تتبارى الأقلام في وصف المأساة، وتغفل أكثرها عن الذهاب نحو الحلول العملية والواجبات المفروضة، ولأننا هنا في ساحة “أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يسعنا أن نبقى في الكلام المكرر المعاد، ولا أن تتبارى مع القائلين والكاتبين، بل لا بد لنا أن نذهب نحو الكلام المفيد، الكلام الذي ينبني عليه عمل.

1- العلماء والفقهاء

أشد الناس محنة في هذا العصر هم العلماء، إنهم ورثة الأنبياء الذين أوكلت لهم مهمة بيان الرسالة بعد انقطاع عصر النبوة، شعارهم شعار الأنبياء من قبلهم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) ، وما تزال الأمة في كل حين تنادي عليهم أن قوموا بواجبكم في البيان والإنكار، بل في قيادة الأمة نحو التحرير، بل يشتط البعض ويفرط فيأخذ في إدانتهم وتقريعهم.

وبديهي أننا تكلم هنا عن علماء الحق والصدق لا عن علماء السوء وطلاب الدنيا بالدين فهؤلاء إنما هم جزء من العدو، وهؤلاء يستحقون كل تقريع وتأنيب وإنكار.

العلماء في عصرنا هذا مكبلون مقيدون بقيود كثيرة، وهم الآن يدفعون ثمن عصور الاستعمار الأجنبي وعصور الطغيان المحلي، حيث انتزعت من العلماء سائر مصادر قوتهم واستقلالهم، وحيث أزيحوا عن مراكز التأثير والنفوذ السياسي والقضائي والاجتماعي أيضاً. وهذه قصة طويلة لا يتسع المقام لها، ولكن القصد أن نظام الدولة المعاصر قد سلب العلماء نفوذهم وجعلهم موظفين لدى الساسة وكبلهم في كل شيء لا بقيود الأمن والخوف والسجن فحسب، بل بقيود كثيرة من الراتب وتصريح الخطابة والقاء الدروس والخروج في وسائل الإعلام ونحوه!

فمن يطالب العلماء الآن بأن يجددوا عصر ابن تيمية والعز بن عبد السلام، كمن يطالب كتائب القسام ومجاهدي الشام أن يجددوا فتوحات ابن الوليد والمثنى والقعقاع وكم من عالم نطق بكلمة حق فسيق إلى السجن أو إلى الموت، ولم يجد من الشعوب نصيرا! فمصير هذا العالم يثبط غيره عن أن يفعل مثله! فكلا الطرفين مكبل: العالم والأمة!

ومع ذلك فلا نهضة للأمة بغير العلماء، والعلماء هم أول الناس مسؤولية عن تغيير هذه الأوضاع، وهم أولى الناس بالتفكير في الحلول.. وإني لأحسب أن العلماء اليوم يحتاجون إلى عقد مجمع فقهي (ولو كان سرا، ولو كان من خلال الانترنت.. إذا لم يتيسر لهم اجتماع آمن في عاصمة ما)، ليتباحثوا في نوازل كهذه:

1- لماذا تعجز الأمة عن مد يد العون إلى أهل غزة؟

2- فإن كان هذا بسبب ضعف الأمة وخورها وانصرافها.. فلماذا؟ ومن أين تبدأ؟

3- وإن كان هذا بسبب الحكام الذين يكبلون حركتها ويمنعون الأمة من نصرة إخوانهم.. فما سبب ذلك؟ هل هو عجز وضعف منهم؟ أم هو تواطؤ وخيانة؟!

4- فإن كان عجزاً وضعفاً فما السبيل إلى تقويتهم ودعمهم وتحويل عجزهم وضعفهم إلى قوة وقدرة؟ وماذا ينبغي على الشعوب أن تفعل؟ وعلى كل واحد في مكانه أن يفعل؟!

5- وإن كان خيانة وتواطأ فما هو توصيفهم الشرعي؟ وكيف يمكن العمل على إزالتهم وإزاحتهم واستبدال غيرهم بهم؟ وماذا ينبغي عندئذ أن يقال وأن يكتب وأن يفتى به لمن يعمل في جيوشهم وشرطتهم ومخابراتهم وإعلامهم؟ وكيف يمكن للشعوب التي يرى بعضها أن لهؤلاء طاعة عليهم أن تسعى في خلعهم؟

6- وما حقيقة الموازنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على بقائهم أو على السعي في خلعهم؟ هذا والسادة العلماء هم أول من يعرف أن حساب المصالح والمفاسد لا يتوقف عند الحال بل يمتد إلى المآل. ولا يتعلق فقط بهذه المعركة أو بهذا الجيل بل يمتد إلى غيرها من المعارك والأجيال؟

7- وسواء أكان الحكام في حال عجز أو حال خيانة، فما هو موقف الشعوب من الاتفاقيات التي أبرمها هؤلاء مع الصهاينة وحلفائهم؟ هل لهم أن ينتهكوها؟ هل لهم أن يخفروا أمانهم ويستهدفوا أفراد الصهاينة ومصالحهم في كل مكان؟ وإذا فعلوا فسجنوا أو قتلوا فما حكم الفاعل وما حكم الذي يأمر ويقضي وينفذ السجن والقتل على من استهدف صهيونياً؟!

8- ما الرأي في توسيع المعركة خارج ديار فلسطين، واستهداف المصالح الصهيونية،

والمصالح الداعمة لها في كل العالم؟

9- هل يجوز للمسلمين حصار السفارات الإسرائيلية والأمريكية وتدميرها في جميع أنحاء العالم؟ أو على الأقل الاعتصام أمامها وعدم مغادرتها إلا بالتوقف عن قصف غزة؟ وما حكم من قتل وهو يفعل ذلك؟ وما حكم من قتله؟ وهل يعد هذا جهاداً في سبيل الله؟ أم فعلا أهوج؟

10- ما الرأي في عمل العاملين في الشركات الأمريكية أو التي تغلب فيها النسبة للملاك

الأمريكان، أو في شراء العلامات التجارية لهذه الشركات: سواء في الملابس أو المطاعم أو المقاهي؟

11- ما حكم المتخلف عن نصرة إخوانه المسلمين بمثل هذه الأمور؟ وهل يلزمه التوقف في الحال أم مراعاة التخلص التدريجي مما هو فيه من اتفاقيات وعقود؟ وماذا يكون الموقف إن كان كل هذا لا يكاد يؤثر في المعركة القائمة أو كان لا يؤثر في أية معركة لضعف حجم تأثير المقاطعة في هذا المنتج أو هذه السوق أو تلك الشركة والعلامة التجارية؟

12- هل يجوز لأهل غزة اقتحام الحدود المصرية طلباً للغذاء والدواء وحصولاً على المساعدات المحجوزة عنهم؟ فإذا منعوا من ذلك فهل لهم أن يقاتلوا أفراد الجيش المصري؟ وما حكم من سيقاتلهم من هذا الجيش؟

13- هل يجوز لأهل الأردن اقتحام الحدود مع إسرائيل مع ما في ذلك من الخطورة عليهم، لا من قبل إسرائيل وحدها، بل من قبل الجيش الأردني أيضاً؟ وذات السؤال يقال: في هذه الحال ما حكم القاتل والمقتول؟!

14- وقبل كل ذلك وبعده، كيف يمكن التخلص من هذا النوع من النظام الذي سلب من الأمة ومن علمائها القدرة على الفعل، وجعل كل شيء محتكراً بيد السلطة وحدها، حتى صارت الأمة كالدجاج المحبوس في الحظيرة، مهما اخترقتها الحسرة واستهلكها البكاء لا تستطيع أن تفعل شيئاً.. إن التفكير في الصيغة المعاصرة من النظام الإسلامي الذي تستعيد فيه الأمة قوتها والعلماء نفوذهم هو من أخطر ما يجب أن يشغل عقول أهل العلم.

هذه الأسئلة كلها يترتب عليها أمور كثيرة، وتفتح نقاشات أخرى في موضوعات أخرى، ولكن الخروج منها ولو بأقل قدر من الاتفاق هو مفيد للغاية في توجيه النظر الفقهي، وترشيد الخطاب الدعوي، وإلهاب الخطاب الوعظي.. وهو ضروري في توضيح وفهم الواقع المعاصر، وفي التماس الطرق وفتحها، والإشارة إلى الممكن والواجب من الأعمال وما من شك في أن أمة المليارين فيها من يستطيع أن يفعل شيئاً إذا جاءته الفتوى المناسبة، وكان هو في المكان المناسب!

إن تحت أهل العلم حشوداً من الدعاة والوعاظ والكتاب والإعلاميين، ممن يرقبون قولهم، ويستطيعون أن يعيدوه ويجددوه بوسائل وأساليب مختلفة، إن العالم الصادق لا يعرف كيف هو حجم تأثيره في نفوس المسلمين الصادقين، فإن المسلم ما إن يبصر عالما يثق بعلمه وفهمه، ويثق بدينه، إلا ويكاد أن يكون له كالمريد المطيع، يشير فيجيب، ويأمر فيأتمر.

2- العلماء التطبيقيون

إن أول ما يستفاد من معارك أمتنا، بما فيها معركة طوفان الأقصى، أننا أمة لا تفتقر إلى الباسلين والفدائيين والاستشهاديين، فالعدو المتفوق المدجج بالسلاح وبعد ثلاثة أسابيع يتخوف من الدخول إلى غزة، لكنه يسكب عليها من نيران طيرانه ما لا قبل لهم به وما لا يتسنى لأحد دفعه!

لو تخيلنا أننا استطعنا أن نشل طيران العدو، أو أن نكافئ طيرانه بطيران لنا، لكانت نتائج المعارك كلها مختلفة. فمنذ أن ظهر الطيران في أوائل القرن الماضي حتى بدأت خسائرنا تتكاثر وتزداد بسرعة وقسوة، ومع أن أمتنا استطاعت بعد التضحيات الهائلة أن تتحرر في كثير من المعارك، وأن تنتصر بالصبر وطول الأناة، فإن كثيراً من المعارك انتهى بانتصار العدو لتفوقه في الطيران!

إن أمتنا أمام تحد فظيع في مسألة الطيران، وهذه لا يقوم لها إلا علماء الهندسة والاتصالات والميكانيكا والمقذوفات ومن حولهم ممن يعملون في هذا المجال!

ونعم، مثلما نحن مكبلون في أمور كثيرة، فنحن مكبلون في ساحة البحث العلمي، سواء من جهة الإمكانيات المتاحة والخبرات الفنية، أو من جهة الخوف والرعب من السجون والمعتقلات.. ومع ذلك فلا سبيل إلا المحاولة والمقاومة والتفكير في الحلول.. لست أشك أدنى شك في أن الذي سيخترع حلا لمشكلة الطيران هذه سيخلد اسمه في الأمة بل في العالم كله لألف سنة على الأقل، وسيفتخر به حفيده بعد أربعين حفيد.. إنه سيعيد التوازن مرة أخرى بين الضعفاء والأقوياء، بين الشجعان المتشبثين بأرضهم وبين الجبناء الذين يقذفون بالنار من السماء!

والأمر هنا لا يتعلق بالطيران وحده، ربما يستطيع أن يفعلها مبرمج يخترق الشبكات أو الرادارات أو أجهزة التحكم المختلفة في التوجيه، وليس بعيداً أن يفعلها مهندس مبتدئ يهتدي إلى ثغرة ما أو إلى سلاح ما أو إلى تشويش ما، فيتمكن بذلك من شلّ هذا التفوق الجوي الملعون!

وقد يفعلها آخرون من الكيميائيين أو من غيرهم، ممن قد يستطيعون اكتشاف مادة أو تركيبة أو سلاح بيولوجي أو كيميائي يمكن أن يُحمل على رؤوس صاروخية مقذوفة، فيتيح للمقاومة أن تقذف عدوها بهذا النوع من السلاح، وتملك بهذا ورقة تفاوض بها وتساوم وتقايض: بأن أي قصف جوي للمدنيين سيقابل بقصف صاروخي بهذا السلاح البيولوجي أو الكيميائي!

إنني أكتب، ولا شك يبدو في كتابتي جهلي بالموضوع، وربما تثير بعض عباراتي سخرية المتخصصين.. ولن أدافع عن نفسي، فإنما القصد أن أثير بعض الأفكار، وأن أوجه النظر إلى أن مشكلة الطيران لن تتعلق بفنيات الطيران وحدها.

إن معارك الأمة يجب أن يحتشد فيها الجميع، وكل امرئ في مكانه أعرف وأعلم بما يستطيع أن يفعل، وهو إذا كان صادقاً وحاملاً للهم حقاً، فستنبثق في ذهنه الأفكار الغزيرة والوسائل العديدة التي يمكنه أن يفعلها، إن سائر العلوم المدنية التي تستخدم في التطبيقات المدنية كتصنيع الثلاجات والغسالات والتكييف والكمبيوتر وغيرها من الأجهزة تقوم على قوانين علمية، وهذه القوانين يمكن بقليل من التفكير أو بكثير منه أن يستفاد بها في التطبيقات الحربية لتكون سلاحاً بين يدي المجاهدين.

3- علماء العلوم الإنسانية

إن مجالات العلوم الإنسانية مثل: علم النفس والاجتماع والاقتصاد والإعلام والتربية والتاريخ والفنون بأنواعها هي من أهم وأخطر أنواع العلوم، على رغم ما يكتنفها من مشكلات داخلية ومن قيود مكبلة كالتي تفرض على الجميع.

ومع ذلك فإن المجد المجتهد المخلص في شيء من هذه العلوم يستطيع أن يفعل الكثير والخطير والمهم أيضاً، فإن الله تبارك وتعالى قد أودع في النفس البشرية قوانين وسنناً، وأودع مثلها في المجتمعات، وظهرت ثمار هذا كله في حركة التاريخ.. إن اللوحة التي يرسمها حاذق مهموم، أو بيت الشعر الذي يخرج من عقل ذكي وقلب ملتهب، أو الخطبة التي يهدر بها صادق مخلص، أو المقال الذي يكتبه بصير خبير بطبائع النفوس… إلخ! كل هذا يسهم في تحويل الآراء، وتجنيد الفدائيين، وتبصير الغافلين! وهل الفدائي البطل إلا ثمرة كلام كثير صنع نفسه وشكل عقله واختلط بروحه؟!

لكن معضلة مجالات العلوم الإنسانية هي في كثرة الكذب والوهم والخيال، وفي صعوبة التفريق بين الحق والباطل، إن الآلة التي يصنعها المهندس لا مجال فيها للوهم، فهي تعمل أو لا تعمل، وإنما مشكلة المهندس: هل يستعملها في الخير أم في الشر؟ في المهم والضروري أم في الترفيه والتمتع؟.. أما الكلام الذي يقوله عالم نفس أو اجتماع أو اقتصادي أو تربوي أو مؤرخ أو إعلامي فمعضلته الحقيقية أنه لا يمكن اكتشاف الكذب والوهم فيه إذا أُحْسِنَتْ زخرفته وصياغته.. ولهذا كم راجت من أوهام وخرافات وأكاذيب تلبست بلباس العلوم ونطق بها من يقال عنهم خبراء وأساتذة!

وهنا تأتي معضلة الأمانة: فالواجب ألا يتكلم في الشأن إلا من كان على علم بما يقول، وكان في قوله هذا صادقاً متورعاً. ثم الواجب على المستمع أن يتأمل في القائل، فلا يتبع إلا من يثق في دينه وفي علمه معاً.

4- وآخرون من ورائهم.

قد وزّع الله الأرزاق والمواهب والقدرات..سيظل العلماء في كل مجال محتاجين إلى آخرين من ورائهم، سيحتاجون إلى آخرين لم يُرزقوا موهبة العلم في أي مجال لكن رزقوا مواهب أخرى، وهذا موضع اختبار الله لهم:

1- فمن أولئك من رزق المال والقدرة على الكسب وأنعم الله عليه بالثراء، فمثل هذا عليه واجب الإنفاق والدعم والرعاية لكل هؤلاء السابقين.. فكم في بلادنا من أقعدته الحاجة والانشغال بها عن السعي في قضايا الأمة والتفكير في شأنها!

2- ومنهم من رزق الشهرة والانتشار الواسع، فمثل هذا عليه واجب التعريف بهم والدلالة عليهم وتوجيه الأنظار إليهم.. فكم في بلادنا من أذكياء أفذاذ لا يعرفون، فلو كانوا قد أتيحت لهم النوافذ المناسبة لجنت الأمة من ورائهم الخير الكثير، ومن يدري: لربما استطاع بعضهم تغيير التاريخ!

3- ومنهم من رزق علاقات كثيرة ممتدة ومتنوعة، فمثل هذا عليه واجب تيسير الطريق لهم، ليوضع كل امرئ في موضعه ويوسد الأمر إلى أهله.. فكم في بلادنا من كفاءات مطمورة مدفونة لم تستفيد منها الأمة لأنها لم تعرف أو لم تستطع أن تكون في المكان الصحيح.

4- ومنهم من رزق القدرة على الإدارة والتنفيذ، فهو قادر على أن يسمع ويفهم، ثم هو يستطيع تجسيد الأفكار في مؤسسات وشركات يعجز عن إنشاء مثلها الخبراء أصحاب الأفكار، فمثل هذا عليه واجب جمع الطاقات المتناثرة وتنظيمها.. فكم في بلادنا من متناثرين لا يعطلهم عن العمل الجاد ولا يعطل الأمة عن الاستفادة بهم إلا افتقادهم لهذا المدير!

وآخرون لا أستطيع أن أحصيهم ولا يستطيع خيال كاتب أن يجمعهم! ولكن في ما مضى إشارة كافية.

إن طوفان الأقصى، وما نراه من العظمة التي يسطرها إخواننا في فصائل المقاومة! ثم ما نراه من حمام الدم الذي يسيل، يفرض علينا طوفاناً آخر.. ذلك هو: طوفان الواجبات.

المصدر

“مجلة أنصار النبي ﷺ” ، محمد إلهامي (رئيس التحرير).

اقرأ أيضا

دروس ووصايا من ملحمة الإباء في طوفان الأقصى

فلسطين يا درّة في أيدي النخاسة

مهمة العلماء

العلماء ومسؤولية البلاغ

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

إلى علماء الأمة ودعاتها .. اتقوا اللَّهَ وكونوا مع الصّادقين

التعليقات غير متاحة