جاء هذا الدين؛ فصحح المفاهيم، وفتح للقلب ذوقا وللأرواح أشواقا، وللعقول مفاهيم صحيحة تربط بين المرور الفاني في الدنيا والخلود الأبدي في الآخرة؟

مقدمة

لا يزال معنى الموت والحياة، والانتقال من هذه الدنيا الى الدار الآخرة، سؤالا كبيرا لكل إنسان. فإذا جاءت هذه العقدية الربانية أزاحت الحجب والغفلة عن القلوب والعيون، وجعلت صاحبها قادرا على فهم مغزى وجوده والغاية من خلقه، وبالتالي ظهر هذا على عمله وقوله، ومواقفه ومشاعره.

وإذا حُرم آخر من الهُدى الرباني الكاشف للحقائق والمعلّم للطريق؛ ظل مضطربة موازينه يفوته الخير الكثير، وتتضاءل اهتماماته، ومضى مع الغافلين الخاسرين.

ولهذا نلقي نظرة في هذا المقال على ميزان رب العالمين للموت والحياة، ثم ميزان البشر المختلّ في هذا المجال.

الميزان الإلهي للحياة والموت

قال الله عز وجل: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 122).

وما أحسن ما كتبه الإمام ابن القـــيم، رحمــه الله تعالى، عند هذه الآية؛ حيث قال:

“المراد بها: من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان، فأحياه الرب، تعالى، بروحٍ أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه. وهي روح معـــرفته وتوحيده، ومحبته وعبــــادته وحــده لا شريك له؛ إذ لا حيــاة للــروح إلا بــذلك؛ وإلا فهــي في جملــة الأمــوات.

ولهــذا وصـف الله، تعالى، من عُدِم ذلك بالموت؛ فقال: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾، وقال تعالى: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ الْـمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ (النمل: 80).

وسمَّى وحيه روحاً؛ لِما يحصل به من حياة القلوب والأرواح؛ فقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الشورى: 52)، فأخبر أنه «روح» تحصل به الحياة، وأنه «نور» تحصل به الإضاءة.

وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْـمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ (النحل: 2)، وقال تعالى: ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ﴾ (غافر: 15).

فالوحي حياة الروح، كما أن الروح حياة البدن؛ ولهذا مَنْ فقد هذه الروح فقدْ فقدَ الحياة النافعة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا: فحياته حياة البهائم، وله المعيشة الضنك. وأما في الآخرة: فله جهنم، لا يموت فيها ولا يحيا”. (1مدارك السالكين: 3/259،258)

الحياة والموت في ظلال القرآن

ومــن أحسن ما كُتب عند هذه الآية أيــضاً؛ ما فتــح الله، عز وجل، بــه عــلى سيــد قطب، رحمــه الله تعالى؛ إذ يقول:

“إن هذه العقيدة تُنشئ في القلب حياةً بعد الموت، وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات؛ حياة يعيد بها تذوَّق كل شيء، وتصوّر كل شيء، وتقدير كل شيء بحسٍّ آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبدُ من قبل قط لذلك القلب الذي نوَّره الإيمان.

إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب؛ فهو موت.

وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله؛ فهو موت. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية؛ فهو موت.

والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة.. فهو حياة.

إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع؛ فهو ظُلمة. وختم على الجوارح والمشاعر؛ فهو ظلمة. وتيه في التيه وضلال؛ فهو ظلمة.

وإن الإيمان تفتُّح ورؤية، وإدراك واستقامة؛ فهو نور بكل مقومات النور.

إن الكفر انكماش وتحجر؛ فهو ضيق. وشرود عن الطريق الفطري الميسر؛ فهو عسر. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن؛ فهو قلق.

وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود.

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛ فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس.

تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر. مشهد السُّنَّة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر، ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة، ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً.

ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فيجد الوضوح في كل شأن، وفي كل أمر، وفي كل حدث.

يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركـته، ويجـــد الوضـــوح فيما يجري حوله ـ سواء كان ذلك مــن سنــة الله النـــافذة، أو مــن أعمـال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة..! ـ ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله؛ كأنه يقرأ من كتاب!

﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾. (الأنعام: 122)

كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين؛ قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف؛ كانت قلوبهم مواتاً، وكانت أرواحهم ظلاماً؛ ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبَد، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد؛ الإنسان المتحرر المستنير، الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد.

أفمن نفخ الله في روحه الحياة، وأفاض على قلبه النور؛ كمن حاله أنه في الظلمات، لا مخرج له منها؟

إنهما عالَمان مختلفان شتان بينهما شتان! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض؟”. (2في ظلال القرآن: 3/ 1201،1200)

معانٍ سامية تحت الميزان الإلهي

ومــن خـــلال النقلين السابقين في معنى قوله عز وجل: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾… الآية؛ يتضح لنا الميزان الإلهي الحق لحقيقة الموت والحياة.

وأن “الحياة” الحقيقية إنما هي حياة القلب بالإيمان والهدى.

وأن “موته” الحقيقي إنما هو بالكفر والنفاق، و”مرضه” بالمعاصي والسيئات، ولو كان محسوباً على الأحياء والأصحاء في أبدانهم.

ويندرج تحت هذا الميزان معانٍ سامية وثمار يانعة؛ من أهمها:

أولاً: سعادة القلب واطمئنانه

وأنسه وطيب عيش صاحبه في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِـحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. (النحل: 97)

وقال، سبحانه: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾. (الجاثية: 21)

ثانياً: سعي المؤمن لإحياء قلبه

وهو سعي منطلق من هذا الميزان الإلهي إلى الأخذ بكل ما يحيي القلب والروح ويزيد في الإيمان؛ من العلم النافع، والعمل الصالح، وبعده عن كل ما يميت القلب ويمرضه على الحقيقة.

ميزان البشر للحياة والموت

بمعرفة الميزان الإلهي لحقيقة الحياة والموت يتبيَّن لــنا ما يضاده من موازين البشر المعوجة القاصرة، والتي من أهم سماتها ما يلي:

أولاً: عدم اعتبار موت وحياة القلب

لا تضع هذه الموازين اعتباراً لموت القلب وحياته الحقيقيين، اللذين سبق ذكرهما في الميزان الإلهي؛ ومن ثم فإن أصحاب هذه الموازين لا يحفلون إلا بما يُحيي أبدانهم، ويصححها من الطعام والشراب والدواء؛ فهي همُّهم الأكبر، ولا يبالون بما يصيب قلوبهم وأرواحهم من أمراض الشبهات والشهوات التي تطبع عليهــا، وقــد تميتهــا وهــم لا يشعرون.

ويذكر الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، بعض علامات لأصحاب القلوب المريضة أو الميتة، فيقول:

“وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها؛ بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته..!

وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألَّم بورود القبيح عليه، وتألَّم بجهله بالحق بحسب حياته. وما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ.

وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها؛ فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء؛ فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس، وليس لها أنفع منه.

وتارةً يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عــزمــه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره؛ كمن دخل في طريق مخوف مفضٍ إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن.

فهو محتاج إلى قوة صبر، وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق، ولم يتحمَّل مشقتها، ولا سيما إن عدم الرفيق، واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة.

وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم؛ فالبصير الصادق لا يستوحش من قلــة الرفيــق، ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرَّعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً؛ فتفرُّد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب». (3إغاثة اللهفان، 1/ 69،68)

ثانياً: مدحهم لأهل الدنيا

ينظر أصحاب هذه الموازين إلى بعض أهل النفاق وأهل الدنيا الحاذقين في كسب الأموال على أنهم أذكياء وأصحاب قلوب حية، ولو كانوا ما كانوا في دينهم وأخلاقهم، ويسمونهم بأهل العقل المعيشي.

ثالثاً: لا يهمهم أمر الدين والأخلاق

أصحاب هذه الموازين لا يهمهم أمر الدين والأخلاق، ولا يتأثرون بفشو المنكرات، في الوقت الذي يتمعَّرون فيه ويتألمون إذا أصيبت دنياهم بشيء، وقد وصفهم ابن القيم، رحمه الله تعالى، بقوله:

“وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمَت لهم مآكلهم ورياساتهم؛ فلا مبالاة بما جرى على الدين.

ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذَّل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاث.

وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقْت الله لهم؛ قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليّة تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل”. (4أعلام الموقعين: 2/ 165،164)

رابعاً: الغفلة عما يُحيي القلوب

أصحاب هذه الموازين في غفلة عن كل ما يُحيي قلوبهم من نور العلم والهداية بهدي الكتاب والسنة وأخبار سلف الأمة؛ فهم في جهل كبير بهذا العلم وأهله؛ بينما تراهم على علم ودراية بعلوم الحياة الدنيا والعلوم المادية التي تترف بها أجسامهم؛ كما وصفهم الله عز وجل:

﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلاَّ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى﴾ (النجم: 29 – 30)

خامساً: البعد عن ذكر رب العالمين

أهل هذه الموازين أبعد ما يكونون عن ذكر الله، عز وجل، واللهج بدعائه وحمده وتسبيحه، وكل ما فيه حياة القلوب وشفاؤها.

سادساً: الغفلة عن طلب نعيم الآخرة

أهـــل هــذه الموازين في غفلة عن الحياة الحقيقية والنعيــم الأبــدي فــي الآخرة، وغيــر مستعــدين ولا عاملين له.

وإنمـــا علمهم وهمُّهم بهذه الدنيا الفانية؛ كما قال، عز وجل، في وصفهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾. (الروم: 7)

خاتمة

تلك حياة القلوب، لا يهبها الله تعالى إلا نعمة منه. والمحروم من حُرم.

فعلى المؤمن الحثيث عنها، والقلق من تخلفها أو ضعفها؛ فإنما حياتنا الحقيقية القادمة مرهونة بها.

…………………………………………………….

الهوامش:

  1. مدارك السالكين: 3/ 259،258.
  2. في ظلال القرآن:  3/ 1201،1200.
  3. إغاثة اللهفان، 1/ 69،68.
  4. أعلام الموقعين: 2/ 165،164.
  • اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة