من ملامح القيادة النبوية أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يقزّم شخصيات أصحابه رضي الله عنهم، لم تكن الأضواء مسلّطة عليه وحدة في السيرة، رغم الهوة العظيمة بينه وبينهم. ولذلك وجدناهم يبرزون في حياته فيكون لهم شأنهم ورأيهم و”شعبيّتهم” إن جاز التعبير على تنوّعهم، ولم يكن الأمر مقتصرا على اثنين أو ثلاثة، بل على العشرات من القيادات البارزة ذات الشأن و”الكاريزما” بلغة اليوم، دون أن تهدّد هذه الشخصية القيادية العالية لكلّ منهم وحدة الجماعة، بل كانت عنصر قوة لها ضمن استمراريّتها.

قوة الأمة بقوة الرجال القياديين

وحين انتقل إلى جوار ربّه صلوات الله وسلامه عليه، لم تنكسر الحركة الكبرى التي أسّسها في المدينة، بل بقيت رغم حروب الردّة صامدةً بقوة، ثم سرعان ما انطلقتْ إلى سائر البلدان فتحًا ونشرًا للهداية. بل حتى حين قُتل ثلاثة من القيادات الأربع الأبرز، لم يكن ذلك ليفتّ في عضد الجماعة، بل حافظت على وجودها وهويّتها وشريعتها واستمرّت في الانطلاق إلى سائر البلدان فتحًا وتمكينًا للدين.

لم تتفكّك الجماعة، ولم تنكفئ على أزمات داخلية ولا على فراغ داخلي أدّى إلى توقّف الانطلاق ولعق الجراح، وهو ما يدلّ على قوة هذه الأمة بقوة الرجال القياديين الذين ربّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم. ولا بدّ أن تُدرَّس التربية النبوية للقيادة جيّدا، خصوصا ونحن نرى حركات إسلامية اليوم من مختلف التوجّهات، تضع الثقل في شخصية واحدة، وتتسلّط الأضواء الإعلامية عليها وحدها، بل تكاد تُنسب إليها الإنجازات وحدها، ونادرا ما تتجاوزها إلى شخصية أخرى معها، بل عادة ما يكون مَن حولها رجال بلا كاريزما ولا ملامح قيادية، مما يجعل قطف رأس هذه الشخصية ضربة مزلزلة للجماعة، تربك حركتها وتدفعها إلى التخبّط!

لا بدّ لأيّ عمل إسلامي من تعدد بناء القيادات، وتوزيع هذه القيادة وفقًا لجوانب التخصص والمهارة المختلفة. و”الزعيم” الذي يخاف من نموّ القيادات الأخرى فيسعى إلى عزلها بمختلف الطرق لا يعمل لقضية سامية بقدر ما يعمل لذاته ولتحقيق مطامحه الشخصية!

العمل المؤسسي يضمن الاستمرارية

ولا بدّ من العمل المؤسسي الذي يضمن الاستمرارية حتى في حالات فقدان القيادات. ولقد كان حبّ الله تعالى وحبّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم والولاء للإسلام والمسلمين واتّباع الشريعة مع وجود “الجماعة” القوية التي تراقب السلطة وتكبح جماحها وتُرشّد حركتها بمنزلة “المؤسسة” في العهد الراشد، فهي التي جعلت ذلك الجيل الفريد يميّز بين “الأشخاص” و”القضية”، وهو درس أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: “ألا من كان يعبد محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم فإنّ محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت”.

وهو قبل ذلك درس القرآن الخالد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144).

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

من فقه الدعوة .. قائد ، وأمة

كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1) تحديد الهوية ومنع الالتباس

مقومات تعليم يحرر الأمة

التعليقات غير متاحة