ثمة أمور تثبّت التوكل على الله عز وجل في القلب في هذه المحن المتوالية وتساقط الكثير، وانتفاش الباطل وظنه السيء بأن له سلطانا..! وريثما يسقط الباطل؛ فيجب على المؤمن تثبيت قلبه على الطريق.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فما أشد ضرورتنا في هذه الأوقات ـ أوقات النوازل والمصائب والأوبئة ـ إلى أن نعرف ربنا حق المعرفة؛ وذلك بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فهذه المعرفة تثمر آثارًا عظيمة وثمارًا طيبة في قلب العبد، وأعماله، ومواقفه، وسلوكه، وموازينه. وما هذا الضعف والهشاشة في أعمالنا القلبية وسلوكنا الذي شاهدناه في أزمة “كورونا” إلا نتيجة لضعف معرفتنا بربنا سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
خصوصية عبودية التوكل
ومن أعظم الأعمال القلبية التي لها صلة وثيقة بمعرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وهي ثمرة من ثمراتها: عبودية التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمور إليه وحسن الظن به.
فنرى أنها تتأثر طردًا وعكسًا بمعرفة الله عز وجل وأسمائه الحسنى وآثارها القلبية. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:
“التوكل من أعمِّ المقامات تعلُّقًا بالأسماء الحسنى؛ فإن له تعلُّقًا خاصًّا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات:
فله تعلُّق باسم: (الغفار، والتواب، والعفو، والرؤوف، والرحيم).
وتعلُّق باسم: (الفتاح، والوهاب، والرزاق، والمعطي، والمحسن).
وتعلُّق باسم: (المعز، المذل، الخافض، الرافع، المانع) من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه، وخفضهم، ومنعهم أسباب النصر.
وتعلُّق بأسماء: (القدرة، والإرادة).
وله تعلُّقٌ عام بجميع الأسماء الحسنى؛ ولهذا فسَّره من فسَّره من الأئمة بأنه المعرفة بالله؛ وإنما أراد أنه بحسب معرفة العبد يصح له مقام التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله عليه أقوى”. (1مدارج السالكين: 2/ 205 ط. دار طيبة)
وقفات مع آيات آمرة بالتوكل
ولكي يتبين هذا الأمر بصورة جلية نقف مع بعض الآيات في كتاب الله عز وجل، يربط فيها ربنا سبحانه بين التوكل وبعض أسمائه الحسنى التي تثمر هذه العبادة العظيمة:
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وتوكل على العزيز الرحيم* الذي يراك حين تقوم* وتقلبك في الساجدين﴾ [الشعراء:217-219].
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرًا﴾ [الفرقان:58].
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾ [إبراهيم:12].
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿فتوكل على الله إنك على الحق المبين﴾ [النمل:79].
وبالتأمل في هذه الآيات الكريمات نرى أن الله عز وجل قد ذكر لنا فيها بعضًا من أسمائه الحسنى مقرونة بالأمر بالتوكل على من له هذه الأسماء؛ لينبهنا فيها إلى عظمة هذه الأسماء وأثرها في صدق التوكل عليه سبحانه، وتفويض الأمر إليه؛ أي إن التوكل الصادق عليه سبحانه علمًا وحالًا إن هو إلا ثمرة من ثمار هذه الأسماء الحسنى.
فقه الآيات وتحقيق التوكل
والأسماء الواردة في الآيات الثلاث الأولى هي: (العزيز، الرحيم، الحي الذي لا يموت)، أما الآية الرابعة فتُنبِّه وتشير إلى أثر اليقين بمنهج الحق وصحة الطريق في قوة التوكل والثبات على الحق. ويمكن تفصيل ذلك فيما يلي:
معرفة المعنى غير قيامه بالقلب
عرَّف بعض أهل العلم التوكل بأنه: “غاية الاعتماد على الله عز وجل مع غاية الثقة به“. وليس كل من عرف معنى التوكل وعلم أركانه كان متوكلًا، بل لا بد أن يظهر ذلك في أحواله ومواقفه في السراء والضراء، وفي ذلك يقول ابن القيم، رحمه الله:
“كثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله فيظن أنه متوكل، وليس من أهل التوكل؛ فحال التوكل أمرٌ آخر من وراء العلم به، وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها وحال المحب العاشق وراء ذلك، وكمعرفة علم الخوف وحال الخائف وراء ذلك، وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها. فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوى فيه بالحقائق، والعوارض بالمطالب، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”. (2مدارج السالكين: 2/ 204، 205 ط. دار طيبة)
في اقتران أسماء الله عز وجل: (العزيز، الرحيم، الحي الذي لا يموت) بالأمر بالتوكل عليه اللطائف الآتية:
أثر معرفة اسم الله “العزيز”
من معاني اسمه سبحانه “العزيز“: الذي قد عز كل شيء فقهره، المنيع الذي لا ينال ولا يغالب؛ له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع؛ فهو الممتنِع من كل شيء ولا يمتنع عليه شيء، ولا يعجزه شيء في السماوات والأرض. وبهذه المعرفة يقوم في قلب المؤمن غاية الاعتماد على مَن هذه صفاته ونعوته، وينفض قلبه ويديه من الاعتماد على المخلوق العاجز الضعيف، الذي تنقصه القوة والعزة والامتناع.
أثر معرفة اسم الله “الرحيم”
اسمه سبحانه “الرحيم” يُنشئ في قلب المؤمن غاية الثقة بمن هذه صفته؛ فهو أرحم بعبده من نفسه ووالديه. والعلم باجتماع صفتي العزة الكاملة والرحمة التامة في الرب سبحانه لا بد أن يثمر في قلب المؤمن الصادق غاية الاعتماد عليه سبحانه، وغاية الثقة وحسن الظن به.
أثر معرفة الله بـ “الحي الذي لا يموت”
في الأمر بالتوكل على الله سبحانه الذي من صفاته: ﴿الحي الذي لا يموت﴾ سرٌ آخر من أسرار التوكل، وقوةٌ في توكل القلب على الله عز وجل؛ إذ فيه تنبيه على عدم التوكل على المخلوق الضعيف لأن مِنْ صفاته الفناء ومحدودية الحياة بموته، فكيف يكون حال من اعتمد على المخلوق إذا مات عنه وتركه..؟! فلزم على العاقل أن يتوكل على الحي القيوم الذي لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، وهو مع العبد في جميع أحواله وآنائه.
التسليم لتدبير الملِك سبحانه
وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى:
“ومن علم ان الله على كل شيء قدير وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه وأرحم منه بنفسه وأبر به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة فلا متقدَم له بين يدي قضائه وقدره ولا يتأخر.. فألقى نفسه بين يديه وسلَّم الأمر كله اليه وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعف بين يدي ملِك عزيز قاهر له التصرف في عبده بكل ما يشاء وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه؛ فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات”. (3الفوائد: 1/ 114)
التوكل، ووضوح الطريق
وسرٌ آخر في قوله تعالى: ﴿وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾ [إبراهيم:12]، وكذلك في قوله تعالى: ﴿فتوكل على الله إنك على الحق المبين﴾ [النمل:79]؛ ذلك أن مما يقوي التوكل في قلب العبد المؤمن ويجعله يعتمد بكليته على الله عز وجل، ويثق في رحمته وكفايته: يقينه بأن الطريق والمنهج الذي يسير عليه واضحٌ ومستقيمٌ كما يحبه الله ويرضاه؛ فيقينه بأنه على الهدى والحق والصراط المستقيم يزيد في طمأنينته وثباته اللذين هما من ثمرات التوكل الصادق على الله عز وجل. وعلى العكس من ذلك فإن اضطراب العبد وكثرة الشبهات في طريقه تُضعف اليقين الذي ينعكس بدوره على ضعف التوكل على الله عز وجل، وضعف الثقة بكفايته ونصرته له. وإن الله عز وجل لا ينصر ولا يكفي إلا من كان على الحق المبين، الذين هداهم الله إلى سبيله وبصَّرهم به.
خاتمة
إن قلوب المؤمنين اليوم ـ وفي كل حال ـ تحتاج الى مراجعة أمر التوكل وشأنه؛ فشدة البلاء وتوالي المحن وعظم التحديات وانتفاش الباطل وضعف المسلمين تجعلهم يتطلعون الى السماء ويراجعون صلة قلوبهم بربهم تعالى فيعظم توكلهم عليه فيكون لهم من الأثر ما يفوق قدراتهم ويخرجهم الله تعالى به من المِحن.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن توكل عليه فكفاه، واستهداه فهداه، واستنصره فنصره، واستغفره فغفر له؛ والحمد لله رب العالمين.
…………………………….
هوامش:
- مدارج السالكين: 2/ 205 ط. دار طيبة.
- مدارج السالكين: 2/ 204، 205 ط. دار طيبة.
- الفوائد 1/ 114.