التجرد لله تعالى مهما كان شاقا على النفس إلا أنه يسمو بها ويريحها من حظوظ النفس الظالمة، ويمنعها من الظلم ويقيمها على طريق العدل والإنصاف. وهذا فوز كبير.
مقدمة
من نعم الله على العبد أن يجعله ممن ينصف، ويضع سيئات الخلق في نصابها وسياقها، ولا ينسيه الوقوع على خطأ سوابق الخير وسياقه.
وهذا يحتاج الى صبر عظيم، وإنصافٍ من النفس، واستعلاء على جنوح النفوس.
وفي سلف الأمة نماذج مضيئة لهذا المأخذ ولسمو نفوسهم وتجردهم وخروجهم من حظوظ النفوس. وما أشق هذا على النفوس..!
نماذج فريدة سامية
إنصاف عائشة
عن عبدالرحمن بن شماشة قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر. قالت: كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه..؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرسٌ ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيرا، ولا غلامٌ إلا أبدل مكانه غلاما، قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أحدثكم ما سمعت من رسول الله؛ إني سمعته يقول: «اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه». (1نزهة الفضلاء: (1/ 327)، والحديث رواه مسلم: (1828))
عقل الشافعي
قال يونس الصدفي: «ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة». (2سير أعلام النبلاء: (10/ 16))
وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فإياك أن تبادره العداوة، وقطع الولاية، فتكون من أزال يقينه بشك، ولكن الْقَهُ وقل له: بلَغَني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلغ.
فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزیدن على ذلك شيئا.
وإن اعترف بذلك، فرأيت له في ذلك وجها لعذر فاقبل منه.
وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجها لعذر، وضاق عليك المسلك، فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار، إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه، والعفو أقرب للتقوى وأبلغ في الكرم، لقول الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى:40].
فإن نازعتك نفسك بالمكافأة، ففكر فيما سبق له لديك من الإحسان، فعدها ثم أبدر له إحسانا بهذه السيئة، ولا تبخسن باقي إحسانه السالف بهذه السيئة، فإن ذلك الظلم بعينه.
یا یونس إذا كان لك صديق فشُدّ يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل». (3صفة الصفوة: (2/ 252، 253))
مأخذ المروزي واتزانه
وقال الذهبي في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: «لو أنَّا کلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له، قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما. واللهُ هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة». (4نزهة الفضلاء: (2/ 1127))
إنصاف الشيخ حمد بن عتيق
رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صِدّیق حسن خان ـ رحمهما الله تعالى ـ وما فيها من العدل والإنصاف والأدب الجم بين أهل العلم ـ وإن اختلفوا ـ وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:
“من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمی “محمد” الملقب “صِدِّيق” زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛ فالموجِب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام، شیَّد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام.
اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة، يقال له “صِدّيق” فنفرح بذلك ونُسَر، لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال..
ثم وصل إلينا کتاب “الحطة” وتحرير الأحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرحا و حمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج علیکم والالتقاط من جواهركم، لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الأهواء..
فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمرا عجيبا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما قرب منه، لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل کلام الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة كذلك؛ فلما نظرنا في ذلك التفسير تبيَّن لنا حسن قصد مُنْشِيه، وسلامة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه وتعالى :﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65].
فالحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعَفة، والله على كل شيء قدير؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس..
فمن العوائق تباعُد الديار وطول المسافات، فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم، وكلهم أعداء قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهّل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه.
ولمّا رأينا ما من الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا تمكنكم من الآلات، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية؛ ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدا تصدى لشرحها، غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك يكن من مكاسب الأجور، وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل قراها شرحها وبيان معناها، وأصلِح في النية ذلك تكن حربا لجميع أهل البدع، فإنها لم تبق طائفة منهم إلا ردت عليها، فهذان مقصدان من بعثها إليك: أحدهما: شرحها، والثاني: الاستعانة بها على الرد على أهل البدع، لأن مثلك يحتاج إلى ذلك، لكونك في زمان الغربة وبلاد الغربة، فإن كنت حريصا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش الإسلامية لابن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم، وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف (1297) هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إلا من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين:
أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت، ويبدل العبارات، حتى يغلب على ظنه الصحة غالبا، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك.
والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضا بلفظه وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تُمعن النظر فيها، ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال وما دخل عليك من ذلك؛ فنقول إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وإذا نظر السُنّي المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد ما قلته وما هو أكثر منه، وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل، مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومُطْلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل، وأنه من ذلك القليل.
وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك.
وأنا اجترأت عليك ـ وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك ـ لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب الاجتماع بأهل العلم، وتحرص على ذلك، وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير، فرجوت أن ذلك عنوان توفيق، جعلك الله كذلك وخيرا من ذلك…
فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحا لله ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان، الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إلا رسومه، وأنا أنتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب…
لا تنسنا من صالح دعائك كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم”. أ.هـ. ملخصا (5رسالة من الشيخ العتيق للشيخ صدیق حسن خان، ينبهه فيها على أخطاء وقعت له في تفسيره)
خاتمة
هكذا كان التلطف والتدرج، وهكذا كان الانصاف وإقامة الحق، فلا يدفهم إقامة الحق لظلم الخلق أو التعدي عليهم أو إغفال حسناتهم، ولم تدفعهم الرغبة في التواصل مع الخلق الى المحاباة في الحق. فأقاموا دين الله ولم ينفّروا النفوس بقدْر طاقتهم؛ وهذا درس بليغ.
……………………
الهوامش:
- نزهة الفضلاء: (1/ 327)، والحديث رواه مسلم: (1828).
- سير أعلام النبلاء: (10/ 16).
- صفة الصفوة: (2/ 252، 253).
- نزهة الفضلاء: (2/ 1127).
- رسالة من الشيخ العتيق للشيخ صدیق حسن خان، ينبهه فيها على أخطاء وقعت له في تفسيره.