ثمة اختلالات في القلوب والعقائد والمواقف أظهرتها جائحة كورونا. وثمة تناقضات في التعامل مع أمر الله وأمر البشر، ومخاوف الدنيا ومخاوف الآخرة.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

فمن علامات لطف الله بعبده وتوفيقه أن يهديه للحق والصواب في مواقفه وما يواجهه من أحداث ونوازل؛ حيث يوفقه سبحانه إلى الموازين الثابتة المتوازنة، السالمة من التناقضات والاضطرابات والميل مع الأهواء والكيل بعدة مكاييل؛ والذي هو شأن المخذولين من أهل الأهواء والشبهات.

يقول الله عز وجل عن أمثال هؤلاء: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 1-3].

وخلاصة معنى الآية أن هؤلاء المذكورين في الآية والمتوعَد لهم بالويل هم قوم بُهْتٌ؛ اتبعوا أهواءهم وجانبوا العدل وبخسوا الناس أشياءهم؛ فهم يتعاملون مع أنفسهم بالنصيب الوافر ومع غيرهم بالبخس والنقص والنصيب الأدنى.

ومثل هؤلاء تراهم يتناولون النوازل والحوادث بنفس هذا الميزان الجائر المضطرب؛ والذي من أبرز سماته التناقض وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين. مكيال مدح وإعانة وتأييد ومكيال ذم وتنفير وعداوة، وذلك في قضية أو نازلة واحدة.

ولو تأملنا أصل هذه الخصلة الذميمة لرأيناها نابعة من ضعف الاخلاص لله تعالى في التعامل مع النفس ومع الناس؛ والناشئ عن اتباع الهوى واختلال العدل والانصاف. وهي من أبرز صفات المنافقين الذين قال الله عز وجل عنهم ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ (البقرة: 14) وعن مثلهم قال صلى الله عليه وسلم: «إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه». (1متفق عليه)، والله عز وجل يحب العدل والانصاف ويكره الجور والعدوان.

الإنصاف عزيز

والعدل والميزان المستقيم من صفات المؤمنين. فقد روى ابن شيبه في مصنفه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: «ثلاث من جمعهن جمع الإيمان: الانصاف من نفسك، والانفاق من الاقتار، وبذل السلام للعالم».

وعن أبي المنتفق رضي الله عنه قال: «وُصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بمنى غاديًا إلى عرفات؛ فأتيته بعرفة، فأخذت بزمام ناقته وقلت: يا رسول الله حدثني بعمل يقربني إلى الجنة ويباعدني من النار. قال: أوَذلك أعْملك أو أنصبَك..؟ قال قلت: نعم. قال فأعقل إذًا أو أفهم: تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت وتأتي الى الناس ما تحب أن يؤتَى إليك وتكره للناس ما تكره أن يؤتَى إليك». (2رواه أحمد (23164) ، وابن ماجة برقم 3224، والترمذي برقم:  2616، وصححه الألباني لمجموع طرق في السلسلة الصحيحة (3508)) والشاهد من الحديث آخره.

وهذا الصنف من الناس عزيز اليوم؛ حيث الغالب على أوصاف الناس اليوم إما الإفراط في الحب والثناء والإطراء للأفراد والهيئات وسحب ذيل الحُسن على كل ما يصدر منهم وإما عكس ذلك  الافراط في البغض والكره والنقد وسوء الظن في الأفعال والمواقف.

أمثلة اختلال الموازين واختلاف المكاييل

والأمثلة على اختلال الموازين والكيل بمكيالين كثيرة ومتنوعة سواء منها ما كان على مستوى الأفراد أو الطوائف والجماعات أو الدول والهيئات العالمية.

وسأذكر منها في هذه الورقة إن شاء الله ما ظهر لي من ذلك في أزمة كورونا وتداعياتها وفي هذا خير ولطف من الله عز وجل وحكمه بالغة.

لقد ظهر وللأسف من التناقضات واختلال الموازين والمواقف من أزمة كورونا ما لم يُتوقع قبل حلول هذه النازلة من رقة في الدين والأخلاق، وخفة في العقول، وجهل بالشرع والواقع، وجبن خالع.. الأمر الذي يدعو إلى مراجعة الحسابات مع النفس ومع الناس ومع الواقع وإعادة النظر في واقع الدعوة والتربية حسب هذه الرؤية وفي هذا خير إن شاء الله تعالى.

ومن مظاهر الخلل واضطراب الموازيين في ظل أزمة كورونا:

التناقض بين أمراض الأبدان وأمراض الأديان

التناقض البين والانتقائية المقصودة في تناول هذه الأزمة والموقف منها بينما نجد الاحتياط الشديد والأخذ بأسباب الوقاية والاحترازات المتنوعة لتوقي ضرر هذا الفيروس وإعمال قاعدة سد الذرائع بصورة دقيقة، بل ومبالغ فيها في بعض الأحيان؛ فإنا نجد التهوين من شأن هذه القاعدة في ما من شأنه فساد الدين والأخلاق واتهام من يدعو إلى الأخذ بها في سد أبواب الفساد بالتشدد والتضييق على الناس؛ ولا سيما ما يتعلق بالمرأة والأسرة المسلمة.

فلماذا هذه الانتقائية في تطبيقات هذه القاعدة ولماذا الكيل بمكيالين ولماذا نفرق بين المتماثلات..؟ لولا الهوى وضعف العدل والاخلاص. ولا يفهم من هذا الكلام التهوين من الأخذ بالأسباب والاحترازات التي يغلب على الظن إنها تقي من شر هذا الوباء؛ بل ينبغي الأخذ بذلك؛ ولكن المقصود هنا لماذا لانكون أشد توقيًا واحترازًا وتركًا لكل ما كان ذريعة لإفساد الدين والأخلاق والفتك بهما وما يؤول إلى سخط الله وعذابه.

بين حدود الله وحدود البشر

فرضت حدود وقيود ومسافات احترازية لتوقي هذا الوباء كفرض التباعد الاجتماعي في الأسواق وأماكن العبادة وغيرها وفرض حدود زمانية للخروج من البيوت وحدود مكانية لا يسمح تجاوزها ورأينا كيف الانصياع والانضباط الصارم في عدم تعدي هذه الحدود. وهنا أذكرّ بأن لله عز وجل حدودا وحرماتٍ حذرَنا الله عز وجل في كتابه الكريم من تجاوزها أو الاقتراب منها أو تعدّيها. وفي آيتين متتاليتين من آيات الطلاق ذُكرت حدود الله ست مرات، قال الله عز وجل: ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 229 – 230)، وقال في آيه أخرى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (البقرة: 187).

والسؤال هنا: لماذا التعظيم لقرارات وحدود البشر والانضباط التام في تطبيقها؛ بينما يقابل ذلك التهوين من حدود الله وحرماته والتساهل في تعظيمها ووجود الكثير ممن يتهاون بها ويتعداها..؟

ألا يدل هذا على أن تعظيمنا للبشر وحدوده وقراراته أشد من تعظيمنا لله عز وجل وحدوده. لماذا هذا الاضطراب والكيل بمكيالين..؟؟

تناقض الأخذ بالإيمان بالقضاء والقدر

برز الاضطراب في الموازين في التعامل مع هذه الأزمة في الأخذ بالاسباب والإيمان بالقضاء والقدر. بينما نجد الانضباط والحرص الشديد على الأخذ بالأسباب في توقي هذا المرض، وهذا لا غبار عليه؛ فنحن مأمورون بتوقي الضرر والأخذ بكل ماهو مباح من الأسباب، ولكن لماذا يختلف الأمر ـ كما ذكرت ذلك في فقرة سابقة ـ إذا كان الأمر يتعلق بحفظ الدين والأخلاق..؟

لماذا بعض الناس ـ هداهم الله ـ قدريّ في أمور دنياه ومصالح جسده ويتعلق بالأسباب المؤدية إلى حفظ دنياه وصحته ويبالغ فيها؛ بينما هو جبري فيما يتعلق بدينه وإيمانه وأخلاقه؛ فلا يأخذ بالأسباب المؤديه لذلك ويترك ما يضر دينه منها..؟؟

وغاية ما يقول الهداية بيد الله عز وجل.  وهذا حق لكنه حق أريد به باطل؛ “قدري في مصالح دنياه جبري في أمور دينه وآخرته”.

ظهور حقيقة أعمال القلوب

التناقض بين ما كنا ندعوا إليه ونحن نلقي الدروس عن التوكل والإخلاص وأعمال القلوب، وبين ما نحن عليه حيث؛ ظهر لنا في هذه الأزمة أننا بحاجة ماسة إلى مراجعة ديننا وإيماننا وأعمال قلوبنا؛ كالتوكل على الله عز وجل والإخلاص واليقين والمحبة والخوف والرجاء والتسليم والتعظيم لله عز وجل.. حيث ظهر لنا من أنفسنا وممن حولنا هشاشة هذه المباني المهمة التي تقوم عليها شجرة الإيمان.

وكوننا نكتشف هذا النقص فينا فإن هذا فيه خير إن شاء الله تعالى؛ حيث أن معالجة الداء لا يأتي إلا بعد اكتشافه. فالواجب علينا تدارك أنفسنا في تقوية هذه الأعمال التي لم نكن نظن أنها على هذا المستوى من الضعف والهشاشة لولا هذه الأزمة.

اضطراب الموازين في التورع من الذنوب والمعاصي

والذنوب أنواع؛ منها الكبائر ومنها الصغائر ومنها الباطنة ومنها الظاهرة، والملاحظ على كثير منا اضطراب موازينه في تصنيف الذنوب وآثامها. ولبيان هذا الاضطراب نذكر بعض الأمثلة:

إغفال الذنوب الباطنة

يركز بعض الناس على الذنوب الظاهرة أو مما يسمى بذنوب الجوارح من اللسان واليد والرجل والسمع والبصر ويسعى لتركها، ولا سيما الكبائر منها، ويجاهد نفسه في الصغائر، ويحسب أنه بذلك قد وصل إلى مرتبة الأتقياء والورعين؛ بينما هو قد نسي أو غفل عن الذنوب القلبية الباطنة ومحاولة اكتشافها والمسارعة إلى التوبة منها، كمن انطوى قلبه على الرياء أو العجب أو الكبر أو الحسد والحقد أو ضعف التوكل والخوف والرجاء وغيرها مما يندرج كثير منها تحت الكبائر القلبية.

وهذا من اضطراب الموازين في تصنيف الذنوب والسعي للتخلص والتوبة منها (وقد ظهر هذا جليًا في أزمة كورونا) لا سيما في ضعف التوكل والمحبة والخوف والرجاء.

افتقاد الموازنات عند تضايق الاختيارات

ومن صور اضطراب الموازين عند كثير من الناس تركهم لبعض الواجبات أو وقوعهم في بعض المحرمات ظنًا منهم أن هذا من الورع وهذا يكثر عند من يجهل فقه الموازنات عند تعارض المصالح والمفاسد وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين، وشرّ الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية، فقد يدَع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدَع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يحب سماعه من الورع”. (3مجموع الفتاوى: 10/ 512)

اضطراب النظر الى الذنوب ودرجاتها والمواقف منها

ومن صور الاضطراب في تصنيف الذنوب ما نراه من مواقف بعض الناس من العصاة حيث ينظرون إلى بعض المعاصي التي تتعلق بالآداب والأعراض نظر التشنيع على صاحبها والبراءة من فعله، وقد يُهجَر ويُشهَر كمن يمس امرأة لاتحل له أو تحرش بها، ولا شك أن هذا ذنب ينبغي زجر صاحبه؛ ولكن مثل هذا التشنيع والهجر والإنكار لا نجده في ذنوب أعظم منها وأكبر؛ كمن يوالي الظلمة ويركن إليهم ويجالسهم وينحاز إلى صفهم أمام صف الدعاة والمصلحين ومع ذلك لا يجد الناس حرجًا وانقباضا  منه وتشنيعًا لفعله هذا.

وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كلامًا جميلاً حول هذه المسألة عند قوله تعالى في سورة هود: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 113-114] ؛ يقول رحمه الله تعالى:

“قال تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [سورة هود آية: 113] الآية: بعض الكفار قد يكون فيه أخلاق، مثل حاتم وعبد المطلب، فإن كان كفره بالله وإشراكه لا يشينه عندك ويغطي محاسنه، فهو من الركون إليهم، كما قال أبو العالية في الآية: لا ترضوا بأعمالهم، انتهى.

مثل كون المرأة إذا كانت زانية فسدت عند الناس ولو كان فيها أخلاق حسنة وفيها جمال وبنت رجال، وهذا العيب يغطي محاسنها كلها عند الناس؛ والإنسان قد يكون له قريب، أو رجل ينفعه، فتوعد على الركون إليهم بالنار مع أنه يقع عندنا، ولا يستنكر ولا ينتقد على فاعله.

وقوله: ﴿وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ [سورة هود آية: 114]، إذا عرفت سبب نزولها، عرفت الجهل الكثير في أكثر الناس، وعرفت أنها من عجائب القرآن، إذا جمعت بينها وبين ما ذكر الله قبلها في الركون، وتوعده عليه بالنار؛ فعظم الله أمر الركون؛ وأمره عندنا يسير هين، ولا يعاب على فاعله.

وفعل هذا الرجل الذي ذكر أنها نزلت فيه، لو يفعله عندنا رجل جيد عاب عند الناس ولو تاب؛ فينبغي للإنسان أن يعظّم ما عظم الله ورسوله، ولو كان عند الناس أمره هينًا”. (4الدرر السَنية 19/ 223، 224)

وسبب نزول الآية الذي أشار إليها الشيخ هو ما جاء في صحيح البخاري ومسلم من أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ..﴾ الآية. (5البخاري (4687) مسلم (2763))

ومن هاتين الآيتين وتعليق الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليهما ندرك مدى الاضطراب عند كثير من الناس في النظرة إلى الذنوب وتفاوت أثرها وعقوباتها، ففي الآية الأولى ﴿ولَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ…﴾ الآية. شدد الله عز وجل فيهما النهي عن موالاة الظالمين والركون إليهم ورتّب على ذلك عذاب النار وقطْع النصرة والولاية عن فاعل ذلك. بينما في الآية الثانية ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ..﴾ الآية. وبعد معرفة سبب نزولها يفتح الله عز وجل باب الرجاء والمغفرة لمثل هذه الذنوب وأن فعل الحسنة بعدها يمحها.

ولا يعني ذلك التهوين من شأن هذه المعصية؛ إنما المراد معرفة الميزان الرباني للذنوب كبيرها وصغيرها؛ حيث كبّر الله عز وجل وشنّع على من يوالي الظالمين، وهوَّن وفتَح باب التوبة على من ألمَّ بشيء من المعاصي الصغيرة. فهل موازين كثير من الناس في الذنوب وتفاوتها كذلك..؟

الجواب : لا. حيث يرون الرجل من بطانة الظالمين أو الكافرين الخادم لهم المطيع لكل ما يأمرونه به فلا ينكِرون عليه فعله هذا؛ فضلاً عن أن يهجروه ويقاطعوه؛ بل يتمنى بعض الناس أنه مثله جاهًا ومنصبًا، فهم لا يرون ذلك ذنبًا، وإذا رؤوه معصية فهي هينة في عيونهم ليس كمن يتحرش بامرأة أجنبيه.

وقد ظهر لهذا الاضطراب أمثلة في ظل هذه الأزمة؛ من ذلك أن ترى من بعض الناس مَن يرى في التفريط بالأخذ بالاحترازات المطلوبة من الناس مخالفة شرعية كبيرة، يشنَّع على صاحبها؛ بينما لا يكون مثل هذا التشنيع والانكار في مخالفات صريحة للشرع كالتفريق بين الناس على أساس الوطنية والقوم لا على أساس الدين والعقيدة، وكمن يجالس المنافقين المطبِّلين ولا ينكر عليهم ما يفعلونه من نفاق وتعاون على الإثم والعدوان ولا يرى فيما يفعلونه إثمًا عظيمًا.

دور السلطان في الردع

أثبتت أزمة كورونا بعين اليقين صدق ما قاله محدَّث هذه الأمة وفاروقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «والله ما يزَع الله بسلطان أعظم مما يزع بالقرآن». (6كنز العمال 14284)، ومعنى يزع: أي [يكف ويمنع].

نعم لقد أثبتت أزمة كورونا أن أهل السلطان في بلدان المسلمين بمقدورهم لو أرادوا أن يحْكموا الناس بشريعة الله عز وجل، وبمقدورهم لو أرادوا أن يغلقوا الحانات وأماكن الرذيلة والحفلات الماجنة بقرار و احد، وبمقدورهم لو أرادوا أن يمنعوا الاختلاط المحرم والسفور وأن يلزموا الناس بالحشمة والحجاب كما ألزموهم بلبس الكمامات والتباعد الاجتماعي وإغلاق المحلات، نعم بمقدورهم ذلك كله لأنهم أهل السلطان والقرار والإلزام؛ والله عز وجل يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

في الختام .. وصايا

في ختام هذا المقال يحسن أن أنبه نفسي وإخواني المسلمين الى ثلاث وصايا ينبغي للخطباء والمربين والوعاظ أن يعتنوا بها وأن يكثفو طرحها على الناس؛ لأن من شأنها أن تعالج هذه الاضطراب الحاصل في الموازين.

الوصية الأولى: العناية بمعرفة الأسماء والصفات

العناية الشديدة بتوحيد الأسماء والصفات، وضرورة تعريف الناس بربهم بدايةً من الأولاد والأهل والأقارب وشرح معاني أسماء الله الحسنى، وآثارها في الخلق والأمر، والتعبد لله تعالى بها؛ ولا سيما أسماؤه سبحانه: الحي القيوم العظيم اللطيف العليم الحكيم القاهر الجبار المهيمن الحميد العزيز القدير البر الرؤوف الرحيم.

لأن  معرفة هذه الأسماء وآثارها من شأنه أن يثبت الإيمان في القلوب وتقوى عبادة التوكل والخوف والرجاء والمحبة وتعظيم الله وحرماته وحدوده في القلوب، ويكْمل الانقياد والتسليم. وبفقد هذه العبوديات أو ضعفها تضطرب الموازين ويضعف الإيمان واليقين ويضعف تعظيم الله عز وجل وتعظيم حرماته في القلوب إنها تربط العبد بربه، وأنه سبحانه المتصرف في هذا الكون كله علويِّه وسفليِّه، والخلق جميعًا في قبضته ونواصيهم بيده وهو المدبر لجميع الأمور بعلمه وحكمته وقدرته ورحمته، وأنه لايكون في مُلكه حدَث صغير أو كبير إلا بإذنه وإرادته وعلمه وحكمته.

الوصية الثانية: العناية بمعنى التوكل

العناية ببيان معنى التوكل الصحيح وكيف الجمع بينه وبين الأخذ بالأسباب؛ وذلك ببيان أن الله عز وجل هو وحده الكافي خالق الأسباب ومسببَاتها، وهو العزيز الرحيم الحي الذي لا يموت، ومن سواه يموت وليس بعزيز ولا رحيم.

وهذا العلم ينشأ من معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته المشار إليها في الوصية الأولى.

الوصية الثالثة: العناية ببيان سنة التغيير

العناية الشديدة ببيان سنته سبحانه في التغيير وفي المصائب والأزمات وأن ذلك يتحدد في قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى:30)، وقوله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (السجدة: 21)، وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ (الأنعام: 43)، وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).

والآيات في بيان هذه السُنة العظيمة كثيرة جدًا؛ لذا وجب التنبيه عليها وآثارها؛ ولا سيما في هذه العصور التي غلب على أهلها التفسيرات المادية التي تُبعد الناس عن خالقهم وعن سننه سبحانه فيما يقدّره من أحداث ونوازل؛ وهنا يأتي واجب المربين والخطباء والوعّاظ وغيرهم في بيان هذه الحقائق التي مفادها أنه «ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة».. والحمد لله رب العالمين.

……………………………….

هوامش:

  1. متفق عليه.
  2. رواه أحمد (23164) ، وابن ماجة برقم 3224، والترمذي برقم: 2616، وصححه الألباني لمجموع طرق في السلسلة الصحيحة (3508).
  3. مجموع الفتاوى: 10/ 512.
  4. الدرر السنية 19/ 223، 224.
  5. البخاري (4687) مسلم (2763).
  6. كنز العمال 14284.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة