لاستبانة سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين ثمرات خير ودوافع للحركة وامتناع من الخديعة، ومحفزات للصبر يحصلها من امتثل أمر الله تعالى.
مقدمة
في المقال السابق (بيان الحق وتعرية الباطل .. سبيل المؤمنين) أوضحنا المأخذ الرباني في عدم الاكتفاء ببيان الحق؛ حتى يُظهر تعالى الباطل ويعريه ويُسقط حججه ويبين دوافعه وآلاته، وكما أوضح معالمه واوصافه؛ تحذيرا لعباده ودفعا لهم لمعرفة قيمة الحق وشناعة الباطل.
وهنا نتتبع بعضا مما أشار اليه أهل العلم من حكمة الله تعالى في هذا البيان..
من مقاصد العلم بسبيل المجرمين وثماره
أولًا: معرفة أحقاد نفوس المجرمين
في العلم بسبيل المجرمين معرفة بما يُكنّونه من حقد دفين وعداوة مستحكمة في قلوبهم على المؤمنين، وقد حذَّرَنا الله عز وجل من ذلك في آيات كثيرة من كتابه الشريف. كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 119، 120].
وكقوله سبحانه: ﴿كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً﴾ [التوبة: 8].
ومثل هذه العداوة لا تخفى على مسلم يتدبر كتاب ربه سبحانه، ولكن الذي قد يخفى على كثير من المسلمين ـ ومنهم بعض الدعاة والمجاهدين ـ تلك الأساليب الماكرة، والتضليل الممنهَج، والحرب الإعلامية المُلبِّسة، ولاسيما في واقعنا المعاصر، مما قد ينخدع بها بعض السُّذَّج من المسلمين.
فلذا وجب العناية بهذا العلم لكي نحذر من هذه الحرب المضللة الماكرة فلا ننخدع بها، ونحذر الناس من أن ينخدعوا بها.
ثانيًا: ترسيخ الولاء والبراء
في العلم بسبيل المجرمين وحقيقة مكرهم وحقدهم تأكيد وترسيخ لعقيدة الولاء والبراء في قلب المسلم؛ ذلك أن معرفة خطط الأعداء ومكرهم على المسلمين يُنشئ في القلب بغضهم وعداوتهم والبراءة من كفرهم وأعمالهم.
ثالثًا: محبة وتقدير سبيل المؤمنين
في العلم بسبيل المجرمين وما فيه من الإجرام والمكر والكيد والفساد ينشئ في القلب محبة لسبيل المؤمنين، وتعلقًا به، وزيادة القوة في الارتباط به ونشاطًا في الدعوة إليه، لأنه عند المقارنة بين السبيلين يتبين حُسن سبيل المؤمنين وموافقته للفطرة والعقل؛ في الوقت الذي يتبين فيه سوء سبيل المجرمين وخبثه وفساده؛ فيزداد المؤمن معرفة لسبيل المؤمنين ويزداد تمسكًا به وفرحًا به ودعوة إليه، وكما يقول المثل “والضد يُظهر حسنَه الضدُ”، وبضدها تتميز الأشياء.
وصدق عمر رضي الله عنه حينما قال: «إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية».
رابعًا: تعرية الباطل
في معرفة سبيل المجرمين ومكرهم تعرية لباطلهم، وكشف لتلبيساتهم التي يمارسونها على الناس، وتعريف الناس بأساليبهم في الإفساد وخياناتهم للأمة في ضرورياتها الخمس (الدين والنفس والعقل والمال والعرض). وأن من حكمة الله عز وجل في تصريفه وتفصيله للآيات والأحداث بيان حقيقة سبيل المجرمين وفضح رموزه وحملته ومنابره.
خامسًا: قوة الانتماء للحق ومحاربة الباطل
في معرفة سبيل المجرمين وحقيقة عداوتهم للمسلمين إنشاء وتقوية لشعور الانتماء للحق، وموالاة أهله والصبر على ذلك كله، وقوة الاندفاع لمحاربة الباطل وأهله؛ لأن قوة الاندفاع بالحق في معترك الصراع لا تنشأ فقط من إحساس صاحب الحق أنه على الحق، ولكن لا بد كذلك من الإحساس العميق بأن الذي يحاربه هو الباطل، الذي يمثل سبيل المجرمين، وأيُّ غبش أو ضبابية في الحكم على العدو بهذا الحكم يُنشئ نوعًا من الارتباك في الحركة بالحق.
سادسًا: إظهار هشاشة الباطل
في العلم بسبيل المجرمين من الداخل إظهار واكتشاف لهشاشة البناء الجاهلي. وأن ما يقوم به المجرمون في إعلامهم المضلل من تهويل قوّته واقتصاده واستخباراته، إن هي إلا حرب نفسية ودعاية كاذبة، يريدون منها إرهاب النفوس الضعيفة، لتُفقِدها قوة الدفع نحو الجهاد، وأن الجهل بحقيقة المجرمين وسبيلهم هو الذي يولِّد الانهزام، ويعوق الانطلاق في المسار الصحيح للعمل الإسلامي..
إذ لو استقر في نفوس الدعاة والمجاهدين أن عوامل الضعف والانهيار عند الباطل كامنة في أصل كيانه، وأن في الحق من القوة الذاتية ما يجعله أهلًا لِأَنْ يعلو ولا يُعلى عليه، لتحررت النفوس من قيود الخوف، التي تقتل الإرادة. (1انظر مقال “ولتستبين سبيل المجرمين” سيف الدين الأنصاري)
سابعًا: استنهاض هِمم المسلمين
في الاستبانة لسبيل المجرمين وكيدهم وعداوتهم استنهاض لهمم المسلمين، ونفض غبار النوم والاسترخاء والسذاجة، التي عشعشت في كثير من أوساط المسلمين، وذلك حينما يتبين لهم سبيل المجرمين وحقيقة كيدهم ومكرهم وعداوتهم، فتزداد جذوة الكُرْه للمجرمين، وتقوّى جذوة الجهاد والدفع والصراع معهم.
ثامـنا: معرفة نفسيات المجرمين ودوافع حقدهم
ومـن فـوائد استبـانة سبيـل المـجرمين معرفة نفسياتهم التي ينطلقون منها، ولماذا هذا الحقد الشديد والتدمير، الذي يمارسونه على المسلمين في سجونهم وبلدانهم.
وقد أشار الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله تعالى ـ إلى حقيقة نفسية هؤلاء الكفرة المجرمين:
“وأنها أعتى نفسية مرت على وجه التاريخ، بل هي اقتبست معالمها من نفسية الشيطان، ذلك أنه لما رأى نفسه قد حكم الله تعالى عليه الخلود في جهنم؛ فإنه طلب من الله تعالى أن يمهله إلى نهاية الدنيا، حتى يفتن كثيرًا من الناس فيذهب بهم معه إلى جهنم، فإنه نقم على الناس طهرهم وعفافهم وإيمانهم.
وكذا المجرمون فإنهم ينقمون على الناس إسلامهم، حيث يرى نفسه قد ضعف أمام الشهوة، إما شهوة المال أو شهوة المنصب، أو شهوة النساء، فيرى نفسه حقيرًا ذليلًا، وهو يرى أمامه شابًّا مسلمًا قد ترَّفع عن هذه الشهوات وضربها بقدمه، واستمسك بدينه، فينقم عليه هذه الفضيلة، ويستصغر نفسه أمامه، فبدل أن يئوب إلى رشده، ويهتدي إلى رحمة الله، فإنه لنفسه الخبيثة يحقد على هذا الشاب، لأنه يذكّره بضعفه وعجزه.. ولذلك عندما تسمع أو تقرأ هذه القصص الحقيقية من تعذيب الكفار والمرتدين للمسلمين تكاد لهولها أن تدخل في عالم الخيال والخرافات؛ لأن هذا النوع من البشر ليس له مثيل في الظلم والكفر والعدوان”. (2عن كتاب ردة ولا أبا بكر لها (بتصريف يسير))
خاتمة
هذا بعض من الغايات والحِكَم الحميدة لهذا الأمر الإلهي والمأخذ الذي أمرَنا الله تعالى وجري عليه كتابه المنزَّل.
وهذا بعض ما علمنا، ولكن عند الله تعالى كمال ما شرع لأجله هذا المأخذ.
ولكن الخيرات مما شرع الله تعالى لا تنقضي فالخير في الإمتثال والفهم عن رب العالمين، والحمد لله تعالى.
……………………………
هوامش:
- انظر مقال “ولتستبين سبيل المجرمين”. سيف الدين الأنصاري.
- عن كتاب ردة ولا أبا بكر لها (بتصريف يسير).