يعيش الكثير صدمة بسبب “خذلان الأمة لغزة”، وهذه الصدمة لا تأتي إلا إذا كان الإنسان قد توقع أن الأمة ستتحرك ثم تفاجأ بخلاف توقعه. وأما من كان على وعي بالواقع فإنه لم يتفاجأ بما حصل؛ فهذا هو المتوقع تماماً؛ وذلك لأن الأمة مكبلة بقيود قديمة لم تُصنَع اليوم، وإنما صُنِعَت لها منذ عقود..
جريان الأحداث على ميزان الله وسنته وحكمته
في نفس الوقت الذي كانت تبكي فيه أمهات الأطفال الذين كان يذبحهم فرعون، كان القضاء الإلهي قد تمّ في السماء بعكس ما توحيه الصورة المشاهدة. وكان القضاء هو: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} ولكنه لم يجرِ على قياس شعور المقهورين الذين يريدون للمشهد أن ينتهي في لحظة، بل جرى على ميزان الله وسنته وحكمته، فهيأ الله الأسباب، وخلق موسى، ونجّاه من الذبح، وربّاه في قصر فرعون، وهيأه وصنعه على عينه، وابتلاه ليقوّمه، ورعاه في غربته، ثم بعثه في وجه الظالم الطاغية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} وكان مضمون الرسالة أمرين:
١- الهداية إلى عبادة الله: {وأهديك إلى ربّك فتخشى}.
٢- تحرير المستضعفين: {أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} فكذب فرعون وأبى، وأدبر يسعى فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، ثم جاء يوم الزينة، وظهر الحق، فلم يرجع، واستمر في طغيانه، وقتَل وصَلَب، وهدّد وأوعد، ثم رجع إلى قتل الأطفال مرة أخرى، ورجع المستضعفون إلى الألم فقالوا لموسى: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} والله يحلم على الطاغية، وعلى قومه، قبل أن يأخذهم أخذاً لا نجاة بعده إلى الأبد، فأخذهم بعذاب يسير تذكيراً وموعظة: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} فأبوا.
وحينها جاء عذاب الله وبأسه الذي لا يُرد عن القوم المجرمين: {فلمّا آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} وتحقَّقَ القضاء السابق للمستضعفين: {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} بعد عقود أليمة طويلة في ميزان المستضعفين، ولكنها قريبة في ميزان الله.
وفي هذه القصة عبر ودروس وفوائد ينبغي علينا اعتبارها.
والنتيجة: أنه كما كان الله قد قضى للمستضعفين بوراثة الأرض في زمن موسى ﷺ في الوقت الذي كان أطفالهم يذبحون ويقتلون؛ فإني لا أشك والله، أن الوراثة القادمة هي لهذه الأمة المستضعفة اليوم، إذا هي اتّقَت وصبرت وأدت ما عليها وتبرأت من منافقيها. {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [].
خذلان الأمة لغزة
يعيش الكثير صدمة بسبب “خذلان الأمة لغزة”، وهذه الصدمة لا تأتي إلا إذا كان الإنسان قد توقع أن الأمة ستتحرك ثم تفاجأ بخلاف توقعه. وأما من كان على وعي بالواقع فإنه لم يتفاجأ بما حصل؛ فهذا هو المتوقع تماماً؛ وذلك لأن الأمة مكبلة بقيود قديمة لم تُصنَع اليوم، وإنما صُنِعَت لها منذ عقود، بالإضافة إلى أن أسباب الغفلة واللهو قد ازدادت في السنوات الأخيرة حتى قُطعت صلة كثير من شباب الأمة بقضاياها فلم تعد محلّ اهتمام حقيقي لديهم، فلم يتربوا على معاني نصرة الدين والتضحية وكيفية التأثير والإصلاح؛ فازداد الفراغ وتعمّق الداء.
فلما حصلت الحرب في غزة أحدثت حالة هائلة من الصدمة للغافلين واللاهين والحالمين، ثم ازدادت مع الأيام بقدر ازدياد الدماء والآلام والمصائب.
بعض الحقائق التي ظهرت مع طوفان الأقصى
فالبعض لم ينكشف له زيف القوى الغربية إلا مع هذه الأحداث، فعلم أن شعاراتهم القيمية كانت كاذبة حين نزلت على المسلمين، مع أنه كان مفتوناً بهم قبل ذلك.
والبعض لم يدرك إلا الآن بأن أصحاب القدرة والقرار لن يتحركوا في مثل هذه الأحداث بل قد يكون لبعضهم دور عكسي فيها؛ وهذا ليس بجديد لمن له قدر من الوعي والاطلاع.
والبعض للتو اكتشف أن المكوّنات الفاعلة من أبناء الأمة قد تم تغييبها وإبعادها سابقا، وربما كان ممن يحاربهم بجهل قبل ذلك. ولذلك اضطرب الكثير واهتزت القلوب حين أدركَتْ حالة العجز الرهيب التي لم تُكتشف إلا الآن مع كونها كانت واضحة قبل ذلك للقلة الواعية.
ولذلك فقد كان من أهم المشاريع التي عمل عليها البعض من هذه القلة فيما قبل هذه الأحداث: صناعة المصلحين؛ نظراً لإدراكهم حجم الفراغ الرهيب في الواقع وتوقع مثل هذه الأزمات في ظل غياب المكوّنات الفاعلة.
الطوفان يحدث يقظة حقيقية واعية
على أية حال؛ هذه الصدمة حين تتحول إلى يقظة حقيقية واعية وتكون سببا لتغير حال أبناء الأمة من الغفلة واللهو والضياع إلى إدراك حقيقة الصراع، وإبصار مقدار الداء وعظم التكبيل وشدة الحرب ومن ثم السعي للإصلاح؛ فإن هذا -والله- نصر رباني عظيم لهذه الأمة ما كان ليحصل بتخطيط أو ترتيب، وأسمّيه نصراً لأن فيه قطعا لمراد الأعداء وتخييباً لسعيهم الطويل وإنفاقهم العظيم وتخطيطهم المحكم لإلهاء الأمة وتضليلها؛ فتأتي هذه الأحداث لتقطع كل ذلك؛ وهذا في ميزان القرآن نصر.
حسناً؛ وماذا بعد كل هذا الكلام؟
أولاً يجب أن نؤكد ونثبّت ونعزز هذا المعنى، وهو أن هذه اليقظة نصر يجب المحافظة عليه وتنميته، وألا تكون لحظة عاطفية فحسب.
ثم نعلم أن كل خير يمكن أن يحصل بعد ذلك فهو مرهون بتحقق هذه اليقظة أولا، ثم أزعم أن حالة الصدمة واليقظة هذه ستقود الأحرار من نخب هذه الأمة إلى مستوى مختلف للتعاطي مع المشكلات؛ والخروج بحلول جديدة ستترك أثرها الحقيقي في الواقع خلال المرحلة القادمة، فلن يتعامل أحد مع الواقع بعد الآن كمثل السابق.
ولذلك فإنه لا شك عندي أن الأمة ستقبل على صفحة عظيمة من الخير المستقبلي، الذي سيأتي عقب التفاعل الصحيح المتراكم مع هذه الأحداث والتفكير المختلف في التفاعل معها وبعدها.
الجهود الحالية والتفكير في وسائل نصرة جديدة
حسناً؛ هذا في المستقبل؛ وماذا عن الآن؟ الجهود الحالية المتفرقة التي تبذلها الشعوب المكبلة اليوم لغزة: مهمة وطيبة في حدود ما يمكن، والمطلوب استمرارها وزيادتها، والتفكير في وسائل نصرة جديدة قد تثمر بشكل أفضل، والمحافظة على الزخم بكل صوره، والضغط والمقاطعة، وعدم اليأس، والابتعاد عن الدور السلبي العقيم الذي يقوم به الكثير؛ وهو تثبيط العاملين والتقليل من قيمة الممكن الذي يقدمونه، والظن أن بيدهم تغيير المعادلة كلها بكلمة أو بقرار شخصي ومن ثم اتهامهم بالخذلان، وهذا والله من قلة الوعي، فلنتق الله في أنفسنا ولنكمل جهود بعضنا، فكلنا نسعى ونجتهد، وستثمر الجهود بإذن الله، وأعداؤنا إنما هم المثبطون والمخذلون والمشككون وليسوا الباذلين ما يمكنهم! وهذا وقت الاعتصام بالله ليثبت القلوب؛ فالبلاء شديد، وقد يطول ويشتد، ولا بد من التمسك بحسن الظن بالله، ولا يمكن ذلك إلا بفهم ميزان الله الذي بينه في كتابه ببيان سننه مع أنبيائه وأعدائهم.
ليس غريباً رؤية انحياز القوى الغربية إلى المحتلين
ليس غريباً رؤية انحياز القوى الغربية إلى المحتلين القتَلة، ولا كونهم ينظرون بعين عوراء إلى مآسينا وجراحنا؛ فلا يبصرون كل هذا الدمار الشديد والقتل للأطفال والإبادة الجماعية التي تحصل في غزة، على الرغم من كونها موثقة في كل وسائل الإعلام.
هذا كله ليس غريبا على من يعرف سبيل المجرمين من القرآن ثم التاريخ والواقع. وإنما قد يكون ذلك غريباً على من كان يراهم الأنموذج البشري الكامل، وكانت غاية أمنياته أن يدرس في بلادهم، أو يتغذى على ثقافتهم ويعيد استنساخ حضارتهم.
القضية اليوم قضية عميقة الجذور، يجب أن تستثير فينا الحمية الإيمانية، وتعيد تشكيل وعي الغافلين منّا، والأهم من ذلك أن يكون لها أثر في الرجوع الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى، وترك سبل الضياع والغفلة والتيه والتفاهات وإهدار الأعمار والأوقات، ومن ثم القيام بالمسؤولية تجاه الإسلام والمسلمين بكل ما يمكن.
ومن لم توقظه كل هذه الآلام والمآسي وتكالب الأعداء فقد لا يستيقظ بعد ذلك إلا في قبره: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.
تكالب الأعداء
مهما تكالب الأعداء، وكثرت آلاتهم العسكرية والإعلامية، ومهما فقدنا من أرواح وممتلكات؛ فإننا لا نسيء الظنّ بالله تعالى، فهو سبحانه القوي العزيز، وهو العليم الحكيم: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} ونؤمن -يقيناً- أن دائرة السوء ستكون على هؤلاء المحتلين المفسدين -قتلة الأنبياء- في الدنيا قبل الآخرة، كما قال الله لهم في سورة الإسراء: {وإن عدتم عدنا} أي: إن عدتم إلى الإفساد في الأرض عُدنا بتسليط عبادنا عليكم؛ {ليسوءوا وجوهكم}. ولا نستعجل هذه الثمرة فالله يقدّرها متى شاء.
ونؤمن يقيناً أن الله مع الصابرين، وأن الله ينصر من ينصر دينه، ولكنه يبتلي ويمحّص ويميّز الخبيث من الطيب. فأحسنوا الظنّ بالله فهو من أهم علامات الإيمان وقت الأزمات: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله}. وأما المنافقون فيظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ويقولون: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا هاهنا} ويقولون: {لو أطاعونا ما قُتلوا}. وهنيئا لمن يختارهم الله إلى جواره بعد أن كانوا صابرين ثابتين مدافعين عن دينهم ومقدساتهم.
المصدر
صفحة الأستاذ أحمد السيد.