إن الفضل يرجع في التمسك بالحق والعقيدة الإسلامية والتضحية بالأنفس إلى أولئك الأبطال الشجعان الأوفياء لعقيدتهم ودينهم وهم الذين حضروا في بداية معركة التوحيد مع الشرك حين تغلب الحق على الباطل بقوة العقيدة الصحيحة والإخلاص في العمل ونصر الله المبين فتولى الشرك مهزوما مدحورا وفي هذا العبرة للمعتبرين.

أبطال قصة الكفاح الديني والعقائدي ومصباح تاريخنا الإسلامي

إنهم جماعة من المستضعفين والمعذبين الذين عاشوا في فترة طغى فيها كل جبار عنيف من ملك قوي نزع الإيمان بالله من قلبه كما نزعت منه الرحمة والعطف على خلق الله، كـ (النمروذ) مع خليل الرحمن (إبراهيم) عليه السلام في التاريخ القديم وإبراهيم هو إمام الموحدين والمسلمين، وأبو الأنبياء والمرسلين كما قال ربنا في كتابه العزيز، مظهرا فضل خليله إبراهيم وملته الحنيفية (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) وكموسى مع الطاغية (فرعون) وكرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه مع كفار قريش الجهلة الأشداء عباد الأوثان قساة القلوب، فقد ألحقوا بالمؤمنين الموحدين الكثير من العذاب الذي لا يحتمل ولا يطاق، ولكن أولئك الضعفاء تلقوه بقوة العقيدة في الله والصبر الجميل حتى مكنوا دين الله إلى من يعبد الله وحده ممن كانوا في زمانهم وإلى من جاء من بعدهم وغرسوا شجرة التوحيد في التربة الصالحة في أرض من سبقت لهم في علم الله السعادة والنجاة من الضلال، فنمت وترعرعت وآتت أكلها بإذن ربها فماتوا وتركوا سيرتهم الطيبة مثالا يحتذى لمن يأتي من بعدهم كي يسيروا في حياتهم على ضوئها ويكونوا مع ظالمي زمانهم كما كانوا هم مع الظالمين في أيامهم، وكأصحاب الأخدود في القديم من التاريخ، وكأبي بكر وبلال وصهيب وغيرهم من أمثالهم رحمهم الله جميعا ورضي عنهم وعن مواقفهم وألحقنا بهم ونحن ثابتون على عقيدتنا غير مبدلين ولا مغيرين.

فأمثالهم موجودون في كل زمان ومكان إلى الآن لكن لا يمكن استيعابهم جميعا وما أذكره هنا كاف في الاعتبار والاتباع لمن رزقه الله حسن الاقتداء، ومن كان أهلا للعمل بما يرضي الله ورسوله وصالح المؤمنين فلهؤلاء أشباه ونظائر فيما مضى من الزمن وربما فيما يأتي – أيضا – إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

أبطال أيدوا الحق وأنصاره وخذلوا الباطل وأعوانه

فالفضل يرجع في التمسك بالحق والعقيدة الإسلامية والتضحية بالأنفس إلى أولئك الأبطال الشجعان الأوفياء لعقيدتهم ودينهم وهم الذين حضروا في بداية معركة التوحيد مع الشرك حين تغلب الحق على الباطل بقوة العقيدة الصحيحة والإخلاص في العمل ونصر الله المبين فتولى الشرك مهزوما مدحورا وفي هذا العبرة للمعتبرين.

فهم حقيقة أبطال قصة الكفاح الديني والعقائدي ومصباح تاريخنا الإسلامي الذي يجب علينا أن لا ننساه أبد الآبدين.

وها نحن نشرع – مستعينين بالله وقوته – في تقديم هذه (العينات) البشرية ذات القوة الروحية التي غذاها إيمان كامل بالخالق، ووعده الصادق فكانوا إلى جانب من وفقوا فوقفوا في صف واحد لتأييد الحق وأنصاره وخذلان الباطل وأعوانه.

سيدنا إبراهيم خليل الرحمن

أول أولئك الأبطال إبراهيم خليل الرحمن ورسول الله إلى عباده بشريعة الإسلام شريعة التوحيد والإخلاص لله في كل الطاعات والعبادات، ونبذ الشرك وعبادة المخلوق كيفما كان هذا المخلوق، عبدا من عباد الله ملكا، أو شجرا أو حجرا، أو غير ذلك من الكواكب وغيرها، مما كان يعبد في الزمن القديم، واسم إبراهيم ينبئ بما في قلبه من معاني الشفقة والرحمة لذلك كان أهلا لاختيار الله له لتحمل عبء الرسالة ومواجهة المشركين بالدعوة إلى عبادة الله وحده في زمن كان ملكه وحاكم بلده طاغية من الطغاة ادعى الألوهية جهلا وغرورا بحقيقة نفسه ودعا الناس إلى عبادته .

ثناء الله على خليله إبراهيم

وكان ثناء الله على خليله إبراهيم ثناء يناسب مقامه عنده، جاء ذلك في كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: (إن إبراهيم لأواه حليم) وقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) وهذا مدح وثناء من الله على إبراهيم وقد علم الله أنه أهل لقيادة أمته والسير بها في طريق السلامة والنجاة، وهي طريق التوحيد الخالص فكان عليه أن يخلصها من رجس الوثنية وعبادة المخلوق وهو الدين الذي كان عليه أهل زمانه وأمته في عبادتهم لملكهم (نمروذ) إذ قد حمله الرسالة، وفيها الدعوة إلى توحيد الله في العبادة والطاعة، وفي هذا قال الله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال ينال عهدي الظالمين).

النمرود وادعائه للألوهية

وكان هذا الجبار ادعى الألوهية بعد أن استحوذ على عقول بني قومه بالقوة والجبروت حتى أخضعهم وطوعهم لسلطانه فأقروا له بالطاعة والألوهية – مرغمين – على أنه معبودهم ومالكهم وأرزاقهم بيده .

وكان ملكهم المعبود (نمروذ) بن كنعان مستوليا عليهم وقابضا على ناصيتهم بيد من حديد إذ هو جبار شديد البطش بهم وحاكم فيهم بأمره وهواه، أمرهم بعبادته وطاعته والخضوع له، من غير أن ينازعه في هذا منازع، وذلك لما يقدمه لهم من وسائل العيش ومادته والراحة لهم وأرزاقهم كأنه هو الذي خلقها وأوجدها من العدم، حتى يمن عليهم بها، وهذا هو سبيل الطغاة والظالمين في كل زمان ومكان.

حجج سيدنا إبراهيم عليه السلام

كان إبراهيم قوى الحجة مع أبيه وقومه ومع ملكهم أيضا، فأرانا القرآن كيف كانت حجته مع الملك حين حاجه بالدليل والإقناع لا بالقوة والظلم، كما فعل معه الملك، لما عجز عن الحجة، إذ أبهته إبراهيم وأعجزه عن الجواب العقلي المقنع، حين دعاه إليه ليريه قوته وجبروته وظلمه، فقال له من هذا الإله الذي تدعو الناس إليه وإلى عبادته؟ وهل تعرف ربا وإلها غيري هو أولى بالعبادة والطاعة والخضوع مني؟ فأجابه إبراهيم عليه السلام، بأن الإله الحق والمعبود بالصدق هو الله الواحد الأحد الذي لا إله للخلق غيره، ولا معبود سواه، هذا هو جواب إبراهيم عليه السلام وهو جواب المؤمن الموحد، فهو غير خائف منه، لأنه مخلوق مثله، فادعاؤه الألوهية زور وبهتان فبين له عجزه وكذبه فيما ادعاه، نتأمل هذا في قوله عز وجل: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)، الآية 258 من سورة البقرة.

فإبراهيم عليه السلام تارة يحاج أباه وتارة قومه وأخرى ملكهم الجبار، كل هذا ليظهر لهم ضلالهم وكفرهم وعجز معبوداتهم وتقليدهم لآبائهم بلا دليل لهم عليه إلا التقليد لهم فإبراهيم إمام الموحدين – عليه السلام، يحاج أباه وقومه ويريهم الدليل على وحدانية الله إذ هو الإله المعبود بالحق ويظهر لهم عجز معبوداتهم حين خوفوه بمعبوداتهم الباطلة والعاجزة عن أن تلحق الضر بأحد فقال حسبما ذكره الله في القرآن: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).

يا له من حجاج بليغ، وحجة دامغة يوجهها خليل الرحمن لقومه المشركين الجاهلين، فأظهر لهم أنه لا يخاف معبوداتهم العاجزة، لأنها لا تستطيع أن تحدث شيئا إلا ما أراده الله المعبود بالحق فهو وحده المستقل بالضر والنفع وكان الأجدر بالخوف أن يكون منهم لأنهم عصوا رب الناس الذي بيده كل شيء فهذا هو كلام المؤمن بالله الذي احتوى قلبه على عقيدة التوحيد القوية وهي التي تصير صاحبها ثابتا عليها لا يرهب أحدا ولا يداهن مخلوقا ولا يتملق عاجزا مثله ولا يخاف إلا ممن بيده أرواح البشر وأرزاقهم وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمن الموحد لربه، وإذا لم يكن هكذا كان كاذبا في دعواه الإيمان بالله وحده الذي لا شريك له.

إبراهيم -عليه السلام- ينكر على قومه عبادة الأصنام

(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا * يا أبتي إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا).

بهذا الأسلوب في المخاطبة، يواجه خليل الرحمن أباه في رقة عبارة ولطف خطاب فيه نوع من الاستعطاف بلا قسوة ولا غلظة وهو يعلم أنه على الحق وأن أباه وقومه على الباطل حتى إذا لم يستجب إليه أحد من قومه – بمن فيهم أبوه – تنصل منهم وتبرأ من أعمالهم العالقة للفطرة وتمسك بما وصل إليه تفكيره من توحيد الله وترك ما سواه كما قص علينا القرآن هذا حين شرح للمؤمنين موقف إبراهيم ومن كان معه من المؤمنين فقد تبرأوا من كل مشرك حتى من الوالدين وجاهروهم بالعداوة من أجل العقيدة الصحيحة وفي سبيلها حيث طلب منا القرآن التأسي والاقتداء بخليل الرحمن ومن كان معه من المؤمنين ونبذ الكافرين والعصاة وعدم الاهتمام بهم، ولو كانوا من أقرب الناس إلينا فليكن حبنا واحترامنا مبنيا على أساس ما توجبه علينا العقيدة الصحيحة بلا مجاملة ولا احترام، هذا ما جاء في قوله تعالى: (قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) الآية 4 من سورة الممتحنة.

الأمر بذبح الولد الوحيد

أما ما ابتلي به إبراهيم من أجل عقيدته فذلك مثل رائع، كاد يكون فريدا في بابه وذلك في قوة العقيدة التي تستجيب لأوامر ربها وتمتثل له ولما يطلبه منها خالقها وأي بلاء أو ابتلاء وامتحان أشد وأقسى من الأمر بذبح الولد الوحيد في زمنه فذلك حين أمره الله بذبح ولده (إسماعيل) الوحيد الذي رزقه وهو في العقد التاسع من عمره، ذلك ما جاء في قوله تعالى: (فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معهم السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) .

فثبت إبراهيم عليه السلام في هذا الامتحان، وخرج من هذه المحنة فائزا منتصرا لقوة عقيدته وطاعته لربه.

عزمهم على إحراقه

واستمر خليل الرحمن على نهج الدعوة إلى الله فلم يفتر أو يضعف أو يرهب أحدا من خلق الله، يدعو إلى الله في الطرقات والمشاهد والمجتمعات العامة والخاصة إلى أن أقض مضاجع المشركين وعلى رأسهم ملكهم (نمروذ) بجنده وقوته، ولما أعياهم أمره تآمروا على إعدامه وإراحة مجتمعهم المشرك منه ومن دعوته واتفقوا على إحراقه بالنار لما عجزوا عن محاربته ومحاجته بما يقبله العقل السليم، من البرهان والدليل وهذا السلاح كثيرا ما يلتجئ إليه الأقوياء بقوة الباطل، الذين تنقصهم الحجة والدليل، فيميلون إلى قتلهم، والقوة سلاح العاجز عن المجابهة والمقاومة بالحجة والدليل ومع هذا فلم تغنهم فتيلا ولم تنصر باطلهم على حق رسول الله إبراهيم فقد ثبت الحق وانتصر بقوة الحق وانهزم الباطل واندحر بسلاح الباطل وحده.

خليل الرحمن يلقى في النار من أجل عقيدته

فقد أجمع المشركون على قتل إبراهيم وإحراقه بالنار بعد أن جمعوا – من أجل هذا – حطبا كثيرا، وأوقدوا فيه النار وألقوا فيها خليل الرحمن غير أن الله نجاه منها ومن حرها وإحراقها، وأبطل كيدهم، وخيب مكرهم قال الله تعالى في ذلك: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) سورة الأنبياء.

بهذا الأسلوب من القمع والزجر وإخفات صوت الحق والدعوة إلى الله، حاول هذا الطاغية وجماعته أن يقضوا على عقيدة التوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده وهذا شأن الظالمين في كل زمان ومكان من قديم الزمان إلى يومنا هذا، والناس يعيشون في عالم تغيرت فيه كل معالم القرون الوسطى، تلك القرون الغابرة التي ذهبت وتركت وراءها ذكريات سوداء تعود لنا منها – بين الحين والآخر – بعض الأمثلة من تلك الصور والوقائع التي كانت سائدة في تلك العصور التعسة، من خنق لأصوات الحق وقهر للعباد، وإذلالهم وجعلهم يومئون ويؤمنون – يقولون آمين – بكل ما يأمرهم به الطغاة والظلمة، ويصادقون عليه – بلا تصفيق – ولكن هيهات أن يصلوا إلى ما أرادوه هيهات!!! وفي الماضي عبرة بالغة لمن له قلب يعي ويدرك الأمور على حقيقتها فلا تفكروا في العودة إلى مثلها أيها الطغاة الظلمة أينما كنتم.

فإن نمروذ إبراهيم وفرعون موسى – موجودان في كل وقت ولهم أشباه وأمثال من أمثال (النمرود وفرعون) – سعوا بكل قواهم كي يصدوا الناس عن اتباع أمثال ذينك الرسولين الكريمين على الله – وعن الدعوة إلى الله – ويجعلوهم طائعين لهم دون غيرهم فيما يبدو لهم ويحلو في ذوقهم ولو كان قبيحا ومرا في واقع الناس أجمعين – فلم يفلحوا – فكما لم يوفق الله الظالمين لنجاح مسعاهم وخيبهم في ذلك الزمان السحيق، فكذلك سيؤول أمر جباري هذا العصر إلى ما هو أتعس وأخيب من أولئك الغابرين.

نجاة إبراهيم -عليه السلام- من النار

إن الله لم يبلغ هذين الظالمين ما أراداه فثار الضعفاء في وجهيهما وأبوا عليهما دعوتهما الباطلة وردوها عليهما وذلك بقيادة هذين الرسولين فضربا المثل الصادق لكل حر يريد أن يحرر نفسه من سيطرة الطغاة القساة الظالمين، فإن النمروذ وقومه لما عجزوا عن محاجة إبراهيم بالحجة التي يقبلها العقل السليم لجأوا إلى القوة التي هي سلاح العاجز للتغلب على الخصم الذي غلبهم بقوة الحجة، التي يقبلها العقل ويرضاها حكما في النزاع فأجمعوا أمرهم على إحراقه بالنار والتخلص من دعوته التي أفسدت عليهم شركهم وأبطلت عليهم باطلهم غير أن الله الذي خلق إبراهيم عليه السلام وهداه إلى الحق وطريق الرشاد في صغره وأرسله رسولا في كبره إلى عباده ليطهر قلوبهم من عقيدة الشرك والخرافات والبغي – كان في عونه على تبليغ دعوته ونصره على خصومه المشركين بمن فيهم ملكهم وغيره فأحبط مسعاهم وأفسد عملهم وأضل كيدهم فباؤوا بالخيبة والخسران ونجا رسوله وخليله إبراهيم عليه السلام وخلد قصته في القرآن فبقيت تتلى على مدى الأزمان لتكون موعظة وعبرة للمغرورين أمثالهم ذلك كما قال تعالى في الآية السابقة الذكر من عزم القوم وملكهم على إحراقه بالنار للتخلص منه ومن دعوته كي يصفو لهم الميدان ويبقى لهم وحده حتى يعلو باطلهم على حق الله ودعوة رسوله كما تقدم في تصوير القرآن لحالهم في قول الله عز وجل، جل شأنه وعظم سلطانه وغلبت قدرته كل مخلوق (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين).

القوة والقهر أدوات الظالمين لمحاربة الحق

هكذا يلجأ الظالمون – دوما – إلى القوة والقهر وإخماد شعلة الحق وإطفاء نور الله لينصروا باطلهم على حق الله في زعمهم ولكن محال ما حاولوه فقد رد الله كيدهم إلى نحورهم وأفسد تدبيرهم حين أججوا له نارا عظيمة، جمعوا لها حطبا جزلا، وأكثروا منه كأنهم يريدون شيء عشرات الجمال أو مئات الأبقار والثيران كل هذا الاستعداد العظيم من أجل رجل واحد وما دروا أن من ورائه قوة الله تحميه من كل سوء، ثم رموه بالمنجنيق، من مكان شاسع، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) سورة آل عمران الآية 173.

قال بعض السلف، جعل الله فيها بردا يدفع حرها وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه لا تؤذيه، وقال كعب وقتادة لم تحرق من إبراهيم إلا وثاقه، فأقام في النار مدة قيل أنها سبعة أيام وقيل أكثر لم يقدر أحد أن يقرب منها، ثم جاءوا إليها بعد ما خمودها فإذا هو قائم يصلي.

أما الظالم (نمرود) فإنه اتخذ صرحا عاليا – لينجو من حرها ولهيبها كما مر – وليشاهد من بعيد عملية الإلقاء والإحراق وليشفي غيظه من الداعي إلى الله، ترى ماذا كان بعد هذا الاستعداد العظيم من أجل تحريق واحد من البشر؟؟ حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد حدث بعد كل هذه المحاولات الفاشلة أن الله أفسد عملهم وأبطل محاولتهم تحريقه بالنار لكي يبقى إبراهيم داعيا عباد الله إلى توحيد الله وعبادته وحده، وترك الشرك والضلال وعبادة المخلوق للمخلوق ومقارعة الحجة بالحجة لا بالقوة والاحتيال.

محاجته لقومه المشركين

وكان تحطيم إبراهيم لأصنام قومه المشركين وقولهم: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين) كان هذا حين رجع القوم من الحفل الذي كانوا فيه، وهو الاحتفال بعيدهم الذي خرجوا إليه وطلبوا من إبراهيم أن يخرج معهم ويشاركهم فيه فأبى واعتذر ولم يخرج معهم وتخلف عنهم ليحطم أوثانهم التي أضلتهم وصرفتهم عبادتها عن عبادة الله وحده وعبادة الله وحده هي العبادة الواجبة عليهم وعلى غيرهم من الناس أما عبادة الأوثان فهي عبادة باطلة.

بذلك الإيمان القوي واجه إبراهيم الخليل عليه السلام عداوة قومه وأهله المشركين، وواجههم بقوله: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فه يهديني والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) سورة الشعراء من الآية 75 إلى الآية 83.

وتحمل منهم كل ما أصابه من عذاب وإهانة وتحريق وغيرها، وذلك كله في سبيل الله وفي سبيل عقيدة التوحيد، العقيدة الصحيحة التي لا ظلم فيها لأحد، ولم يصرفه عن دعوته ما رآه من قومه المشركين قساة القلوب وحتى من أبيه الذي كان يقسو عليه ويعامله بما لم يقع – عادة – من الوالد لولده من العطف والرحمة والشفقة.

أثر الإيمان الراسخ في موقف إبراهيم عليه السلام

هذا هو الإيمان القوي الذي يجعل المؤمن لا يخاف المخلوق وقوته وجبروته وبطشه، ولا يخاف إلا الله، هكذا كان موقف إبراهيم فهو لم يخف إلا الله الذي أمره بتبليغ دينه وإظهاره بين خلقه ودعوة عباد الله إليه ولم يكترث بما أصابه ويصيبه في طريقه من عقبات وتهديدات ومحاولات، وقد قال الله لرسوليه – موسى وأخيه هارون – حين أرسلهما إلى فرعون (إنني معكما أسمع وأرى). وقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) ذلك أن النصر من الله وقد وعد به عباده المؤمنين الثابتين على عقيدتهم الذين لم يغيروها ولم يبدلوها لإرضاء فلان الحاكم أو فلان الغني، فإن الحق أحق أن يتبع وقد نصر الله خليله ورسوله إبراهيم عليه السلام، وأبطل كيد القوم ومكرهم، والله جل شأنه، وعظم سلطانه، قال في أمثال هذه المواقف لتأييد أنصار دينه في كل زمان ومكان: (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم وقومهم أجمعين) سورة النمل وقال: (إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا * فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) سورة الطارق وقال (وأملي لهم إن كيدي متين) سورة الأعراف وقال ها هنا: (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) سورة الأنبياء الآية 70 حيث أراد ملكهم نمروذ وأصحابه أن يمكروا بإبراهيم ويبطلوا دعوته إلى الله، فجعلهم الله هم الخاسرين في أعالهم ومحاولاتهم، وجعل خليله هو الرابح الذي خرج من هذا الامتحان والمعركة فائزا منتصرا ورد الله مكرهم في نحورهم حين سلط عليهم أضعف مخلوقاته وهو البعوض كما ذكره المفسرون.

العبرة في هلاك الظالمين

هذه نهاية الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان تختم حياتهم بأسوإ حالات الموت ليكونوا عبرة وموعظة للغافلين عن قدرة الواحد القهار، فإنهم كانوا إذا أحسوا شيء من القدرة والقوة بتسلطهم على الضعفاء من خلق الله وخضع لهم هؤلاء الضعفاء غرتهم أنفسهم الدنيئة فظلموا عباد الله ونسوا الخالق العليم القوي، وظنوا أنهم بمنجاة من قبضته، حتى تحين ساعتهم التي قدرها لهم (إن الله يمهل ولا يهمل) فإذا جاءت ساعتهم لا ينفعهم جند ولا حصون ولا قوة مهما عظمت، ولا أحذق وأمهر أطباء العالم أجمع، ولو أحضروا معهم أحدث الأجهزة الطبية وأصناف الأدوية، فلا يرد ذلك ما قدره الله، قال الله تعالى: (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) من الآية 4 من سورة نوح عليه السلام، وقال: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) هكذا قال الله الخالق الرزاق الواحد القهار في القرآن فأين ذهبت عقول العباد؟؟؟ ولا حول ولا قوة تقف أمام قوة الله فالنمروذ مات ببعوضة وفرعون مات غرقا في البحر وفي هذين عبرة لمن كان له قلب يفكر ويفهم ولمن أراد أن يعتبر من العباد المغرورين – وما أكثرهم – كم هو درس بليغ وفصيح للناس أجمعين.

فالقوة والأمر والحكم لله وحده وهو رب العالمين.

المصدر

كتاب: “في سبيل العقيدة الإسلامية” عبد اللطيف بن علي بن أحمد بن محمد السلطاني القنطري الجزائري، ص43-75.

اقرأ أيضا

ملة إبراهيم التي من رغب عنها، فقد سفه نفسه!

نماذج من صفات إبراهيم ـ عليه السلام ـ الدعوية

إبراهيم وإسماعيل إذ يجسدان معنى التسليم

إبراهيم وآل إبراهيم…دروس وعبر (1-2)

إبراهيم وآل إبراهيم…دروس وعبر (2-2) في يوم عرفة

التعليقات غير متاحة