لا يفرط في شريعة الله العادلة الرحيمة، التي كلها مصالح للعباد، ولا يرضى بها بديلًا، وهذا كله سيضفي الأمن والأمان في مثل هذه المجتمعات، فلا أمان إلا في الإيمان، ولا سلام إلا في الإسلام، وهذا لا يعني ألا يكون في المجتمع المسلم مخالفات؛ فإن هذا لم تسلم منه العصور الزاهرة للمسلمين، ولكنها تبقى فردية وغير مجاهَر بها، وإن وقع فيها مَن يقع فإنه يبادر بالتوبة إلى الله عز وجل.

حفظ أوقات العمر وتقصير الأمل

إن طول الأمل وتضييع أوقات العمر القصير إنما ينشأ من الغفلة عن الآخرة والركون إلى الدنيا وزينتها الفانية.

سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق

لا يستوي من يؤمن بالله ويوقن باليوم الآخر ومن لا يؤمن بذلك، أو هو في غفلة عنه إنهما لا يستويان أبدًا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

إنهما لا يستويان في تفكيرهما، ولا في نظرتهما للأمور، ولا في حكمهما على الأشياء، ولا في وزنهما للأشياء والأحداث والمواقف، فبقدر ما تسمو أخلاق الموقن بالآخرة، ويسمو تفكيره وموازينه وتعلو، بقدر ما تقلُّ وترذل أخلاق الآخَر لسفالة تصوره وأحكامه وموازينه.

الفوز برضا الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه

وهذه ثمرة الثمار وغاية الغايات، نسأله سبحانه أن يمن علينا برضاه وجنته، وما يقرب إليها من قول وعمل، وأن يعيذنا من سخطه وعذابه وما يقرب إليها من قول وعمل.

خاتمة

ثمة درس أخير في هذه الآيات .. ففيها بيان الخسران الحقيقي، وأن هذا الخسران يتمثل تماما في خسران النفس بعدم يقينها بلقاء الله عز وجل المؤدي إلى عذاب الله وسخطه، وصدق الله العظيم في قوله: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 15-16].

……………………………..

الهوامش:

  1. «في ظلال القرآن» (1608-1072) باختصار.
  2. المصدر السابق.
  3. «في ظلال القرآن» (5/ 2895).

 اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة