لا تتحقق العبادة بمجرد التنسك والذبح والنذر. بل أيضا بالمحبة والطاعة في التشريع. وتتحقق عبادة الشيطان بطاعته في الشرك بأنواعه.
مفهوم العبادة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فما أعظم نعم الله عز وجل التي لا تُحصى على عباده! وإن أعظم النعم وأجزلها نعمة العبودية له وحده، والتحرر من عبادة ما سواه من بشر، أو حجر، أو جانّ، أو شجر، أو قانون وشريعة تضاهي الشرع المطهر.
إن مفهوم العبادة في الإسلام أشمل وأعم من كونها صرْف شيء من الشعائر التعبدية لغير الله تعالى؛ كالذبح والنذر والركوع والسجود والاستغاثة..الخ فحسب.
وإنما هي كما عرّفها أهل العلم بأنها غاية الحب مع غاية الذل والانقياد. فمن صرف عامة حبه وغاية طاعته لغير الله فقد اتخذه شريكاً ونداً مع الله عز وجل. وبهذا المعنى يتسع مفهوم العبادة من كونها أعمال وحركات الى أنها تشمل الحب والتذلل لغير الله عز وجل وإعطائه حق الطاعة المطلقة لكل ما يُقرَر ويُشرع.
وبهذا المفهوم الشرعي لحقيقة العبودية فإنه يجب تجاوز الفهم السائد عند كثير من الناس الذين يقْصُرون الشرك في العبادة على السجود والركوع والذبح والنذر ونحوها لغير الله، إلى كونها الطاعة والمحبة المطلقة لغير الله المساوية لمحبة رب العالمين وطاعته أو أشد؛ كما قال سبحانه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾ [آل عمران:165] وقال سبحانه عن الطاعة المطلقة لغير الله تعالى وكونها شركاً: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام:121] أي إن أطعتم المشركين في تشريعهم ما لم يأذن به الله في التحليل والتحريم فقد أشركتموهم آلهة مع الله عز وجل.
بم تتحقق عبادة الشيطان؟
وبناء على ما سبق؛ فإن عبادة الشيطان ليست جديدة؛ فوقوع الناس في الشرك بالله من قديم الزمان؛ ولكن الجديد في ظاهرة ما يسمى بعبَدة الشيطان هو اتخاذهم الشيطان إلهاً في رمز أو صورة معينة يتوجهون إليها بالدعاء والركوع والسجود وغير ذلك من العبادات الجسدية والعقلية. وهذه العبادة بهذا الوصف جديدة مصادمة للفطرة ومرفوضة من الجميع، إلا من انتكست فطرته. أما عبادة الشيطان من غير تصوير أو ترميز له وذلك بطاعته والانقياد لما يوحي به من الكفر والتشريع والتحليل والتحريم فهذا نوع من عبادة الشيطان يقع فيه الكثير من الناس قديماً وحديثاً ومنهم بعض المنتسبين إلى الإسلام؛ وهذا النوع من عبادة الشيطان هو المذكور في أكثر من موطن من كتاب الله عز وجل فلنتدبرها:
الآية الأولى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [ابراهيم:22].
الشاهد من هذه الآية أن الشيطان قد سَمى استجابة أتباعه وطاعتهم له شركاً وعبادة له وذلك من قوله: ﴿بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ أي أنه فسَّر عبادتهم له بما شرع لهم من عبادة الأوثان والتحليل والتحريم. ومعلوم أنهم لم يتخذوا الشيطان صنماً يصلون له ويدعون وينذرون.
الآية الثانية: قوله تعالى في ذكر دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا﴾ [مريم:44]، ومعلوم أن والد إبراهيم لم يتوجه إلى الشيطان بالعبادة المباشرة بركوع أو سجود أو ذبح أو نذر وإنما المعنى (لا تطع الشيطان) فيما شرع وزيَّن من عبادة غير الله تعالى.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس:60]، ومعلوم أن معنى ﴿أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ ليس عبادته والتوجه إليه مباشرة بالصلاة والنذر والذبح؛ وإنما المقصود عبادة الطاعة والاتباع فيكون معنى الآية “أن لا تطيعوا الشيطان” في تشريع من لم يأذن به الله من الشرك؛ سواء كان في النسك أو التحليل والتحريم أو غير ذلك من أنواع الشرك.
معنى “الشيطان” عند الإطلاق
والشيطان عندما يطلَق فإنه يتوجه إلى شيطان الجن إبليس وذريته، ومع ذلك فإن شياطين الإنس تدخل في مسمى الشياطين؛ بدليل قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:112].
فمن أطاع أحداً من شياطين الجن والإنس في شرع ما لم يأذن به الله من أنواع الشرك المختلفة؛ سواء كان الشرك في النسك، أو كان في التحليل والتحريم، أو كان في الولاء والمحبة والتعظيم؛ فقد عبده من دون الله.
وإن تفسير العبادة بالطاعة والانقياد لَتشتد الحاجة إليه في زماننا اليوم الذي ظهر فيه طواغيت تشرع من دون الله وتحلل وتحرم، فمن أطاعهم في ذلك عالماً مختاراً فقد عبدهم من دون الله.
قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ.. ﴾ الآية. روى الترمذي في صحيحه أن عديّاً ابن حاتم رضي الله عنه قال للرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما سمعه يتلو هذه الآية «يا رسول الله ما عبدناهم، فقال صلى الله عليه وسلم «ألم يكونوا يحرموا عليكم الحلال فتحرمونه ويحلوا لكم الحرام فتحلونه قال بلى. فقال صلى الله عليه وسلم تلك عبادتكم إياهم». (1أخرجه الترمذي (3095))
اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الذين يعبدونك وحدك لا شريك لك.
………………………….
الهوامش:
- أخرجه الترمذي (3095).